اخر الاخبار

تقول الحكاية إن عمر بن عبد العزيز كلّف غيلان الدمشقي ببيع خزائن الأمويين ورد الحقوق إلى الناس. وحين آلت السلطة إلى هشام بن عبد الملك، هرب غيلان إلى أرمينيا، لكن هشام تمكّن من إلقاء القبض عليه، فقطعت يداه ورجلاه، دون أن يثنيه ذلك عن تحريض الناس، إذ ظلّ ينادي: "قاتلهم الله، كم من حق أماتوه، ومن باطل أحيوه"، مما أغضب هشام، فأمر بقطع لسانه.

ثلاثة عشر قرنًا مضت على الحادثة، وما زال العالم منقسمًا بين هشام بجبروته وغطرسته، وغيلان بمقاومته رغم أوصاله المقطّعة. في عوالم هشام، تقف أمريكا ومجموعة من الحكومات التابعة لها، ممالك قروسطية، وطغم عسكرية، ورؤساء مستبدون، وأنظمة ليبرالية تُعتِّم — بديماغوجية لا مثيل لها — على ما ترتكبه من جرائم واضطهاد قومي وطبقي. عوالم تتقلّص فيها الحريات، وتُدمَّر بها البيئة، ويتوطّد فيها دور القوة المستندة إلى هيمنة عسكرية على أنظمة الطاقة والمال الدولية، وعلى الممرات البحرية الحيوية، وعلى شركات تمتلك 85 في المائة من الإنتاج العالمي، والمدخرات الدولية، وشبكات الاتصالات، و70 في المائة من إنتاج الحواسيب، و60 في المائة من إنتاج الأدوية، والأسمدة، والمبيدات، وتتحكّم بآلاف الجمعيات والمنظمات ومراكز الأبحاث والجامعات.

ومع تراجع التفوق الاقتصادي لهذا العالم، فإن مركزيته في النظام المالي الدولي ما زالت كبيرة التأثير، مدعومة بنتاج الثورة الصناعية الرابعة، وبالاستخدام المتزايد للعقوبات، وبـتحديث الترسانة النووية الأمريكية، وتقليص ترسانات الآخرين، لمنع أحد من تحقيق التكافؤ معها.

غير أن الصورة لا تبدو قاتمة إلى هذا الحد؛ فالإمبريالية تبقى نمرًا من ورق، لا لأنها ضعيفة عسكريًا أو سياسيًا، بل لأنها ظالمة، حين تستغلّ الشغيلة والشعوب وتحرمهم حقهم في الثروة والكرامة؛ ولا عقلانية، حين تلهث وراء تراكم لا حدود له لفائض القيمة، حتى لو تسبب لها ذلك بأزمات دورية خانقة؛ ولا ديمقراطية، حين تحرم الغالبية الساحقة من الحريات وتلقي بهم في أتون الاغتراب.

وليس أصدق من مثال على ذلك، فشل الزعيق عن "القوة التي لا تُقهر" و"المخالب النووية" في إخفاء التناقضات المستعرة في الكوكب. فها هي واشنطن تبدي علنًا رفضها دفع 74 في المائة من نفقات حماية الحلفاء، وها هي سياستها القائمة على الجمع بين التفوق العسكري والمقاطعة الاقتصادية تندحر تدريجيًا وتُصاب بفشل ذريع، في وقت يرى فيه 65 في المائة من شبابها الحل في الاشتراكية، ويصف 70 في المائة منهم الديمقراطية البرجوازية بالفاسدة، ويؤكد 93 في المائة منهم عدم ثقتهم بالكونغرس، فيما تُضاء كل يوم سماء أوروبا وأمريكا بمئات التظاهرات الشعبية لليساريين بكل أطيافهم، ضد العولمة المتوحشة، والاستغلال، وخراب البيئة، وجرائم الصهيونية.

الأمر مختلف تمامًا في عوالم غيلان. ملايين الجياع والمثخنين بالجراح يقاومون وينتصرون، من البرازيل، والأوروغواي، والمكسيك، وغيانا، وكولومبيا، وكوبا، وغيرها في الغرب، وإلى اليسار المنتصر في سريلانكا ونيبال في الشرق، مرورًا بفتية فلسطين ولبنان، وأفريقيا السوداء التي لقّنت الإليزيه درسًا في الكرامة، والصين التي كسرت التوازن الاقتصادي لصالحها، كخطوة على طريق تحقيق التوازن العسكري.

في هذا الصراع، لا خيارات لليسار سوى تعزيز ثقته بنفسه وبقدراته، وتمتين مواقعه، وعدم التهاون في قضيتي الحريات والسلام، والعمل على تبنّي رؤية توحّد أطرافه، وتضمن تطوير التعددية والتبادل السلمي للسلطة، وتقلّل الاعتماد على الدولار، وتُطوّر القدرات الذاتية، وتحقق التحديث، وتشجع الابتكار، وتحمي البيئة، وتضمن الأمن الغذائي.

في حلكة الغسق، ها نحن نُبصر، بيقين لا ينضب، مخيض الفجر.