اخر الاخبار

في معرض انتقاده لي، نفى "صديقي اللدود" أيَّ علاقةٍ بين اليسار والديمقراطية؛ فالحرب الباردة، التي كانت، وفق تصوراته، مجرد صراع بين الحرية والاستبداد، انتهت بانتصارٍ حاسمٍ لصالح الديمقراطية الرأسمالية، وسقوطٍ مدوٍّ للديكتاتورية الاشتراكية.

وبعيدًا عن الهوّة التي تفصل بين هذا الرأي وبين الإنصاف والتقييم الموضوعي للتاريخ، فإن الصدق مع النفس يُلزمني الاعتراف بنجاح العدو الطبقي في تسويق هذه الفكرة، من خلال استغلال جملة أخطاء عانت منها دول التجربة الاشتراكية الأولى، وأدّت إلى زلزالٍ لا تزال البشرية تعاني من تبعاته المدمّرة.

ويأتي في مقدّمة تلك الخطايا تجاهلُ الفكرة الماركسية التي دعت إلى الدفاع عن الحقوق السياسية والاجتماعية، واعتبرت أن لا حرية للبشر دون خلاصهم من الفاقة والجهل والمرض، وشدّدت على الترابط بين إنجاز هذه المهام وانتصار الشغيلة في معركة الديمقراطية. كما تضمّنت الأخطاءُ التغافلَ عن أن "كومونة باريس"، التي اعتبرها ماركس حكومةً عماليةً حقيقية، لم يقدها طيفٌ يساريٌّ واحد، وإنّ منح الأولوية للتصنيع، في مجتمعات يغلب عليها الطابع الزراعي والعلاقات الأبوية، على حساب الحقوق الديمقراطية في العمل والحياة الاقتصادية والثقافية، لا علاقة له بما قاله ماركس عن استحالة فرض السعادة على الشعوب. وإن غياب الحريات العامة والخاصة، ولا سيما حرية التعبير، والتجمع، والاقتراع، والترشيح، كان المسبب الأبرز لتحويل المؤسسات إلى هياكل بيروقراطية مشوّهة، كما حذّرت روزا لوكسمبورغ من ذلك ذات يوم.

وعلى الرغم من كل هذه الأخطاء، لم يحمل سقوط التجربة الاشتراكية الأولى انتصارًا للحرية، كما ادّعى صديقي، الذي طالما عزّزت مشاكساته صحّة قناعاتي، لأنّ بين الرأسمالية والحرية جبلًا من نار، منذ أن دعمت انقلاب لويس نابليون على الجمهورية الفرنسية، وحتى رعايتها لقوى الفاشية الجديدة اليوم. فلا أظن أن هناك من يجد جامعًا بين الدفاع عن الحريات، وبين قيام الرأسمال بقمع الحركات العمالية في العشرينيات، ودعمه للفاشية والنازية في الثلاثينيات، ورعايته لسلطات أوليغارشية معادية حتى للقيم الليبرالية في دول الأطراف، وتدخّله الدموي ضد إرادة الشعوب بإسقاط حكومات مصدّق في إيران، وآربينز في غواتيمالا، وبوش في الدومينيكان، وقاسم في العراق، وآليندي في تشيلي، وحرق فيتنام وكوريا، وتجويع كوبا، وتدمير فلسطين. ثم، هل هناك من وفاق بين الحرية وبين نشاط الشركات المعولَمة، حين تُفقدُ البشر القدرة على التفكير أو على تقرير المصير، عبر قيامها بسلب شغيلة المراكز الرأسمالية وشعوب الدول التابعة، الحقَّ في اختيار العمل، والسيطرة عليه، وتنفيذه، وامتلاك نتاجه، والتمتع بجوهره الإنساني؟

وهل يمكن أن يُثمر هذا الظلم الصارخ عن مجتمعٍ حر؟ كذلك المجتمع الذي يدعو له اليسار، حيث دمقرطة الاقتصاد وتشريكه، والسيطرة الاجتماعية على الثروة وإعادة توزيعها بعدل، وتحرير المجتمع من أشكال الاستغلال الطبقي، وتنمية طاقات الفرد وقدراته الذاتية الخلّاقة؟ وأيهما أكثر حرية: مجتمعٌ يستغلّ فيه رأس المال المحرومين من الملكية، لينهب ما يُنتجونه من فائض القيمة ويُراكم أرباحًا بلا حدود، أم مجتمعُ اليسار، الذي يقترن فيه الاقتصاد بالرقابة الديمقراطية، وتُعتمد فيه معايير الكفاءة في استخدام الموارد، وتحسين شروط الحياة المادية والروحية للشغيلة، وتُمنح فيه الأولوية لرفاه الإنسان، لا للربح المالي، ولتخليص النساء من العبودية، ووأد إنتاج علاقات استعمارية جديدة، وحماية البيئة، وإنهاء احتكار شركات التكنولوجيا العملاقة للمعرفة؟

صديقي اللدود، لا تتعجّل الحكم؛ فكما عجز وعّاظ السلاطين عن تكفير وتخوين كوبرنيكوس، وغاليليو، وابن رشد، والحلّاج، والقرامطة، وسبينوزا، والمعتزلة، سيعجز تضليل الرأسمالية والإقطاع الرقمي عن تشويه التوأمة بين الحرية واليسار.