مضى نصف قرن على لقائي الأول بالجريدة. يومها كتبت مادة علمية عن شجرة الزيتون، واجتهدت في ترميز العلاقة بين فوائدها الصحية وبين اختيار أغصانها رمزًا للسلام، فرشّحني رفاقي لأمثّلهم في مكتب صحفي ناشط، من بين عشرات المكاتب التي أنشأها الحزب لرفد صحافته ودعمها، في تجربةٍ بقيت رائدة وفريدة حتى اليوم.
ذهبت إلى الموعد مرتبكًا، مثقلاً بالدهشة، حتى من أنوار شارع السعدون الذي اعتدنا التسكع على أرصفته. حكمة الرجل الذي رحّب بنا ودفء استقباله، حوّلا نصائحه إلى قصيدة حُفِظت في القلب، فبدّدت القلق وخشية التساؤل والشك، وعلّمتني وفاء التلمذة لمدرسة ظلّت شامخة رغم الجراح وحرائق الطغاة وجور المستبدين، ونسجت آصرة محبة نابضة في القلب، وغمرَت الوعي بندى المعارف، وغرست فيه توقًا للمزيد.
ورغم مرور السنين، وتعدّد أمكنة اللقاء، في بغداد والمنفى وكردستان، واختلاف أشكال العلاقة، من قارئ إلى مراسل ومحرّر، ما زلت أفضّل أن أقرأ صحافة الحزب لوحدي، جذِلاً برهبة اللقاء بالحبيبة، متأنيًا في التصفّح حتى يتمتع الذهن بكل ما تقدّمه من معرفة، وحتى أمنح العين طمأنينة التيقّن من عدم تسرب خطأ أو شائبة إلى متونها.
وكم كانت دهشتي كبيرة حين علمت أن هذا الشكل من العلاقة لا يقتصر عليّ وحدي كما كنت أظن؛ فالمئات من قرّاء صحافة الحزب الشيوعي العراقي، لهم وجدُ العشق ذاته، مذ كانت سريّة، يُدسّها مناضلٌ في يد آخر، فيتجلّى عبقُ شذاها بعيدًا عن عَسَس الطغاة، وحتى حينما صدرت علناً.
ودفعتني الدهشة إلى البحث عن سرّ ذلك، فوجدت أن الكثيرين لا يرَون أنفسهم مجرد قرّاء، بل يحتفظون بحقّ ملكيّة الصحيفة التي امتلكت قلوبهم وأنارت عقولهم، مذ لم تتوانَ عن تبنّي جميع مطامحهم العادلة وحتى همومهم الصغيرة، وكشفت لهم عن سُبل التمييز بين الحقيقة وبين الجهل والخرافة، ومذ أبصروا في صفحاتها جوهر الحرية، وشكل العدالة الاجتماعية، ومفهوم الولاء الحقّ للوطن، وحصّنتهم ضد مرض يفقد البشر بسببه إنسانيّتهم، ويجعلهم يستغلّون الآخرين ولا يعترفون بآدميّة النساء، فيستعبدهم الجشع وتكّبلهم الأنانية.
ولأنّها تفوّقت في التعبير عن الوحدة الجدليّة بين الوطنية والديمقراطية، وبين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، تسلّلت برشاقة إلى عقول الناس وقلوبهم؛ فلا ديمقراطية من دون تحقيق مصالح الناس، السياسية منها والاقتصادية والثقافية، ولا وطنية من دون الخلاص من الأحادية السياسية المستبدة، وتطوير البنية الثقافية التي تُسهم في التأسيس لمجتمع ديمقراطي.
كما بقيت هذه الصحافة نابضة في ضمير العراقيين لأنها أقنعتهم بسياسات ذات عقل وقلب؛ فمفاهيم الدولة المدنية الحديثة التي دافعت عنها وما زالت، تعني منع انفراد معتقدٍ ما بالسيطرة على الدولة، وضمان حرية العقيدة، وعدم التقاطع مع الدين، الذي هو في جوهره نزوعٌ إلى العدالة، وتأصيلٌ قيم الشفافية والمساءلة والتماسك الاجتماعي، والدفاع عن مصالح الطبقات والفئات التي تشكّل قاعدة الهرم الطبقي، ووضع البرامج التنموية التي تُبقي القرار الاقتصادي مستقلًّا، ومكافحة الفساد المالي بوصفه عائقًا أساسيًا أمام الديمقراطية؛ يُضعف ثقة المواطن بالدولة، ويجعله فريسة للقلق والخوف وتدني الشعور بالمسؤولية.
في العيد، سألت الذكاء الاصطناعي عن أسماء المثقفين الذين ساهموا في الصحافة الشيوعية العراقية على مدى العقود التسعة الماضية، فذكر لي أسماء 376 مبدعًا عراقيًّا من الشعراء والروائيين والمفكرين والكُتّاب والفنانين، واختتم القائمة بالاعتذار عن عدم قدرته على ذكر الجميع، وعن وجود عشرات آخرين كتبوا ونشروا بأسماء مستعارة، تجنّبًا لمخالب الجلادين.
وفيما تملكتني مشاعر الفخر والاعتزاز بذلك، وجدت في استقطاب هذه الصحافة لخيرة الصحفيين والكُتّاب، ثمرة طبيعية لما مثّلته من مشروع نهضويّ تنويري، ومن قوّة تغيير ثقافية وأخلاقية، قاتلت كلّ أشكال التخلّف، ودافعت عن الهوية الوطنية الجامعة، واعتمدت لغةً ومضامينَ متسقة مع تطلّعات القراء، وتناغمت مع الدور النقدي للمبدع وحاجته إلى إماطة الحُجُب عن آفاقٍ فكرية جديدة تستنهض المجتمع ليلتحق بركب التقدم، فجسّرت بذلك العلاقة مع كل المثقفين المعنيّين بالمعرفة والمستقبل، وساهمت في نقلهم من واقع السلبية إلى فِعلٍ مشادٍ على العقل.
وإذ تغمرني اليوم الفرحة بالعيد التسعين، لا يسعني الاّ أن أتقدّم إلى كل من عمل ويعمل في هذه الصحافة الباسلة، ورقيّة كانت أم إلكترونية، بأصدق الأماني بالنجاح وتواصل التفوّق، وأَنحني إجلالًا لشهدائها الأبرار، وأقول: شكرًا، على كل ما تعلّمته في مدرستها العتيدة.