منذ صدور العدد الأول من "كفاح الشعب" عام 1935 ولحد الآن، ومستقبلاً أيضاً ستبقى الصحافة الشيوعية معيناً لا ينضب في عملية التنوير والحداثة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفي ترسيخ التقاليد النضالية لجموع الشيوعيين والتقدميين ولعامة المواطنين.
وكان هاجس كل من عمل في صحافة الشيوعيين، بدءاً من كفاح الشعب والشرارة والقاعدة واتحاد الشعب، وطريق الشعب والثقافة الجديدة، وبقية الأسماء اللامعة من صحافة الحزب، هو أن تعبر عن سياسة الحزب وأهدافه وبرامجه، وعن الحاجات الملحة للجماهير أفضل وأدق تعبير، وكانت بحق المرجع الأساسي في الوصول إلى كبد الحقيقة، وسط كم هائل من الأكاذيب، والتضليل، وتزييف الوقائع، الذي كانت تمارسه العديد من الصحف الأخرى، التابعة للأنظمة الاستبدادية والقمعية ومعها كل الصحف المعادية للشيوعية والديمقراطية.
ولهذا رأت فيها هذه الأنظمة، عدواً خطيراً لمشاريعها الشريرة، وسعيها لإدامة سلطتها، عبر إشاعة الجهل والتخلف وتزييف الوعي فردياً وجماعياً أملاً في البقاء في دست الحكم، وإجهاض نضالات وتطلعات الشعب العراقي في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
كانت الأفكار الوطنية التحررية والديمقراطية، والمطالبة بالاستقلال الوطني الناجز وضرورة النضال ضد الاستعمار الإنكليزي والرجعية من السمات البارزة في الصحافة الشيوعية حيث تناقش كل الأمور والقضايا التي تطرحها بروح مبسطة ومستندة إلى الوقائع الملموسة، بغية توعية الجماهير، ورفع مستوى إدراكها إلى الحد الذي يؤهلها لفهم ما يدور حولها، ومعرفة الأسباب الحقيقية للتخلف والظلم السائدين في المجتمع، ومن هو المسؤول عنهما، دون ان تغفل تحديد السبل الكفيلة للخلاص من هذا الواقع المزري واستبداله بالتقدم والازدهار اللذين يستحقهما الشعب العراقي، عبر نضالات جماهيرية حاشدة، وقادرة على تغيير ميزان القوى السياسية، وإحداث التغيير المنشود، كما حصل في ثورة 14 تموز المجيدة.
لقد تبنت الصحافة الشيوعية، منذ لحظة انطلاقها، الدفاع عن مصالح الجماهير الكادحة من العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين والشبيبة والنساء، وطالبت بحقوقهم المستلبة من قبل المستعمرين والحكام العملاء والرجعيين، فتلقفتها جماهير واسعة بلهفة واعتزاز لأنها وجدت فيها لغة وخطاباً جديدين، يجسدان مصالحهم الجذرية وبرسم الطريق السليم لانتزاعها من مغتصبيها، وان الحزب الذي يقف وراءها ويصدرها، هو فعلاً حزب من طراز جديد، وأثبت بالتجربة الصادقة والناضجة استعداده للتضحية في سبيل هذه الأهداف النبيلة، وقدم الآلاف من الشهداء الأبرار وفي السجون والمعتقلات والمنافي، وتعرضهم لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، دون أن يفت ذلك في عضدهم.
ومع كل القمع والمحاربة الدائمة للصحافة الشيوعية كانت هي الأوسع انتشاراً حتى في ظروف العمل السري، حيث كانت الجريدة السرية تقرأ للأميين ونسائهم، وتنتقل من يد إلى يد، وفي السجون كانت تكثر بالاستنساخ، إضافة إلى ما يصدره السجناء الشيوعيين أنفسهم من صحف ونشريات.
اما في أثناء العمل العلني، فحلقت بعيداً عن بقية الصحف والمطبوعات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت صحيفة "اتحاد الشعب" بعد ثورة 14 تموز توزع وحدها يومياً (50.000) نسخة، حتى آخر عدد لها في خريف 1962، بينما هناك (12) صحيفة أخرى في نفس الفترة لا توزع مجتمعة الا ما بين (32.000) – (33.000) نسخة، رغم أن بعضها كان حكومياً وتكرر هذا المثال المشرق في أيام الجبهة مع البعث، لا سيما في السنتين الأوليتين منها، وبعد سقوط الطاغية مباشرة.
