في مقالنا السابق المعنون "أزمة مياه وجودية" قلنا انها غدت تشمل تهديدا جديا ليس للزراعة والصناعة والبيئة والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، بل للحياة عموما. وهي قد وصلت الى سوء حالها جرّاء عدم الاكتراث والتقليل من شأنها، واستمرار حسن النية في الحصول على "مكرمات" من تركيا وايران، من دون ادراك الجهات المتنفذة والحاكمة في بلادنا، ان هذه الدول وغيرها، تنطلق أولا وقبل كل شيء من مصالحها الخاصة، وامنها الوطني والغذائي، وأنها لا تراعي في ذلك اية اعتبارات أخرى، او قد تأخذ منها ما يفيدها هي وتوظفه لصالحها.
فرغم كل التحذيرات الوطنية والدولية، ومن منظمات عالمية رصينة، ظل البعض يتحدث عن النهرين الخالدين، دجلة والفرات، فيما هما يمران بأسوأ أزمة مياه خلال الـ ١٠٠ سنة، كماً ونوعاً.
ووقفنا في مقالنا السابق عند الأسباب التي أوجدت حالة الندرة المائية، وليس شح المياه، وكونها تمثل تفاعل مجموعة متشابكة من العوامل، فهي ترتبط بالمتغيرات المناخية والعراق خامس دولة في العالم تأثرا بها، وهي تمتد لتشمل ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض ملحوظ لمعدلات سقوط الامطار، وحالة الجفاف، وكذلك السياسات الانانية والإجراءات وحيدة الجانب لدول المنبع، تركيا وايران، وأيضا سوء إدارة ما متوفر من مياه وتخلف وسائل الري والسقي وتقادم البنى التحتية. ويضاف الى كل ذلك الزيادات الكبيرة في النمو السكاني دون ان يصاحبها تصرف عقلاني بالموارد المائية لملاقاة الحاجات المتزايدة على مختلف الصعد.
وفي الاثناء ـ وان اشرنا في المقالة السابقة الى عدد من الخطوات الواجب الاقدام عليها لتقليل من آثار هذه الكارثة المحدقة ـ فقد كتب عدد من الاخوات والاخوة مطالبين بالحلول ويتساءلون ما العمل؟ وهم محقون في ذلك تماما.
وبادئ ذي بدء نقول بما ان أسباب الازمة متعددة، فالمعالجة يتوجب ان تكون شاملة ومركبة، وفيها ما هو آني، وفيها ما يمكن معالجته على المديين المتوسط والبعيد. وقبل كل شيء يتوجب إقرار الجهات الرسمية والحاكمة والمسؤولية بوجودها وكونها ماضية الى مزيد من التعقيد، وانها لا تحل بانتظار "المكرمة"، بل بخطوات عملية ونهج شامل وان تخصص له الأموال الكافية. وهنا من المفيد الاخذ بانشاء صندوق المياه السيادي، وباتت الحاجة له مهمة ومطلوبة في ضوء التخصيصات المالية الشحيحة التي تخصص لوزارتي الموارد المائية والزراعة.
وتبرز الحاجة أكثر من اي وقت مضى الى ضرورة تكوين المجلس الأعلى للمياه، بما يساعد على رسم السياسات والتوجهات في البلد بجميع محافظاته والإقليم، وحسن التنفيذ والرقابة على الأداء، وتطبيق نهج موحد في أرجاء البلاد من دون استثناءات لأي اعتبار. والمهم هنا إبعاد هذا المجلس عن المحاصصة والبيروقراطية والروتين والفساد والمناطقية والعشائرية، واعتماد المهنية والكفاءة في تركيبته.
وأظهرت الأزمة الحاجة الى تحديث ما هو قائم من تشريعات، وإيجاد الجديد منها المواكب للمتغيرات، ومن ذلك وضع معايير صارمة للاستخدام، مثلا، معالجة ما يحصل الان من فوضى استخدام المياه الجوفية، وهي محدودة الكميات في كل الأحوال.
وفي سياق المعالجة لم يعد مقبولا استمرار ذات الأنماط الزراعية، وتبرز اهمية التحفيز على التحول المدروس والمنهجي من المحاصيل المستهلكة للمياه الى أخرى اكثر ملاءمة لظروف العراق الراهنة، وان لا يترك ذلك للعشوائية والانتقائية، بل ضمن خطة واقعية تستهدف التنوع وزراعة المحاصيل ذات المردود الاقتصادي العالي. وهذا يستلزم تحسين كفاءة الري والاستخدام الواسع للتقنيات الحديثة وإعادة الحياة لمشاريع استصلاح الأراضي ومعالجة ظاهرتي التصحر والتملح.
إن أزمة المياه تستدعي التفكير بمصادر جديدة للمياه ومنها معالجة وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي والمبازل، وتحلية مياه البحر، وبناء مشاريع حصاد المياه والإكثار منها، واعتماد ما يسمى بنهج الإدارة المتكاملة للموارد المائية.
وعلى المدى القريب فإن الحكومة مطالبة ان تتحرك سريعا لادارة الموارد المائية المتاحة الان، فعلا، بكفاءة قصوى وتعزيز الرقابة على توزيع المياه واستخدامها ومنع التجاوزات واطلاق حملات توعية وطنية لوقف الهدر وشمول عموم المواطنين بذلك، إضافة الى الفلاحين والمزارعين.
وفي مقال لاحق نكمل الموضوع، خصوصا ما يتعلق بالحصول على حصة عادلة للعراق في مياه نهري دجلة والفرات.