اخر الاخبار

في الأزمنة التي تنهب فيها المدن من داخل مؤسساتها، يصبح الحديث عن الأشجار سياسياً، بل وجودياً. لا تعني الأشجار مجرد ظل في شارع صيفي أو ديكوراً طبيعياً يزيّن الرصيف، بل هي نَفَس المدينة، ذاكرتها الحيّة، وكينونتها المعنوية. وما يجري في بغداد اليوم من قلعٍ مبرمجٍ ومستمر للأشجار تحت مبررات إدارية أو بيئية لا يمكن عزله عن سياق أكبر: تفكيك المدينة ككيان حيّ، وخصخصة فضاءاتها العامة على مراحل.

في محلة 333 بمدينة الشعب، تم قَطْع نصف متنزه عام وبُنيت مكانه محالّ تجارية، بينما تم تقسيم الأرض خلفها إلى قطع صغيرة وبيعها. هذا ليس " تطويراً عمرانياً "، بل انقضاض على الأملاك العامة، حيث تحوّل المتنزه من مكان للعب الأطفال وتنزّه العائلات إلى مشروع خاص، لا يستفيد منه سوى القلّة، فيما يُقصى أهالي الحي من حقهم في المكان.

وتكرر المشهد ذاته في موقع آخر: مسبح النادي العربي الذي أُهمل حتى أفلس، ليُستبدل لاحقاً بثلاثين محلًا تجارياً. هنا أيضاً، لا يمكن تجاهل طابع التفكيك الممنهج للمنشآت الرياضية والثقافية التي كانت جزءاً من البنية الاجتماعية لبغداد. فالمؤسسات التي بنيت لخدمة المجتمع، تُحوّل بهدوء إلى أدوات للربح السريع، بلا أي تخطيط حضري حقيقي، وبلا احترام لذاكرة المدينة وساكنيها.

أما ما يُقال عن "دودة العارضة" بالعامية « دودة الإرضّه» وضرورة قلع الأشجار المصابة، فهو حيلة مكشوفة كجزء من الفساد الإداري.. نعم، هذه الحشرة موجودة، لكنها لا تبرّر اقتلاع جذوع عمرها عشرات السنين. كان يمكن رش المبيدات، أو تقليم الأغصان المصابة، لا اجتثاث الشجرة من جذورها. ما يُراد هو إخلاء الشارع من الحياة لتهيئته لمشاريع غير معلنة، غالباً ذات طابع تجاري، كاستخدام حطب المسكوف!

الأخطر من كل هذا، هو الحديث المتكرر عن بناء منازل وعمارات بدون رخص قانونية، أو عبر إجازات وهمية، مقابل "مساومات" تبدأ من خمسة ملايين دينار وتصل إلى خمسة وعشرين مليوناً. هذه ليست مخالفات فردية، بل نظام فساد منظم، تُشارك فيه أطراف من داخل البلدية نفسها. ما ينتج عن ذلك ليس فقط فوضى عمرانية، بل تشويه للنسيج الاجتماعي، واختناق للفراغات العامة، واختفاء تدريجي لما تبقى من ملامح المدينة. إنّ ما يحدث في بغداد ليس مجرد إهمال إداري. إنه هدم بطيء للمدينة ككائن حيّ. في كل شجرة تُقلع، يُقتل جزء من الروح العامة. في كل متنزه يُباع، يُسلب المواطنون حقّهم في الفسحة والتنفس. وفي كل مشروع غير قانوني يُمرر، يُرسَّخ الإحساس بأن المدينة لم تعُد لهم، بل لمن يملك النفوذ والمال.

بغداد اليوم لا تنزف فقط بسبب الأمن أو الفقر، بل لأنها تُفرغ من مضمونها، من أشجارها، من أرصفتها، ومن أمكنتها المشتركة. هذه ليست خسارة بيئية فحسب، بل خسارة أخلاقية وثقافية. فالمدينة التي تُباع على قطع، لا تعود وطناً، بل تصير سلعة. وأهلها، لا يعودون مواطنين، بل زبائن في مزاد مفتوح.

 هل يا ترى هناك رقابة فعلية من الجهات البرلمانية، أم أن لجنة النزاهة نفسها قد أصبحت ظلًّا باهتاً لما يفترض أن تكون عليه؟ من يحاسب من، إذا كانت الأشجار ترجمة قتل في وضح النهار، والمساحات العامة تقسّم وتباع بلا خجل؟ وهل سيبقى اقتلاع الظل وبيع المدينة شأناً عاديّاً لا يهزّ ضمير أحد؟!