اخر الاخبار

تحل هذه الأيام الذكرى السادسة لانتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩ المجيدة، ذكرى أيام الغضب الجماهيري والرفض والتحدي. 

كانت انتفاضة تشرين صرخة مدوية بوجه الظلم والفساد والتعسف والمحاصصة، والاستهتار بحقوق المواطنين والتمييز بينهم، وضياع فرص ثمينة للبناء والإعمار، وإهدار المال العام، وتغوّل المليشيات، وثلم سيادة البلد واستقلاله، وفقدان القدرة على امتلاك ناصية القرار الوطني المستقل. 

لم تكن انتفاضة تشرين لحظة عابرة، فقد جاءت تتويجا لتظاهرات واحتجاجات انطلقت منذ شباط ٢٠١١، وتراكمت أسبابها عبر سنوات عجاف من التهميش والإقصاء، ومن شيوع الفقر والبطالة وسوء الخدمات، وتفشي الفساد، وزيادة حدة التمايز المجتمعي والطبقي، وتعاظم سطوة الأقلية الحاكمة الملتحفة بالمحاصصة الطائفية والاثنية وتسييس الدين، والمستقوية بالسلاح المنفلت، والمتماهية مع أجندات خارجية على حساب قضايا الوطن والمواطنين. 

لم تكن الانتفاضة تخص فئة معينة من مجتمعنا العراقي المتعدد، ورغم ان الشباب كان لهم القدح المعلّى فيها وفي انطلاقتها واستمرارها ما يزيد عن عام، فإن الملايين التي شاركت فيها ودعمتها، كانت من كل الأطياف والأعمار، ومن النساء والرجال. لذلك حملت بحق الهوية الوطنية الجامعة، التي جسدها شعار المنتفضين "نريد وطن". 

وكسرت الانتفاضة حاجز الخوف، وأسقطت حالة اليأس والقنوط. فكان المواطنون يقبلون على ساحات الرفض والاحتجاج وخيام الصمود، أفواجاً وجماعات، رغم الأساليب الدنيئة التي استخدمت ضدهم، وجرائم "القناص" و"الطرف الثالث" المجهول المعلوم. 

وأشهر القتلة في رعبهم وخوفهم من الشعب وإرادته وتصميمه على اجتراح المآثر، كل ما في ترسانتهم من القمع والتنكيل والخطف والاغتيالات والتصفيات وانتزاع البراءات، ومارسوا صنوف التشويه والكذب والافتراء. لكن إرادة المنتفضين وعدالة مطالبهم كانت أقوى من هذا كله. 

ولأن تشرين كابوس مزعج يقضّ مضاجع المتنفذين، بعد ان عرّاهم حد النخاع، وأسقط ورقة التوت عنهم، وغدا رمزاً لا تمر ذكراه حتى تتصاعد أصواتهم نشازا، مرددة تهماً سبق للمنتفضين ان مزقوها بصمودهم وتضحياتهم الجمة، وبدماء كل الشهداء البررة. ولكن من أين للمرتعشين خوفاً على المصالح والنفوذ، أن يتعظوا بدروس هذا الحدث العظيم في تاريخ العراق المعاصر، وذلك التصويت الجماعي الرافض لمنظومة الحكم المحاصصاتية ونهجها؟ 

ورغم كل ترسانة معاداة انتفاضة تشرين، فهي تبقى الأمل المتجدد. فما أدى إلى انطلاقها من أسباب ودوافع، ما زال يعتمل إن لم يكبر ويتضخم بفعل الواقع المرّ المعاش. وهو ما يدفع المواطنين إلى مختلف أشكال الحراك الجماهيري، مطالبين بحياة كريمة آمنة خالية من التمييز، وبوطن يتسع للجميع. 

ستة أعوام مرت على الانتفاضة، وما زالت السلطات تماطل في الكشف عن قتلة المتظاهرين، وهو استحقاق لابد أن يتحقق، ومطلب لا يسقط بتقادم الزمن. إضافة إلى ذلك ما زالت التهم الكيدية تلاحق الناشطين والفاعلين الاجتماعيين، وهي تُحرّك في مواجهة كل حراك جماهيري، فيما يفترض أن تتوقف حالا ويُبرّأ كل ما طالته هذه التهم الباطلة ويطلق سراحهم . كما ما زال العديد من عوائل الشهداء ينتظرون انصافهم، رغم كل الوعود التي أغدقت عليهم وما زالت تُغدق، ويبقى مطلب الكشف عن المفقودين والمغيّبين حاضراً. 

واليوم أيضاً، يبدو أن المتنفذين لم يتعظوا بدروس وعبر الـ ٢٢ سنة الماضية، فاستمرار التعرض للتحركات الاجتماعية والمطلبية واستخدام العنف لقمعها، والسعي بأشكال مختلفة إلى تكميم الأفواه، لن يحمي المتنفذين ولن يزيد الأمور إلا تعقيداً. فمثل هذه الإجراءات تُراكم السخط، الذي قد ينفجر في أية لحظة، وينعصف كالمارد الجبار ويقلب الطاولة والموازين. 

ان الانتفاضة بكل ما حملت من قيم نبيلة، وما أفرزت من دروس ثمينة، عصيةٌ على محاولات النيل منها من جانب الطارئين الساعين الى مصالحهم الضيقة. وستظل حافزاً قوياً لمزيد من العطاء، حتى تشرق شمس الحرية وينال المواطنون مطالبهم، وتلبى حاجات الأجيال الشابة بشكل خاص، ويضمن مستقبلهم في عراق آمن ومستقر، يتمتع فيه الجميع بحقوقهم على وفق تكافؤ الفرص. 

من جانب آخر وإذ تشتد اليوم الحاجة إلى تغيير شامل بمشروع وطني عراقي، فإن الانتفاضة قالت لنا بوضوح أن هذا ممكن وليس مستحيلاً، شرط أن تكون البوصلة صحيحة وسليمة، وان يكون المطلب هدفاً لأوسع اصطفاف شعبي وسياسي، وهو ما يستحق استمرار العمل لتحقيقه وبناء مقوماته، ومراكمة النجاح، والارتقاء بالتنظيم وبأساليب العمل ووحدة الإرادة والعمل.

وبالرغم من إن الانتفاضة لم تحقق كامل أهدافها، فإن التضحيات السخية على طريقها، رسخت وعيًا متقدًا لدى شرائح واسعة من المجتمع، وأشرت بداية يصعب التراجع عنها، مهما قست الظروف وتعقدت الأوضاع. 

وقالت الانتفاضة بنحو جلي، أن لا أمان ولا استقرار ولا تنمية، مع استمرار نهج المحاصصة، التي أصبح من المهم والملحّ التخلص منها ومن نهجها والمتشبثين به. فاستمرار حكم المنظومة القائمة لا يعني إلا المزيد من الأزمات والنكبات، ومن التدهور على شتى الصعد. 

في الظروف الصعبة التي يمر بها بلدنا اليوم، والتحديات الجمة التي تواجهه، حريٌّ بقوى التغيير والمكتوين بالأزمات وتداعياتها، ان يعتمدوا العمل الحثيث والمنظم والمتصاعد، لانتزاع الحقوق وفرض إرادة الشعب وإنقاذ البلاد، وأن يجعلوا من المشاركة الواسعة في الانتخابات سبيلا الى ذلك، والى دحر منظومة المحاصصة، وإحلال البديل المدني الديمقراطي، وبناء دولة المؤسسات والقانون والمواطنة والعدالة الاجتماعية.