كانت ملاعبنا الشعبية تزخر بالطاقات والمواهب الكروية، وكان الكثير من لاعبينا يتخرجون منها إلى فرق الجيش والشرطة والفرق المدنية ليشكّلوا عمودها الفقري ودعامتها الأساسية، ومنها إلى المنتخبات الأهلية والوطنية.
إلا أنّ هذا الحال تغيّر في أيامنا هذه، إذ لم يعد هناك مكان للملاعب الشعبية، بل حلت محلها ملاعب الكرة الخماسية والسباعية، وهي لا تساهم في الدفع بالمواهب والمبدعين إلى الساحات الوطنية والدولية. فهذه الملاعب لا تُخرّج لاعباً موهوباً، وإن وُجد، فإن عطاءه يبقى محدوداً بواجبات لا تساعد على تطوير إمكانياته ولا تدفعه إلى فضاءات الإبداع والإنجاز.
إنّ مبدعي كرة القدم اليوم يفتقرون إلى الساحات النظامية التي تكشف مواهبهم وقدراتهم، على عكس ما شهدناه في ملاعب الأمس، حينما كانت الملاعب الشعبية تملأ أرض العراق والفرق الشعبية تملأ الساحات، وأمامها جماهير غفيرة من عشاق اللعبة، حيث تتألق العشرات من المواهب العراقية. وفي تلك الساحات كان يتواجد اللاعب الموهوب، والصحفي، والرياضي المرموق، والمدرب، والمعلم، ومدرس التربية الرياضية، جميعهم يلتقون في فضاء واحد.
لقد عشنا تلك الأجواء ولمسناها في منتصف القرن الماضي، حينما بدأت الرياضة تنهض، وكرة القدم تتنفس، والمؤسسات الداعمة تنطلق. وكان يقوم بوظيفة "الكشاف" آنذاك الكثير من الهواة وعشاق اللعبة في الساحات الشعبية، ليكتشفوا المواهب و"الفلتات الكروية" التي نالت شرف الدعوة للانضمام إلى الفرق العسكرية أو المدنية، ثم تقدمت لاحقاً إلى المنتخبات العسكرية والأهلية وحتى المنتخب الوطني.
من الملاعب التي شكّلت منبعاً لهذه الطاقات: ملعب العوينة، وملعب الأمانة في الشيخ عمر، وملعب كلر في كرادة مريم، وملعب البولو مقابل منتزه الزوراء الحالي، وملعب اتحاد حبيب في مدينة الثورة (الصدر)، إضافة إلى عشرات الملاعب الشعبية في بغداد، فضلاً عن ملاعب المحافظات التي قدّمت مئات المواهب الكروية للفرق والمؤسسات الرياضية آنذاك.
لكن هذه الملاعب والساحات اختفت اليوم، وإن وُجدت فهي تقتصر على اللعب في الملاعب الخماسية والسباعية، بعيداً عن الملاعب الكبيرة التي تسعد الجماهير وتمنحهم المتعة والعروض الشيقة. ومع هذا التراجع، اختفى أيضاً رؤساء الفرق الشعبية ومدربوها الذين كانوا يتمتعون بإخلاص عالٍ وحرص شديد على لاعبيهم، فضلاً عن معرفتهم الدقيقة بكفاءات لاعبيهم البدنية والفكرية، ما جعلهم يقدّمون الموهوبين إلى مدربي الأندية والمؤسسات لوضعهم في المكان الصحيح.
لكننا اليوم نشهد انحساراً لدور "المدرب الكشاف" الذي كان يتعرف مبكراً على الطاقات الخلاقة ويساعدها في شق طريقها نحو المجد والشهرة. فقد بات معظم المدربين يبحثون عن اللاعب "المحترف الجاهز"، بعيداً عن جنسيته أو عمره، ما أدى إلى نضوب مواهبنا المحلية، خاصة مع اندفاع بعض الأندية الفتية نحو الاعتماد الكلي على اللاعبين الأجانب. وهكذا فقدنا "الكشافة" والباحثين عن الكنوز الكروية وسط فوضى الاحتراف التي جعلتنا نفقد "الخيط والعصفور"، وبدلاً من تنظيم شؤون اللعبة، أصبحنا نفتقد إلى البوصلة التي ترشدنا إلى الطريق الصحيح.
إنّ هذا الواقع يتطلب جهداً واعياً وكبيراً، يبدأ بتحديد عدد المحترفين في الأندية بحيث لا يتجاوز أربعة لاعبين، لأنّ زيادة أعدادهم تؤثر سلباً في حضور اللاعبين المحليين، وتؤدي إلى خسارة المواهب الوطنية والأموال التي تُصرف على اللاعبين الأجانب.
أحبتي مدراء الفرق ومدربيها، إنّ عليكم أن تعيدوا الحياة إلى نظام الكشافين، لمساعدتهم في اكتشاف المواهب والقابليات الفنية العالية. وأرى أن خطوتكم الأساسية والضرورية تكمن في بناء فرق الفئات العمرية (أشبال، ناشئين، شباب، ورديف)، لأن هذه الفئات تمثل الأرض الخصبة لاختيار المواهب وصقلها. ومن خلالها سنتمكن من إعداد لاعبين صغار بأعمارهم، كبار بعطائهم، كما تفعل الفرق العالمية اليوم.
وهذا لن يتحقق إلا بوجود كفاءات وكشافين مختصين بعملهم، يسهمون في دعم الطواقم التدريبية، ويعيدون لكرة القدم العراقية مسارها الصحيح.