في البصرة، مدينة النفط والماء والتاريخ، بات الناس يشربون من ماء لا يصلح حتى لغسل الصحون، بل إن بعض السكان يؤكدون أن الحيوانات تنفر منه. ماء أصفر، كريه الرائحة، محمّل بالرمل والحصى، وبعضه ينبعث منه عفن مجارٍ أو ملوحة البحر. أهذه حياة؟ أم عقوبة جماعية في زمن السلام والثراء النفطي؟
الأزمة ليست جديدة، لكن الجديد هو مستوى الصمت، وسرعة الانحدار، واللامبالاة من قبل من يُفترض أنهم منتخبون لخدمة الشعب. مجلس محافظة البصرة لا نسمع منه حتى "كلمة"! لا بيان، لا اعتراف، لا خطة. صمٌّ بكمٌ في وجه واحدة من أكبر كوارث التلوث المائي في البلاد. ما يحدث ليس قضاءً وقدراً، بل نتيجة تراكمات إدارية فاشلة، وتجاهل رسمي ممنهج. من المسؤول عن إيصال ماء غير صالح حتى للحيوانات إلى بيوت الآدميين؟ من يجرؤ على شرب هذا الماء؟ وأين تقارير الفحص والتحليل؟ ولماذا لا توجد رقابة شعبية مستقلة على نوعية المياه؟ لماذا لا يُفسح المجال لجهات علمية محايدة – سواء جامعات أو منظمات دولية – لفحص الحقيقة كاملة؟ من غير المقبول أن تبقى هذه الكارثة بلا محاسبة. حتى لو كان قانون الانتخابات معيباً، فإن من وصل عبر صناديق الاقتراع ثم صمت أمام تسمم الناس يجب أن يُسأل ويُحاسب. هل هذا هو ثمن الديمقراطية؟ ماء ملوث بصمت ممثلي الشعب؟ إننا نطالب بتشكيل لجان شعبية مستقلة، تشارك فيها منظمات المجتمع المدني، لمراقبة وتحليل جودة المياه بشكل مستمر، ونشر النتائج للرأي العام. كما نطالب بتفعيل دور القضاء في محاسبة كل مسؤول أهمل أو تستر أو استهان بحياة الناس. والأهم، يجب أن يتوقف نفوذ العشائر والمتنفذين الذين يعرقلون الإصلاح، ويسيطرون على شبكات الماء أو يتدخلون في إدارات الخدمات. فالحياة لا تُدار بالولاءات ولا بالألقاب، بل بالعلم والمهنية والضمير.
البصرة تختنق، تموت عطشاً، وتتحلل في صمت. لكن أهلها لن يصمتوا إلى الأبد. إذا لم تتحرك الدولة، فسيتحرك الشارع. وإذا استمر الاستهتار، فسيكتب التاريخ أن الماء في أغنى مدن العراق تحوّل إلى رمز للذل، لا للكرامة!