اخر الاخبار

في كل عام، يحمل أذار لشعبنا عدداً من الأعياد، ففي الفاتح منه نقف تبجيلاً للمعلمين، وفي الثامن منه نوقد شموع الفرح للنساء حتى ينتزعن حقوقهن في الحرية والمساواة، وفي أوسطه ننحني للتضحيات الغوالي التي أقدم عليها العراقيون، بكل أطيافهم ورؤاهم، في انتفاضة 1991 الباسلة، وفي الحادي والعشرين منه نحتفي بملحمة كاوه الحداد وشموس الكرد التي لن تغيب. وقبل أن يستكمل الشهر جذوة العشق ورونق البهجة يحل علينا ربيع الحركة الوطنية، الذي عبّد بدماء نسائه ورجاله درب الناس نحو غد من ياسمين، وباتت شعاراته وأهدافه وأناشيده مشاعل صدق وجرأة للعراقيين، من أجل وطن حرّ وخال من حلكة الاستغلال والظلم والتمييز، إنه عيد الحزب الشيوعي العراقي.

قبل أيام انطلقت الاحتفالات بالذكرى التسعين لميلاد الحزب، لميلاد الفتى الذي لا يشيخ. متثاقف من معارفي وصف كلماتي هذه بالتعبير المجازي المشبع بالعاطفة والرومانسية الثورية، فاضطررت أن أصحح له الأمر بهدوء، إذ لم يك قولي سوى استنتاج دقيق تكشفه قراءة موضوعية لتاريخ هذا الحزب وحاضره واستشراف محايد لمستقبله.

إن عودة لعشرينيات القرن الماضي، حيث كانت البداية التي تم توثيقها رسمياً في 31 أذار 1934، ستثبت لنا بأن سر تبني أولئك العمال شبه الأميين والفلاحين المعدمين والنساء والرجال البسطاء للشيوعية، ما كان نتاجاً لقراءات في رأس المال وأنتي دوهرينغ، بل جاء لاتساق تلكم الأفكار مع حاجاتهم ومصالحهم، إلى الحد الذي استوطنت فيه أفئدتهم وعقولهم وجعلتها صلدة في مواجهة قسوة قل مثيلها، ومكّنتهم من التواصل، لاسيما في ساعات المحن.

قبل سنوات تعرفت على رفيق عامل من أحفاد الرواد، لم يقرأ سطراً لماركس ولم يعرف أين تقع موسكو ولا كان بإمكانه أن يتهجى اسم ليبكنخت، لكنه كان فخوراً بعشقه الصوفي للفكرة، بعد أن أدرك بأنه يتقاسم مع الملايين من الكادحين في العالم، الإحساس بالظلم الطبقي، ويدرك تماماً بأن سبيل خلاصه يكمن في الوفاء للراية التي يرفعها، ولهذا ذاد عنها بدمه في بشتآشان.

حين سمعت باستشهاده، سألت نفسي عن مصدر العناد الثوري لدى هذا الرجل، ومئات الآلاف من رفاقه، الذين صمدوا على مدى تسعة عقود، دون أن تتسلل أشواك الريبة لوعيهم أو يحجب القمع عنهم الرؤى أو يفتقدون للتوازن في وحشة الطريق الطويل، وهم ممن يفتقدون للتعليم والصحة والسكن اللائق والرفاهية، ولا تتسع معارفهم لتقدير ما يجري ضدهم في دوائر العولمة المتوحشة أو في مستنقعات اتباعهم المحليين. وجاءت الإجابة بسيطة كالحقيقة، فذاك العناد نتاج لإدراك حاجة هؤلاء وبلادهم للحزب، وهو ما دفعهم لأن يغرسوه في قلب العراق، وأن يديموا شجرته وارفة وبهيّة، مما جعل اقتلاعه من عوالم تلك الروح أمراً عصياً.

وهكذا بقي الحزب فتىً بهم، رغم السنين والمحن، يجدد كفاحه في الشكل والمضمون، مبرراً ثقة شعبنا وشغيلتنا به، برفاقه أصحاب التاريخ الوطني الناصع والأيادي البيضاء، ممن لم يسفكوا دماً ولم يحوسموا مالاً ولم يرفلوا بعطايا الغرباء.

بقي الحزب فتىً لا يشيخ وهي يعلي الهوية الوطنية فيعيد اليها ألقها، ينّقي ساحة الحوار الوطني من الريبة والقلق والتشّظي، ويوقد شموع التحديث لتطرد طواطم التجهيل والظلمة، يعيد الأمل للعراقيين بقيمة كفاحهم للاستفادة من ثروات وطنهم وإعادة توزيع مردوداتها بطريقة منصفة.

بقي الحزب فتىً في التسعين، وهو يؤسس للوحدة عقداً من الاختيار لا من الامتثال.

بقي الحزب فتى لا يشيخ، لأنه المؤتمن على إعادة بهاء العراق المفتقد، وعلى خلاصه من الأسى ليكون لإبنائه متكاً ًوظلا.

عرض مقالات: