اخر الاخبار

اثارت الإجراءات الأخيرة للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات باستبعادها مئات المرشحين (حتى يوم ٢٩ آب ٢٠٢٥ تجاوز العدد ٦٢٧ مرشحا، ومن المحتمل ارتفاعه) ، جدلا واسعا على المستويين السياسي والشعبي.

تبرر المفوضية إجراءاتها بانها لـ "ترصين" العملية الانتخابية ومنع "البعثيين والفاسدين" من الوصول الى البرلمان، كذلك تطهير قائمة المرشحين من الذين لا تنطبق عليهم "معايير حسن السلوك والسمعة".

لكن قراءة أولية في الأسماء المستبعدة، تشي على نحو واضح بانها اقرب الى "خلطة عطار" منها الى قائمة تستند الى معايير واضحة، وغير متغيرة وفقا للوقت ومواقف الأشخاص والقراءات القصدية. كما ان فيها ما هو غريب، فقد استبعد من الترشح اشخاص سبق ان أسندت اليهم مواقع مهمة في الدولة، او يجري الآن اسناد وظائف عامة حساسة لهم ، وغير ذلك من القضايا  التي يبدو ان الموقف من أصحابها بُني على تفسير خاص او تقارير معينة، أو بناءً على دعاوى مقامة لها علاقة بالرأي والتعبير، حتى قبل ان يبت فيها القضاء، بعكس  مبدأ براءة المتهم حتى تثبت ادانته.

لا خلاف في أهمية وضرورة الحرص على ان تكون العملية الانتخابية نزيهة وذات مصداقية، وهذا مطلب قالت وتقول  به قوى وطنية وشعبية واسعة،  ولا اظن ان أحدا سيعترض عليه، ما دامت إجراءات تحقيقه تأخذ بالشفافية، وبوضوح المعايير واتساقها في كل مفاصل الدولة. لكن ما هو إشكالي وجوهري كون العديد من قرارات الاستبعاد غاب عنها تبيان واضح للأسباب واحكام قضائية باتة، وليس مجرد شبهات وتقارير قد ترقى الى ان تكون كيدية، ومنطلقة من مواقع الخصومة السياسية.

وبناء على ذلك يُنظر على نطاق واسع لهذه الإجراءات على انها جزء من وسائل، تسعى  منظومة الحكم من خلالها وعبر ضغوطها على المفوضية والقضاء، الى تدوير وجودها في السلطة وادامة هيمنتها على مجلس النواب، وابعاد اية أصوات معارضة او حتى "مشاكسة".

 وهذه الإجراءات تشكل هي الأخرى احد أوجه الازمة البنيوية للمنظومة المتنفذة، ومدى استعدادها - حفاظا على مصالحها المغلفة بادعاءات حماية المكون او المذهب او الطائفة - لتقزيم الديمقراطية وسحقها الرأي الاخر المختلف ووأده في المهد ، كي لا يكبر ويهدد سلطتها ونفوذها. كذلك مصادرتها لمباديء مهمة في الأنظمة الديمقراطية الحقة، ذات صلة وثيقة باستقلالية القضاء، وعدم تداخل السلطات، وحيادية ومهنية مفوضية الانتخابات والأجهزة العسكرية والأمنية . فمثل هذه الإجراءات وما يشابهها لا تشكل الا نقاط ضعف جدية في المنظومة الحاكمة، التي ينتابها القلق إزاء اية أصوات معارضة او حراك شعبي مهما كان.

ثم ان على من يريد حقا ضمان سلامة الانتخابات، الاقدام حالا ليس فقط على  تدقيق قوائم  المرشحين انتقائيا، بل أيضا على الكشف عن المال السياسي، وعن أبعاد العملية الواسعة لشراء ذمم المرشحين والناخبين وتقديم الرشى، الرسمية وغير الرسمية، واستغلال مؤسسات الدولة وتوظيفها. كذلك العمل على إبعاد السلاح عن العملية الانتخابية ، والتطبيق الصارم لقانون الأحزاب، ومنع من يملك السلاح من المشاركة فيها، والسعي بكل السبل، بضمنها القانونية ، لضمان الفرص المتكافئة للجميع.

فلا مصداقية للإجراءات المتخذة إن لم تكن مؤسسة على نحو سليم، وبأحكام قضائية باتة ، وان تكون هناك معايير واضحة ومعلنة للاستبعاد، مع ضمان الحقوق القضائية في الطعن والاستئناف، مع الرفض القاطع للتمادي في استخدام الصلاحيات.

وهنا تبرز أهمية وعي الأهداف من مثل هذه الإجراءات، والعمل على تعرية مراميها والتصدي السلمي والقانوني لها. كما ان التطورات الأخيرة في بلادنا تؤكد، بالنسبة الى القوى  المتطلعة الى التغيير خصوصا، ضرورة أن تعي جيدا أهمية وحدة قواها وتنسيق جهدها ومواقفها، وان تبعد نفسها عن اغراءات السلطة والمتنفذين، وتعمل عبر منظومة متكاملة من الوسائل الكفاحية، لعل في مقدمتها تنمية وتطوير الضغط الشعبي والحركة الاحتجاجية الواسعة والمنظمة، التي تجمع على نحو سليم بين المطالب اليومية والمعيشية وتوفير الخدمات ، ومتطلبات التغيير على الصعيد الوطني ، مع وضع الانتخابات المقبلة في هذا السياق.