منذ اليوم الأول الذي يلتحق فيه الموظف بوظيفته، تبدأ رحلة الاستقطاع من راتبه لصالح صندوق التقاعد، رحلة تمتد غالباً لثلاثة عقود ونصف العقد، يُقتطع خلالها جزء ثابت من راتبه الشهري ليُودَع في صندوق يفترض أنه آمن.. صندوق يُستثمر في مشاريع اقتصادية رابحة، ليُدرّ أرباحاً تعزز رأسماله وتكفل للموظف ولمن يعيلهم، حياة كريمة بعد التقاعد.
هذا الصندوق ليس منّة من أحد، بل هو حقٌ صريح ومدخرات عمر، وقانونٌ واضح لا لبس فيه. إنه بمثابة خزينة أمانٍ للموظف في شيخوخته، في الوقت الذي تخونه فيه الصحة وتخذله القدرة على الكدّ والعمل.
لكن، ما الذي يجري اليوم؟
نرى العبث بمقدرات هذا الصندوق، واستباحته من قبل من لا يملكون الحق ولا الشرعية للتصرف به، دون استئذان أصحابه من المتقاعدين والموظفين الذين لا يزالون يدفعون من رواتبهم شهرياً وهم يحلمون بيومٍ ينعمون فيه ببعض راحة. هذا التصرف ليس مجرد مخالفة، بل هو خيانة للأمانة، وازدراء للقانون، واحتقار لمواطِن كَرّس زهرة شبابه في خدمة وطنٍ لم يكرّمه في شيخوخته.
لقد سبق لصدام أن استولى على صندوق الضمان الاجتماعي للعمال، واليوم، السلطة السياسية تكرر المشهد، لكنها هذه المرة تستهدف صندوق التقاعد، فتجعل ملايين الشيوخ والمرضى والعاجزين في مهب الريح، بينما هم في أمسّ الحاجة إلى الاستقرار والعلاج، لا يُمهَلون حتى ليومٍ واحد. ويزيد الطين بلة أن هنالك من يتقاضون رواتب تحت مسمى "متقاعد"، وهم لم يدفعوا فلسًا واحدًا للصندوق! رواتبهم تُصرف بقرارات خاصة، لفئات سياسية أو فئوية، بعضهم يتقاضى أكثر من راتب، وبعضهم رواتبه اضعاف رواتب المتقاعدين الحقيقيين.. هؤلاء جميعاً يُربَطون بصرف رواتبنا، صحيح ان مستحقاتهم تصرف عن طريق وزارة المالية وليس من صندوق التقاعد لكن ربط صرف رواتب المتقاعدين المشمولين بصندوق التقاعد مع صرف رواتب هؤلاء المحسوبين على وزارة المالية يحدث اشكاليات عند عدم توفر السيولة لدى الوزارة المعنية او تأخر دفع مبالغهم لأي سبب آخر، ما يؤخر ويعطل انتظام الصرف. فليُعزلوا عن صندوقنا! وليُفصلوا عنّا، نحن الذين اقتطعنا من أرزاق أطفالنا ومن صحتنا لعقود من أجل يومٍ نعيش فيه بكرامة!
وللمفارقة، بينما تُمنح الامتيازات لفئات لم تدفع شيئًا، نجد موظفين سابقين ممن خدموا الدولة في عقودٍ سابقة، يُحرَمون من حقوقهم التقاعدية لأسباب سياسية، رغم أنهم دفعوا ما عليهم من استقطاعات قانونية! فأين العدالة؟ أين القانون؟ نحن لا نتحدث عن أصحاب الدرجات الخاصة، بل عن موظفين عاديين، خدموا وأخلصوا، ودفعوا ولم ينالوا! إن السكوت على ما يجري هو خيانة أخرى، خيانة للمتقاعد، للمواطن، للإنسان. فكل يومٍ تتأخر فيه الرواتب، وكل دينار يُهدر من الصندوق، هو سكين جديد يُغرس في خاصرة من أفنوا أعمارهم في خدمة بلدهم.
القلق ينهشهم، والمرض يلاحقهم، والغد يبدو أقرب إلى المجهول. يا من تتربعون على الكراسي، اعلموا أن أموال صندوق التقاعد ليست ملكًا لكم، بل هي ملك ملايين من الشرفاء، من الذين تعبوا وسكتوا طويلاً. إنهم اليوم يرفعون صوتهم ليقولوا: لا مساس بأموالنا. لا عبث بحقوقنا. لا استهانة بحياتنا. والساكت عن الحق، شيطانٌ أخرس.