شهدت الأيام الأخيرة تصاعد حملات الإساءة إلى الشيوعيين، أصحاب الأيادي البيضاء والأبناء البررة لهذا الشعب، في تزامنٍ واضح مع اشتداد أزمة منظومة المحاصصة والفساد، واقتراب موعد الانتخابات التشريعية، التي لن تطمئن لنتائجها قلوب الفاسدين، مهما حشدوا لها من مالٍ سياسي، وسلاحٍ منفلت، وأدوات تزوير.
ورغم أن هذا العواء جاء شبيهًا في المظهر والمضمون بسابقين له، فإنه كشف عن اضطرار أصحابه إلى تغيير شكله، وإيقاعه، وحتى الجوق الذي يطلقه؛ إذ راحوا يوظفون، بعطايا السُّحت الحرام الذي ينهبونه، عددًا من المتحذلقين، عسى أن ينقذوا أبواق الكذب والفتنة من الفضيحة. ولكي يُحكموا اللعبة، ارتدى هؤلاء الصغار بدلات أنيقة، معتنين بربطات العنق، وناثرين في زعيقهم عددًا من المفردات الإنكليزية، ومُقسمين بأغلظ الإيمان على أنهم ورثة حقيقيون لليبرالية جدهم الأعلى جون لوك، وأنهم حريصون على خلاص البلاد والعباد مما وصلوا إليه من خراب.
ولأنهم باتوا أشبه بالدمى التي لا تغني إلا إذا ما حُشيت بالمال، ولأن الناس لا تشتري الأصوات مهما تدنّت أسعارها، بفضل قدرتها على التمييز بين اللحن الأصيل والتقليد السمج، وبين آداب الحوار ودونية الأزلام، فقد انفضح ارتزاق هؤلاء، وهم يقتفون أثر أسيادهم في نهب المال العام بمشاريع الإعمار، والإسكان، والصحة، والتعليم وغيرها، أو يؤسسون في أوروبا ولبنان والبصرة وبغداد، شركاتٍ لغسيل الأموال والرشى والعمولات، ثم ينشئون، لتغطية هذا النهب، أحزابًا ومنظمات كارتونية، ويقيمون أوشج صلات السمسرة بمتنفذين "سياديين" أو "غير سياديين"، من أتباع بريمر، أو ممن لم تشملهم المساءلة والعدالة بالاجتثاث، حين اجتُثّ اشباههم من أيتام عدي!
ولأنهم يحفظون دون أن يفهموا، كان سهلًا أن يُدانوا من أفواههم. أحد هؤلاء اتهم، قبل أيام، الحزب الشيوعي العراقي بأنه حزب للهدم، دون أن يدري أنه يقول نصف الحقيقة، فنضال الحزب يستهدف بالتأكيد هدم منظومة المحاصصة التي أهدرت المليارات من ثروات العراقيين، وأوصلت أحد عشر مليونًا منهم إلى ما دون مستوى الفقر، وحرمت أولادهم من التعليم المجاني، واستبدلته بعشرات المؤسسات التعليمية (الأهلية) الفاشلة، وحوّلت مستشفياتهم إلى مواقع لا تطبيب فيها ولا أدوية، وفرّطت بحقوق البلاد المائية حتى باتت مهددة بالموت عطشًا، ودمّرت زراعتها الوطنية، وأبقت مصانعها خرائب، وأغرقت أسواقها بالسلع الرديئة المستوردة، وتركت الملايين في ظلام الأمية، وسلبت حقوق النساء، وشدّدت من عبوديتهن، وصار الحصول في ظلها على سقفٍ يحمي ملايين الأسر حلمًا مستحيلًا.
لكن هذا الدعيّ لم يستطع قول الحقيقة كاملة، لأن الحزب الشيوعي كان أيضًا وعلى الدوام، حزب بناء الهوية الوطنية الجامعة، والعراق الديمقراطي الحر المزدهر الذي تسوده العدالة الاجتماعية؛ كان وما زال حزب بناء مجتمع حديثٍ ومتنور تسوده القيم الوطنية والإنسانية الصادقة؛ حزب دفاع ثابت عن وحدة القوى السياسية، وعن التآخي والسلام الأهلي؛ الحزب الذي قدّم في سبيل ذلك قوافل من الشهداء، وصارت المآثر التي اجترحها مناضلوه صفحات فخرٍ لكل العراقيين، عبر ما يقارب قرنًا من تاريخهم.
وفي هذه الحملة، حاول بوقٌ ثانٍ أن يغمز من قناة الشيوعيين، حين ادّعى بأن من ينتمي منهم لعوائل تؤمن بالمذهب الجعفري ليس من الشيعة. هذا الآخر قال نصف الحقيقة، مقلدًا أصحابه، فالشيوعيون المنحدرون من عوائل شيعية أو سنية أو مسيحية أو إيزيدية أو مندائية، لا يمثلون أية هوية فرعية من هذه الهويات بمفردها ، بل يحترمون ويمثلون جميع هذه الهويات معًا؛ إنهم خلاصة رحيقٍ متعدد الألوان والمذاقات والشذى، في الزهرة العراقية الرائعة. وقد تطهروا بهذا الانتماء الأصيل من أدران التعصب الطائفي والقومي والعشائري، فغصّت ساحاتهم وخلاياهم بمناضلين من كل العوائل والمدن والقصبات العراقية.
على أية حال، لم يدفعني لكتابة هذا التعليق زعيق هؤلاء، لكني تذكرت وأنا أسمعهم حكاية خلاصتها أن الأسماء ليست بالضرورة مطابقة لمسمياتها؛ فقد تجد فتى حزينًا اسمه فرحان، ولصًا اسمه أمين، ومحبوبة يكرهها الجميع، وكاملًا لا علاقة له بالكمال وصادقاً يباري مسيلمة في الكذب.
كما تذكرت أيضاً مقولة الجواهري الكبير، وهو يصف العقرب:
لولا مغبّةُ ما تجني ذنابتها
لقلتُ: رفقًا بهذا الزاحف القذرِ