اخر الاخبار

تحمل لنا كتب التاريخ السياسي العبارة الشهيرة المنسوبة الى ملك فرنسا لويس الرابع عشر: "انا الدولة والدولة انا"، والتي هي تجسيد حيّ للحكم المطلق الذي ساد في القرنين السابع والثامن في اوربا .

ويحمل استحضار هذا القول في واقعنا المعاصر الكثير من المعاني والدلالات، خاصة عندما نجد ان البعض، عن عمدٍ او جهلا،  يصر على  خلق حالة تماهٍ بين السلطة والدولة. وهو بهذا يريد إضاعة الحدود بين ما هو كيان دائم وحاضنة للجميع، وبين كيان مكلف مؤقتا بإدارة شؤون الدولة، ويخضع للمساءلة والمحاسبة والعزل والتغيير ضمن الأطر الدستورية السارية المفعول، ووفقا للتداول السلمي للسلطة.

تجربة الحكم المطلق في فرنسا، الذي كنسته ثورة عام ١٧٨٩ وما تلاها، بيّنت على نحو جليّ ان كل مسعى لدمج الدولة بالسلطة او بالعكس، هو مشروع فشل طال الزمن ام قصر، وان الإصرار على ذلك يقود الى ازمة بنيوية للدولة والى هشاشة مؤسساتها ، وهذا تهديد لبقاء الدولة ذاتها .

وتبيّن تجارب الشعوب وبلادنا أيضا، ان مثل هذا التماهي بين الدولة والسلطة يغلق الأبواب ويسد المنافذ بوجه أي جهد يُبذل على طريق الإصلاح والتغيير الجادين والسلميين. وغالبا ما تعتبر اية مطالب بهذا الاتجاه انها إساءة واعتداء على الدولة.

ان الخلط بين المفهومين يشكل تهديدا للديمقراطية. فالديمقراطية لا تنظر الا الى كون السلطة مؤقتة وزائلة وخاضعة للتغيير. ومن بين وسائل تحقيق ذلك في الأنظمة الديمقراطية الحقة، إجراء الانتخابات ذات الصدقية. وفي حال اختلاط المفهومين يصعب الحديث عن مثل هذه الديمقراطية. والسلطات من هذه الشاكلة، التي وضعت نفسها فوق الدولة والشعب الذي يفترض انه هو مصدر السلطات، تندفع عادة الى تضييق مساحات الهامش الديمقراطي، والى المصادرة المتصاعدة لحرية التعبير والنقد، عادّة ذلك إساءة للدولة وجرما مرتكبا وفق القانون،  وهذا امر خطر في بلد مثل  العراق، حيث ضعف البناء المؤسسي للدولة والتداخل الكبير في الصلاحيات والمسؤوليات، فيما لا تزال بعض مواد القوانين مصاغة بما كان يشتهي الحاكم الدكتاتور آنذاك، والذي كان كثيرا ما يردد ان القانون ليس اكثر من "ورقة نوقعها". وبفعل مثل هذه المواقف وابتلاع السلطة للدولة، فان التغيير الذي طالها والأسلوب المتبع في ذلك،   أديا  عمليا الى انهيار مؤسسات الدولة، وقد حصل هذا في العراق وسوريا وليبيا.

من جانب اخر وعندما تختفي الحدود بين السلطة والدولة، يطلق العنان لعملية اختراق مؤسسات الدولة وتوظيفها لادامة هيمنة ونفوذ المنظومة الحاكمة، وحتى يمكن جرجرة القضاء وابعاده عن حياديته، ليتخذ قرارات واحكاما تشي بجنبة سياسية واضحة، فيما تدفع الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية لتكون حامية للنظام بدل الوطن والمواطنين.

ويتوجب القول ان تأشير خطأ المساواة بين الكيانين (السلطة والدولة) ليس ترفا فكريا او تنظيرا خارج السياقات، فالتجارب تبيّن انه كلما جرى الامعان في ذلك، كلما ضاعت فرص بناء دولة مؤسسات، تقدم خدماتها للمواطنين وليس للمنظومة الحاكمة وطواقمها، وتعجز عن القيام بواجباتها، وتتلاشى إمكانية انفاذ القانون على الجميع، ويقود كل ذلك الى هشاشة الوضع ، وحالة عدم الاستقرار. 

ان إدراك ضرورة الفصل بين السلطة والدولة، وعدم تداخل صلاحيات السلطات الثلاث، يعد خطوة هامة على طريق بناء دولة فاعلة، تستمد هيبتها أولا وقبل كل شيء من ثقة المواطنين بها وبمؤسساتها، وبالتزامن مع منظومة حكم رشيد يتمتع بالشرعية القانونية والشعبية. ولن يتحقق ذلك الا عبر اعتماد ديمقراطية حقة، نهجا وحكما وقيما وأسلوب بناء وإدارة للدولة ومؤسساتها.