اخر الاخبار

معلوم أن شبكة تصريف المياه في بغداد قد شُيّدت على أنظمة قديمة، بعضها يعتمد النظام المنفصل، والبعض الآخر على النظام الموحد. الأول يُفترض فيه أن يُفصل بين مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي، لكن الواقع يُظهر غير ذلك؛ فالتداخل بين النوعين حاصل بشكل متكرر، ما يؤدي إلى تصريف ملوثات خطرة إلى مجرى نهر دجلة. أما النظام الموحد، فمصيبته أعظم. فحين تهطل الأمطار، تفيض الشبكة، وتختلط مياه الأمطار بالمياه السوداء (الصرف الصحي) ثم تُلقى كما هي، دون معالجة، في قلب دجلة وعلى جانبي الكرخ والرصافة.

من يقف اليوم على شاطئ دجلة في قلب بغداد، لا يحتاج إلى مختبرات ليفهم حجم الكارثة. الرائحة الكريهة المنبعثة من الماء كافية لتكون صفعة توعوية. اللون المائل للسواد، الزَبَد الطافي، والأسماك النافقة، كلها شواهد على إهمال كارثي وممنهج. هذا النهر الذي تغنّى به الشعراء كرمزٍ للحياة والحضارة، بات ضحية للإهمال المزمن والقرارات البيروقراطية الغائبة عن الحس البيئي والإنساني.

أتذكر جيداً أنه في عام 2006 عندما غرقت ناقلة نفط في قناة خور الزبير على مشارف ميناء أم قصر، وتسبّب الحادث في تسرب كميات كبيرة من النفط إلى المياه. الضجة التي أثيرت حينها كانت كبيرة، لكن هل تعلّمنا من الدرس؟ يبدو أننا ننسى بسرعة، أو نتناسى.

أين وزارة البيئة من كل هذا؟ أين مجلس محافظة بغداد؟ أين أمانة العاصمة؟ هل أصبح دجلة مجرد مجرى لتصريف نفاياتنا اليومية؟ وهل أصبح الاعتياد على الكارثة تبريراً لتركها تستفحل دون رادع؟

هاك مثالاً حيّاً: تُعدّ مدينة الطب، أحد أبرز الصروح الصحية في العاصمة، من المصادر المباشرة لتصريف المياه الملوثة إلى دجلة. هذه المياه ليست عادية، بل تحتوي على مواد كيميائية ثقيلة مثل الزنك والرصاص، وهي مواد سامة لا تزول بالتبخر، بل تتراكم في التربة والماء والكائنات الحية، بما في ذلك الأسماك التي قد تصل إلى موائدنا. فأين الحماية لأطفالنا أولاً، ولحيواناتنا التي ترتوي من هذا النهر ثانياً؟ أليس من المفترض أن تكون الجهات الرقابية حارساً على صحة الأجيال القادمة؟

دراسات علمية عديدة، بعضها محلي وبعضها صادر عن منظمات دولية، حذرت مراراً من أن مستويات التلوث في دجلة وصلت إلى حدّ الخطر الداهم على الصحة العامة. بكتيريا، فيروسات، معادن ثقيلة، مبيدات، ومخلفات صناعية، كلها تُلقى في النهر بشكل يومي، دون معالجة كافية أو حتى متابعة جدية. عدد من الأحياء السكنية تفرغ مياهها الثقيلة مباشرة في مجرى النهر، وبعض المصانع لا تكلف نفسها حتى إنشاء محطات أولية لمعالجة نفاياتها.

الوضع لم يعد يحتمل المزيد من الصمت. ما يحدث ليس فقط تلوثاً بيئياً، بل جريمة بحق الذاكرة المائية لبغداد، وبحق أبنائها الذين يستحقون هواءً وماءً نظيفين. نهر دجلة لا يحتاج إلى خطابات، بل إلى خطط، إلى جرأة في المواجهة، وإلى من يُدرك أن الحياة لا تستقيم إذا سُمم ماؤها.