اخر الاخبار

ما الذي يمكن أن تكتبه في ذكرى ثورة 14 تموز؟ وهل هناك حاجة للمزيد؟ سؤال يواجهني كل عام حين تقترب المناسبة، وكل مرة أجد له في واقع الحال جوابا، فسماء تلك المأثرة التي اجترحها شعبنا بعماله وفلاحيه وجنوده ومثقفيه، تبقى سخيةً في الكشف عما تختزنه من قناديل، لعل من أهمها، قدرة العامل الذاتي، على إيصال الصراع الطبقي لعلياء الثورة، إذا ما فُعّلت مفاتيحه عند احتدام التناقضات داخل البنية الاقتصادية والاجتماعية.

لقد شكّل 14 تموز بحق مفتتحاً للثورة الوطنية الديمقراطية، مذ حرر البلاد من المستعمر وأحلافه العسكرية وكسر الهيمنة الإمبريالية عليها وهشّم البنية الإقطاعية في الريف وطوّر الإنتاج الصناعي وعزز دور الرأسمال الوطني وأعاد توزيع الثروة عبر توفير الخدمات المجانية في التعليم والرعاية الصحية، وعبر زيادة الأجور وبناء المساكن الشعبية والتحكم بالغلاء، إضافة إلى الخطوات التي قُطعت على طريق التحرر الاقتصادي وعرقنة الثروة النفطية وبناء قاعدة اقتصادية أكثر استقلالاً عن النظام الرأسمالي العالمي. كما تخلصت البلاد به من التناقض الأساسي بين الدولة ومكوناتها الاجتماعية، والمتمثل باحتكار الأقلية للسلطة السياسية، بعد تغليفها بديمقراطية صورية مستندة لهيمنة أجنبية. وبالتالي كان بديهياً، أن يتخذ شعبنا من هذا اليوم، الذي حقق له الحرية والعدالة والوحدة لأول مرة في تاريخه، عيده الوطني.

غير أن كل هذه المنجزات، لم تك كافية لصيانة المسار وبلوغ عليائه، ولا حتى لمنع حفنة معزولة من شذاذ الآفاق من ذبح الثورة أمام أنظار أغلبية صامتة، بقيت مشلولة الإرادة وكأن على رأسها طير من الخوف أو اللامبالاة أو الخيبة العميقة.

وكي نجد تفسيراً مفيداً لما جرى، لا بد من أن نمرر السماء الصافية في غربال الحياة، كما قال إيلوار، لنجد فشلاً في إقامة شرعية للحكم على أساس المواطنة، وتغييباً للقوى السياسية الرئيسية الممثلة للعراقيين، عن المشاركة في إدارة الدولة، وتصاعداً فجاً في تأثيرات الفكر القوماني العربي المثقل بانقلابيته والكردي المتطرف باغترابه، ونزوعاً نرجسياً لدى عساكر، أوهمها إعجاب الجماهير بما قامت به القوات المسلحة، ويساراً تشتّت رؤاه، ووهنت فيه وحدة الإرادة والعمل، فتلكأ عن قيادة حركة جماهيرية طامحة بقوة لمواصلة تطبيق برنامج الثورة حتى نهايته وقطع الطريق على محاولات النكوص عن ذلك.

ومن غربال الحياة هذا، سنجد تحالفاً برجوازياً صغيراً، يتناسى التحول نحو نظام حكم ديمقراطي مؤسساتي، حتى حين أدى عشقه للسلطة للإضرار بنجاحاته، كتراجع الإصلاح الزراعي وتوقف رسملة الريف ومنع قيام مؤسسات ديمقراطية جماهيرية وتشديد التناقض بين الإنجازات التقدمية وبين تبني المركزية الشديدة وتعمق عزلة النظام عن المجتمع مجدداً، لحد تيسّر عنده سقوطه التراجيدي. ولعل خير تشخيص لهذا المآل قد جاء في بيان حزبنا الشيوعي (8 تموز 1962) الذي انتقد قمع الحقوق والحريات ودعا لصيانة الاستقلال الوطني وحل أزمة كردستان حلاً سلمياً ديمقراطياً وانتخاب مجلس تأسيسي وإقرار دستور دائم.

وكما أرانا غربال الحياة بأن المنجزات العظيمة لحكومة 14 تموز قد محت الكثير من أخطائها قبل أن تتحول لخطايا، فإنه بقيّ ينبهنا إلى أن تشخيص الحلقة المركزية لنضال اليسار، على أهميته الاستثنائية، لن يكون فاعلاً الاّ إذا ما اقترن بخطط عملية وميدانية، توطّد الوحدة وتستّنهض المفاصل التنظيمية وتمتّن التحامها بالناس، وتدقق في طبيعة الحلفاء الذين يستحقون التضامن والثقة، وتضاعف اليقظة عند السراء قبل الضراء، ولا تتساهل في قضية الحريات والشكل الديمقراطي الذي ينظمها مهما كانت الظروف.

للذكرى المجد، ولشهداء الثورة الأبرار، شارة الخلود في ضمير العراق.