اخر الاخبار

العتمة التي غطّت على الحقيقة منذ اندلاع حرب غزة، وكادت أن تُعمي حتى حماة البيئة ويسار الوسط، راحت تتبدد مؤخرًا لتفصل بين خندقين واضحين، أولهما: قوى اليمين، معتدلوه ومتطرفوه، ممّن أثنى على المذبحة باعتبارها "مأثرة تخدم العالم وتحمي الحضارة"، كما قالت نائب رئيس الحكومة السويدية، وممّن اكتفى بلوم الجزار على تباطؤه في حرق الأطفال وبيوت الجياع، وفشله في إنجاز المهمة قبل أن تُدمي بشاعتها ضمير الآدميين، وممّن رفض إدانة الإبادة الجماعية كي لا يُنعت بمعاداة السامية، وواصل تحميل الضحايا المسؤولية، لأن أعناقهم التي بقيت شامخة، أغرَت السكاكين بقطعها.

وعلى الرغم من أن مواقف هذه القوى منسجمة مع ما دأبت عليه من تسليع البشر، وتمجيد التنافس المتوحش، واعتبار التضامن ضعفًا، واستخدام كل شيء — من المال إلى المقدّس — لتبرير الظلم، فإنّ ما تفعله اليوم يمثّل حالة نموذجية لما سيكون عليه العالم إذا ما ساد هذا اليمين، ووظّف "الضمير العالمي" في حماية مصالح الإمبريالية وربيباتها: الصهيونية، والفاشية الجديدة، والتشكيلات المتستّرة بالدين.

وكما لطّخت مواقف هذه القوى بقايا مصداقيتها السياسية والأخلاقية بالعار، فإنها لم تُبقِ لمدّعٍ — لا سيما من "المتليبراليين" — حجة لإلصاق "تهمة" التّحضّر بها وبالترامبية، فاستعباد ملايين الناس (أمريكا نموذجًا)، وقمع الحريات السياسية والثقافية على مدى عقود طويلة (في جميع البلدان الحليفة للإمبريالية)، وممارسة القتل الجماعي والإبادة الثقافية (الجزائر، الكونغو، فلسطين، هيروشيما، فيتنام... نماذج)، وشنّ الحروب العالمية والإقليمية، وتعميم أفكار الفردانية والعنصرية، أمور لا يجمعها شيء مع القيم الحضارية كالحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والسلام، تلك القيم التي جاءت نتاجًا مشرقًا لتلاقح عقول وجهود كل البشر الأسوياء، وعلى مدى قرون.

في الخندق الثاني، تقف قوى اليسار بكل أطيافها، لتفضح الخلط بين اليهود، كبشر مؤمنين بدين محدّد، وبين الصهيونية كموقف سياسي، طُرد على أساسه شعبٌ من أرضه ليُقام عليها كيان عنصري، راحت حكومته تستدرج الجائعين إلى نقاط توزيع الطعام كي تحصدهم بالقنابل، ويوثّق جنوده الدماء وهي تنبجس من جراح الأطفال، ويؤيد 82 في المائة من سكانه الطرد الكامل للفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، ويرى 65 في المائة منهم جذور الصراع في هجوم العماليق على العبرانيين قبل ثلاثين قرنًا!

إن أطياف اليسار هذه، وهي تدين السمات الأساسية للصهيونية، باعتبارها فكرة استعمارية وعنصرية ولا أخلاقية، تشكّل خطرًا جديًا على البشر، بما فيهم اليهود، لا تطالب بترحيل أحد أو رميه في البحر، كما ادّعى البعض يومًا، بل تطالب بقيام دولة ديمقراطية علمانية، تضمن الحرية والخبز بشكل متساوٍ للجميع، بغضّ النظر عن قوميتهم ودينهم ومعتقداتهم، بما في ذلك من شُرّد قسرًا من أرضه. كما تناضل من أجل تطبيق سياسات فاعلة، تُخلّص الناس من التعصّب والكراهية والتعالي والادّعاء بامتلاك الحقيقة، وتعزل القتلة، وتدين حُماتهم، وتكفّ عن تمجيدهم، واستلال المبررات لأفعالهم المشينة من الأساطير، وتشيع السلام والمحبة بين البشر.

مع أخبار المآسي في غزة، وحين يُفتضح تبجّح الليبراليين وذيولهم من الأعراب بالتحضّر، يشرق الأمل من خندق اليسار، في مقولة ليوئيل إليزور: "شعرتُ، مذ دخلنا قطاع غزة، وكأننا نحن النازيين وهم اليهود.، ووفي تلخيص البروفيسور الشيوعي شلومو ساند للأمر بقوله: "نحن اليهود، تقيأتنا أوروبا على عرب فلسطين.، وفي تصريح المخرج السينمائي إيلي شوراكي: "لا يمكن أن تغيّر الحقيقة. فقد سُلبت الأرض من سكانها. لا شيء، ولا حتى المحرقة، يمكن أن يمحو هذه الحقيقة أو يبررها. لا حل إلا بالمساواة.، فيتعزّز اليقين، وتتبَدّد العتمة.