تمت الإشارة في المقالتين السابقتين الى ان ندرة المياه واحدة من أخطر التحديات الى تواجه العراق، ولها تاثيرها المباشر على قطاعات عدة، ومنها الزراعة والصناعة والبيئة والصحة، وعلى حياة الناس ونمط معيشتهم. وقد بدأت تلك الاثار بالتفاقم مع استمرار حالة اللامبالاة والاستهانة وقسوة المتغيرات الجوية وسوء الاستخدام والإدارة. وفِي المقدمة منها، سياسة الحاق الأذى والاجحاف التي مارستها ولما تزل دول المنبع؛ تركيا وإيران.
وللتعامل مع الازمة وتداعياتها اقترحنا مجموعة من الإجراءات للمعالجة والتخفيف من آثارها، وهي حلول لا بد منها وإلا فالامور ستسير من سيئ الى أسوأ.
وفي هذا المقال، نشير الى قضيتين مهمتين في أية معالجة جادة وعملية وذات صفة دائمة، وليس حلولا ترقيعية لعبور فصل او سنة معينة.
فالقضية الأولى، تتعلق بالقطاع النفطي والذي يعد المستهلك الثاني للمياه بعد القطاع الزراعي؛ فرغم نفي وزارة الموارد المائية استخدام المياه العذبة في حقن الابار النفطية، إلا انه وفقا لمتخصصين وتقارير استقصائية فإن ملايين الأمتار المكعبة من المياه العذبة تضخ سنويا لاستخدامها في استخراج النفط، حيث يستهلك ما يقارب ٣-٤ ملايين متر مكعب يوميا، وهو ما يعدل اكثر من مليار متر مكعب سنويا؛ وإذ تلح الحاجة الى استخراج النفط، والذي للأسف ما يزال يغطي النسبة الأعظم من واردات ونفقات البلد، فان استخراجه بهذه الطريقة المتبعة الان فيه هدر كبير للمياه التي بلدنا بأمس الحاجة اليها. وهذا يحتم على الحكومة معالجة سريعة وجادة وعدم الانتظار. كما أصبح واجبا إلزام الشركات
الوطنية والأجنبية تغيير نمط وآلية الإنتاج، وهي على ما يبدو متوفرة، والبحث عن بدائل أخرى. وهنا نحذر من الإجراءات المستعجلة مثل اللجوء الى المياه الجوفية، او استخدام المياه المالحة او مياه البحر او حتى الصرف الصحي من دون معالجات مطلوبة.
والقضية الثانية وهي الأهم، تتمثل في الحصول على حصة عادلة من مياه نهري دجلة والفرات، وان يتم الاقدام على خطوات من شأنها إلزام تركيا وإيران بمراعاة مصالح العراق، دولة المصب.
وفي هذا الشأن، امام العراق طائفة من المقاربات يتوجب الآن ولوجها، فليس في الوقت من متسع؛ فبعد ان كان العراق يتمتع بتدفقات مائية تتجاوز ٧٥ مليار متر مكعب سنويا في سبعينيات القرن الماضي، تراجعت هذه الكميات الى ما يقارب من ١٠ مليارات متر مكعب، في وقت تقدر فيه الحاجة الفعلية للعراق بأكثر من ٥٠ مليار متر مكعب سنويا.
إن مسارات التحرك لا بد ان تبدأ بمفاوضات مباشرة وبناءة وان تصل الى نهاياتها المطلوبة باتفاقات معلنة وملزمة، وان يستند ذلك الى حراك قانوني ودبلوماسي؛ حيث يمكن الرجوع الى اتفاقية الأمم المتحدة لعام ١٩٩٧ الخاصة باستخدام المجاري المائية الدولية، فهي تشير بوضوح الى مبدأ الاستخدام المنصف والعادل وعدم الحاق الضرر بدول المصب. هذا برغم ان تركيا لم توقع على هذه الاتفاقية، لكنها تصلح لأن تكون مرجعية قانونية لتحرك العراق. ويمكن كذلك اللجوء الى محكمة العدل الدولية.
وإذ يرتبط العراق بعلاقات اقتصادية وتجارية مع تركيا وإيران، فيمكن له توظيف هذه العلاقات كورقة ضغط وانتزاع حقوقه المشروعة وإزالة الغبن الذي تعرض ويتعرض له. ويبقى الباب مفتوحا امام إقامة المشاريع ذات النفع المشترك.
كل هذه الإجراءات والخطوات التي تمت الإشارة اليها في المقالات الثلاث، وغيرها، لا بد من الاقدام عليها ضمن رؤى موحدة وخطة شاملة متكاملة، وإرادة سياسية وبقرار واضح يضع مصلحة البلد ومستقبله فوق كل اعتبار، والاستناد الى دبلوماسية نشطة وفريق مفاوض مدعوم بفرق فنية كفوءة لضمان حقوق العراق في مياهه، وقبل هذا وذاك لا بد من حسن إدارة واستخدام ما متوفر من المياه.
إن العراق دخل الآن في فئة الدول ذات "الندرة المائية الحادة" حيث حصة الفرد العراقي من المياه المتجددة انخفضت الى حوالي ٣٠٠ متر مكعب سنويا، وهي أقل بكثير من خط الفقر المائي العالمي، أي الف متر مكعب للفرد في السنة، علما ان ١٧٠٠ متر مكعب سنويا للفرد هو الحد الآمن المعتمد دوليا.
فلا بد ان يُسمع هذا ويُفهم جيدا من قبل من بيده القرار قبل فوات الآوان، وان يعي المواطن كذلك خطورة الأزمة المحدقة.