اخر الاخبار

( 1 )

في مدن الجنوب ، يكون الماء والغناء والحزن في المستقر الأخير ، تكون البدايات التي لاتنتهي الّا ببدايات أُخرى . ومن غريزة الطبيعة ، أن يعشق النهر انحدارات الجنوب . وعن الجنوب يقول نيتشه ( نحن بحاجةٍ الى الجنوب) .

نعم ، كنّا وسنكون بحاجة الى الجنوب ، ومثل هذه الحاجة حتّمت علينا أن نبحث في سريّة هذا الجنوب ،ونكشف ،لماذا كانت الحاجة..؟

في كتاب (مشوار العمر..الشاعر مطشر عبد النبي المجرّاوي ) إعداد الشاعر عبد الامير مطشر، نطمإن ونتطامن كثيراً على حيوية الحاجة مهما علاها الغبار ومهما فعل الزمن فعلته الوجودية . وهكذا يُقلّب الإبن صناديق أبيه ليرث َ الكنز ، غير أنهُ لايكتنز الميراث ، وانما يُهديه لنا ، نحن أصحاب الحاجة إلى الجنوب .

( 2 )

إن َّ الكنز لم يكن سوى أوراق ودفاترالشاعر الكبير مطشر عبد النبي المجرّاوي ( ميسان /المجر الكبير1898_1969 )..، تركات مدثرة بالأصفر والرمادي ، غير أنها سرعان ماتنكشف بالفضّي من أقل ملامسة إصبعٍ يجيد الإزاحة ، إزاحة غبار الصفرة والرماد ، وهذا ما فعلهُ الإبن الشاعر أيضاً ،حتى وإن كانت تلك الفضيّة تجسّها المسامع شفاهياً .

مطشر عبد النبي ، شاعر شعبي بفطرة النقاء ،لايجيد القراءة والكتابة ، إلا أنهُ يجيد النطق الشعري مدفوعاً بفعل موهبة كبيرة تراكم فيها الحزن والغناء ،وتوتر الذات بفعل إيقاع حياتي كثير النشازات الحادّة ، كثير التقاطعات مع المسرّات التي لم تحصل  :

 تدري ابنحولي اشوصّلت ..

عجزان من شيل الهِدم  ...

إمتلك هذا الشاعر مساحة واسعة من الإنتشار شفاهياً ، وتوازى مع شعراء كبار من مجايليه ، وانتُحِلَ شعره بسبب الشفاهية هذه ، وقد شاعت الكثير من الاغاني الريفية من شعره منسوبة لغيره ( اهنا يمن چنه اوچنت ،ياطبيب اصواب دلالي كلف ) وغيرها . من هنا يكون هذا الكتاب تصحيحاً وتوثيقاً وإعادة َاعتبار وتقييم لمسيرة تجربة شعرية واسعة ومثيرة .

( 3 )

يُجيد الشاعر الكتابة في كل ألوان الشعر الشعبي، ولهُ لمسات إضافة تنسجم مع حدود تجربته ولونه وحياته .وقد تضمن الكتاب فصولاً متنوعة : مسار حياته ، القصائد الحسينية، قصائد الرثاء، قصائد المديح، القصائد الغزلية، الموّال ،الابوذية ، مقدمات وكتابات عن أهمية الشاعر لعدد من أدباء ميسان اللامعين .

ومما يصح إيراده ، أن  الشاعر الكبير مظفر النواب ، قد أشار بإعجاب إلى موالات الشاعر مطشر عبد النبي في أكثر من حديث ولقاء ، مُشخصّاً نوعها وجمالها اللغوي ودقّة صياغاتها ، وبالتالي طبيعة تميزها وحضورها الإبداعي المستمر:

ارداي ثوب الصبر وإعله النوايب جلد

 واللي نخاني اطيحن دوم جلد وجلد

 اطعن اكَلوب العده إو بالروس أجلد جلد

 واعتني الزينات في سابع سمه لوسمن

 إو لركَاب الانذال آنه مشتري لوسمن

 يل كَلت لحم الچلب من ياكله لوسمن

 اليوم اكو انذال تاكل لحمته والجلد .

جاء كتاب  ( مشوار العمر ) ب443 صفحة من القطع الكبير، منشورات دار سطور في بغداد ، ليكون البيان اللاحق لترسيخ حاجتنا إلى الجنوب ، وكم كان وفاء الإبن ملوناً بماء الجنوب ، وقصب الجنوب، وقد امتزج الدمع بخضرة ٍ كونية....