اندلع حريق مول الكوت مساء الأربعاء 17 تموز، في واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية التي عرفتها المدينة. وبينما كانت العائلات تمضي وقتها في التسوّق داخل أحد أكبر الهايبر ماركتات، التهمت النيران المكان فجأة، لتحصد أرواح 69 شخصاً – وربما أكثر. لكن الحريق لم يكن صدمة عشوائية، بل نتيجة حتمية لمسار طويل من الإهمال والتغاضي. فمشهد الجثث المتفحّمة، ومحاولات التعرف على هويات الضحايا عبر فحوصات الـDNA، لم يعد غريباً على العراقيين، بل صار مكرّراً، وموزّعاً جغرافياً بين الأنبار والنجف والحمدانية والناصرية وبغداد، حيث تتراكم الحرائق من دون مساءلة. من احتراق ملفات الجباية التي قُيّدت ضد تماس كهربائي، إلى اشتعال مستشفيات ومزارع وقاعات أعراس ومولات تجارية، تتوالى الفواجع، وتحترق الأدلة قبل أن يُكتب أول سطر في التحقيق.
سجّلت مديرية الدفاع المدني أكثر من 31 ألف حادث حريق في 2022، وارتفع العدد في 2023 إلى أكثر من 34,500 حادث. أما عام 2024، فقد شهد حتى تموز الجاري أكثر من 21 ألف حريق. هذه ليست مجرد أرقام، بل تراجيديا متواصلة بلا مساءلة. في عام 2021، اشتعل مستشفى الحسين في الناصرية وسقط أكثر من 92 شهيداً. في الشهر نفسه تقريباً، احترق مركز عزل كورونا في مستشفى ابن الخطيب ببغداد، وقُتل 82 مواطناً. وبعدها بعامين، تكرّرت الفاجعة في الحمدانية، نينوى، داخل قاعة أعراس حيث التهمت النيران أكثر من 120 شخصًا، بينهم عرسان وأطفال.
كل مرّة، يُحمّل "التيار الكهربائي" المسؤولية، لكن الكارثة تبدأ قبل اشتعال الأسلاك: تبدأ من اللحظة التي يمنح فيها المستثمر أو التاجر أو صاحب القاعة أو المستشفى رخصة إنشاء دون تدقيق بشروط السلامة، من اللحظة التي يمرّ فيها تقرير الدفاع المدني بلا فحص، حين تُبنى طوابق فوق طوابق دون مخرج طوارئ واحد، دون إنذار حريق، دون طفاية.
إن جريمة الكوت، كما غيرها، ليست قضاءً وقدراً، بل جريمة قتل بالإهمال المتعمّد، تشترك فيها الدوائر الرسمية، وأصحاب المشاريع، وكل من صمت أو غضّ الطرف. ويطالب المركز المعني بسلامة المواطن، بتحريك شكوى قضائية ضد كل الأطراف المتورطة، بدءاً من صاحب المبنى، ومروراً بالجهات التي منحت الإذن، وصولاً إلى من تهاونوا في الرقابة والتدقيق. ثمة أيادٍ ملطخة بدماء العراقيين الأبرياء، لا تمسك سكيناً بل توقيعاً، ولا تشعل النار بولاعة بل بقرار. هم أولئك الذين يمنحون التراخيص دون تدقيق، ويغضّون الطرف عن مخالفات فادحة، ويشيّدون الأرباح فوق ركام الأرواح. نكتشفهم حين نربط الفاجعة بالسياق، لا بالعذر، ونفتح ملفات التحقيق لا لنغلقها بل لنحاسب، وننظر في بنية النظام التي تحمي المتورطين بدل أن تفضحهم. الدم لا يجف، والعدالة لا تبدأ إلا حين نعرف من سلّم الحطب للنار.
أكول: أن نغادر منطق الإنكار ونبدأ من التشريع. قانون خاص بمتطلبات السلامة العامة بات ضرورة وطنية لا مؤجلة. قانون يُلزم الجهات العامة والخاصة بمعايير دقيقة، ويُعاقب المخالفين بالسجن والغرامة، لا برسالة تنبيه. ويجب تشكيل فريق وطني، خلال 90 يوماً، يقيّم إجراءات السلامة في كل المحافظات، ويعرض نتائج تحقيقاته أمام الناس، لا في أدراج المسؤولين. الحرائق قد تشتعل لأسباب فنية، لكن استمرارها سياسي. والأخطر من النيران هو الصمت أمامها.