- هل ما زلتم تحلمون بالشيوعية في ظل التطور الهائل للذكاء الاصطناعي؟
سؤال وجهه لي أحد الأعدقاء، ممن يعتمرون قبعة الفهيم المُشفق على الشيوعيين "المتمسكين بفكرةٍ أكل عليها الدهر ولم يشرب"، وممن يحسنون التظاهر بالحرص على أُناسٍ "واهمين"، رغم سريرتهم النقية وأياديهم البيضاء. وكان لابد من الإجابة على التساؤل، رغم ما يستبطنه من خبث، ليس دفاعاً عن حزب، تفرّد في النضال من أجل حرية الوطن وسعادة الشعب فحسب، بل وبحثاً عن الجديد في عالم باتت سرعة تغيّره تُغشي البصر حيناً وتُعمي بصيرة البعض في آحايين أخر.
لقد أعتبر اليساريون الذكاء الاصطناعي هبّة التطور وأقوى أداة لإعادة رسم خريطة الاقتصاد والمجتمع، فسعّوا لتجسير العلاقة بينه وبين أفكارهم، وفق ركائز محددة كفائض القيمة، وملكية وسائل الإنتاج، والصراع الطبقي، وهيمنة المراكز الرأسمالية على دول الأطراف التابعة.
إنهم رأوا بأن الأتمتة التي يجلبها الذكاء الاصطناعي، والتي تُستخدم اليوم لزيادة الأرباح من خلال رفع الإنتاج وتقليل التكاليف، يمكن أن تُستخدم لتحرير الشغيلة من الجهد المرهق وتقليص ساعات العمل وزيادة أوقات الراحة وإعادة توزيع الثروة بما يحقق العدالة الاجتماعية، أي جعل الشعار الاشتراكي (من كلٍ حسب قدرته، ولكلٍ حسب حاجته) أمراً واقعياً. كما بات ممكناً به، معالجة التحدي التقليدي المتعلق بالسلبيات الناجمة عن التخطيط المركزي، كصعوبة التعرف على أولويات الأفراد وما يفضلونه من منتجات، وسبل توظيف مواهب كل منهم بأقصى قدر من الإنتاجية والإبداع، وهو ما تدعي الرأسمالية قدرتها على تحقيقه عبر فوضى السوق، لأن الذكاء الاصطناعي يجعل التخطيط المركزي أكثر كفاءة ومرونة في تلبية احتياجات المجتمع، عبر تشفير البيانات وتحليلها وتنظيمها واتاحتها للجميع وتفعيلها للتنبؤ بالاحتياجات وتوجيه الإنتاج والتوزيع بكفاءة أعلى. ويجد اليساريون في الذكاء الاصطناعي أيضاً، أداة تيّسر بناء شبكات تضامن أممية وتزيد من القدرة على التواصل بينهم وتعزز من تعاونهم لخلق فرص الانتقال إلى نظام اقتصادي أكثر عدالة.
ولأنهم لا يرون فيه أداة محايدة طبقياً وجغرافياً، يرفض اليساريون سيطرة البرجوازية عليه، والتي تعني رفع معدلات الإنتاج غير المستند إلى الحاجة، وتدميراً أكبر للموارد وللبيئة، وتوسيعاً للمضاربات المالية، وتكثيفاً للقمع، وتقوية لنفوذ الرأسمال مقابل العمل، وزيادة بالتفاوت الطبقي والتمييز الجنسي والأثني، وبالتالي مزيداً من الاستغلال وضياع فرص العمل، وتركيزاً للثروة والسلطة لدى شركات العولمة المتوحشة، وتعميقاً لسيطرتها على قطاع التكنولوجيا، ولإقامتها حواجز أكثر وأوسع إضراراً بالمشاركة الديمقراطية داخل كل مجتمع وبين شعوب الأرض. ولهذا يدعو اليساريون إلى السيطرة على السلطة كي يؤنسن استخدام الذكاء الاصطناعي وينجح ما يمكن تسميته بالمجتمع الاشتراكي كامل الأتمتة، ويدعون لبناء أمميات رقمية في مواجهة الرأسمالية المهيمنة على العالم الرقمي، وللنضال من أجل دمقرطة التكنولوجيا وتحريرها من سيطرة رأس المال، وبالتالي تحرير الاقتصاد من منطق الربح.
ورغم التباين في تقييم مدى استفادة اليسار من الذكاء الاصطناعي، بين من يراها استفادة ضعيفة وبين المقتنعين بسرعة تطورها، بعث تقريرُ نشره مركز دراسات السياسات، للنيوزيلندي ديفيد روزادو، الأملَ قوياً، حين أشار إلى أن 80 في المائة من استخدامات ChatGPT تعود لمشتركين يساريين وإن 79 في المائة من المستخدمين كانوا أكثر إيجابية للأفكار التقدمية، وإن هناك تحيزًا يساريًا واضحاً عند معالجة القضايا الاجتماعية كالإسكان وتوزيع الثروة، والقضايا السياسية كالحريات والسلام وقضايا البيئة كالطاقة المتجددة والاحتباس الحراري، فيما عبّر 71 في المائة من مستخدمي الذكاء عن دعمهم لليسار مقابل قيام 15 في المائة منهم بدعم اليمين.