واما نحن القراء، فكنا نمشي بخيلاء وزهو بالغين، إذا ما نشرت لنا خاطرة، او موضوعاً حتى لو كان صغيراً، وكأن الأرض لا تسعنا، وعندما نشتري نسخة منها، كنا نتعمد أن نضعها في جيوبنا او نحملها بصورة واضحة ومرئية للجميع، لأنها حسب وعينا، آنذاك بان الجريدة، إضافة إلى مسبحة حمراء، وشوارب ستالينية، إنما تدل على هوية الشيوعي التي نفتخر بها، أيما افتخار، ونحظى لدى الآخرين بالاحترام والتقدير.
في بناء الكوادر الحزبية وتأهيلها، وتزويدها بالخبرة الضرورية، لكونها أداة لبناء الوعي السياسي، ومنظماً في الوقت ذاته، ساهمت الصحافة الشيوعي بفاعلية وجدية، في عملية البناء هذه، لتكون الكوادر بمستوى المهمات الملقاة على عاتقها، ولردم الهوة بين ضعف التنظيم أحياناً، والمهام السياسية والاقتصادية الاجتماعية، التي ينهض بها الحزب ويتصدى لتحقيقها في ظل ظروف غاية في التعقيد والصعوب.
ومن هذا المنطلق أولت الصحافة الشيوعية مسألة التثقيف بمواضيع تستبطن القدرة على الاستيعاب ليس من قبل الكادر الحزبي فحسب، بل ومن عامة الشيوعيين، مستلهمة آراء وأفكار الرفيق "فهد" الذي حدد عملية خلق الكادر بثلاثة عوامل او مرتكزات هي الجذر الطبقي، والتثقيف الذاتي والخلوي، والممارسة العملية النضالية، فكانت المواضيع والمقالات التي تنشرها، يجري التثقيف بها في الاجتماعات الحزبية، بالإضافة إلى الفقرات والعناوين الأخرى، التي تزخر بها البرامج الفكرية المركزية والمحلية، بدءاً من الخلايا إلى أعلى المواقع الحزبية، كما أنها أولت أهمية قصوى للتحريض السياسي وجعله حجر الزاوية في كل البرنامج والتكتيك والعمل التنظيمي، سواء في مراحل السكون التام او في الوضع الثوري وإيصاله إلى أوسع الجماهير، باعتباره شرطاً اساسياً لا بد منه لتربية وتعزيز نشاط الجماهير الثوري، وكذلك توضيح مفهوم العفوية في تحركات الجماهير، بصفتها في الجوهر المشكل الجنيني للوعي، محذرة في الوقت ذاته من الوقوع في فخ تقديس العفوية والسجود أمامها. كما حصل في انتفاضة تشرين البطولية مع الأسف الشديد، وتناولت على صفحاتها أيضاً وجهي الديمقراطية السياسية والاجتماعية، فضلاً عن الديمقراطية الحزبية الداخلية، وضرورة وحدة الإرادة والعمل، بالإضافة إلى السمات السياسية والأخلاقية التي يجب ان يتحلى بها الشيوعي بصرف النظر عن موقعه الحزبي، وكانت تحث دوماً على الوصول إلى الجماهير والاندماج بها في كل الأماكن والمواقع التي تتواجد فيها، وعدم انتظار مجيئها الينا، مرسخة في أذهاننا الفكرة الاساسية بان الجماهير هي صانعة التاريخ، وأن المكاسب والإنجازات التي تحققها تأخذها بنضالها المتفاني ولا تعطى لها من النخب السياسية الحاكمة كهبات ومكرمات.
ولهذه الأسباب وغيرها، فضلاً عن المستوى الراقي للصحافة الشيوعية شكلاً ومضموناً التي تدخل الأفئدة والعقول والضمائر الحية بسهولة ويسر، كان الغالبية من المبدعين العراقيين يتباهون، ويفتخرون بأنهم مرّوا وتتلمذوا في صحافة الحزب، التي كانت بحق مدرسة فكرية وثقافية ونضالية، ثم توزعوا لاحقاً على الصحف والمجلات الصادرة في مختلف العهود التي مرّ بها العراق، فكانت الممون الرئيسي لكثير منها بالكوادر الصحفية البارزة، والتي يشار لها بالبنان.
هذا غيض من فيض الدور المجيد، والبالغ الأهمية، الذي نهضت به الصحافة الشيوعية، خلال أعوامها التسعين الماضية من عمرها المديد.