في السنوات الأخيرة، أصبح الحديث عن مكافحة الفساد المالي وغسل الأموال جزءاً ثابتاً من الخطاب الرسمي. تصريحات، لجان، مؤتمرات، وبيانات متكررة حول "الضرب بيد من حديد". لكن الواقع لا يزال مختلفاً، بل وأكثر تعقيداً. فكلما كشفت شبكة تلاعب، برزت أخرى، وكلما أُحيلت قضية إلى المحكمة، ظهرت ضغوط على جهات التحقيق. أحدث ما تم الإعلان عنه يكشف عن إحالة قضايا تهريب العملة وغسل الأموال إلى محاكم الجنايات والجنح، وصدور أحكام بحق متورطين، بينهم موظفون في مديريات التسجيل العقاري ساهموا في تسهيل التلاعب بعقارات الدولة والمواطنين. بعض هذه القضايا ترتبط بشركات وهمية تفتح اعتمادات مصرفية دون أي بضائع حقيقية، في عملية تهريب منظمة تُنفّذ من داخل النظام المالي نفسه.
لكن السؤال الجوهري: كيف تستمر هذه الشبكات في العمل؟
الجواب، ولو جزئياً، يكمن في التواطؤ المستتر. فهناك ضغوط تمارس من "متنفذين في الدولة" على الأجهزة القضائية والرقابية. في كثير من الأحيان، تقف سلطات الادعاء العام بين مطرقة الاستقلال المنشود وسندان رقابة غير بريئة. وهذا ما يجعل خط الدفاع عن النزاهة هشاً ومهدداً من الداخل. لا يمكن إغفال الدور الذي تقوم به هيئة النزاهة ومكاتب التحقيق الخاصة، في كشف وملاحقة شبكات الفساد، لكن عملها يظل محدوداً ما لم تتكامل الإرادة السياسية مع الحماية القضائية الحقيقية. تجربة بلدان أخرى تعطينا دروساً واضحة: في إحدى زوايا العاصمة السنغافورية، تُعلّق لافتة تقول: "الراشي والمرتشي يلقى بهما في السجن لمدة 30 عاماً". الرسالة ليست قانونية فقط، بل ثقافية: الفساد لا يُساوَم عليه.
أما في العراق، فإن جزءاً من الحل يكمن في تعزيز التعاون الدولي، عبر اتفاقيات لتبادل المعلومات حول غسل الأموال وتهريب الثروات. وقد كشفت تقارير رسمية عن تورط جهات وشخصيات في شبكات إجرامية متخصصة في تهريب النفط والأموال عبر الحدود. الخطوة التالية يجب أن تكون واضحة: لا تهاون مع المصارف المخالفة، ولا حصانة لوهم الشركات الورقية، ولا خطوط حمراء على المتورطين، أياً كانت مواقعهم. فالحرب على الفساد ليست حرباً على أوراق مالية فقط، بل على منظومة كاملة من التلاعب المنظم. وإن لم تُكسر هذه المنظومة، فستظل أي إجراءات مجرد بيانات.. لا أكثر.