اخر الاخبار

الشعر سلوك حياة قبل أن يكون أوزاناً فراهيدية، هذا المفهوم يتكون بمرور الوقت داخل الوجدان من خلال الظروف، والمناخات المختلفة التي تغذي تجربة الشاعر كالثورات الاجتماعية، والتحولات السياسية، وتتبلور هذه العناصر في نفس الشاعر لتولد قصيدة تحمل من روح شاعرها ما يحمل الجنين من روح وصفات أمه. وجاءت تجربة الشاعر عزيز السماوي تأكيداً لعمق صلة الشاعر بمحيطه العام حيث نشأ وترعرع في بيئة مشحونة ببلاغة المفردة، وإيقاع حميمي جعل قصيدته رائدة على أبناء جيله:

وميض الشيب بالظلمة حمام أبيض

دخن دم أصابيعي وطن

حنيني يوج صهيل الخيل بالظلمة وطن

الجمرة وردة بغير دخان.

كان الشاعر الكبير عزيز السماوي واحد من مجددي الشعر العامي العراقي،ويذكر أنه كان يختار التواجد بين الكادحين والفلاحين، منطلقاً بذلك من فكر يساري تبنته أسرته آنذاك، وكان لأخويه الشاعر شاكر السماوي ، والروائي سعدي السماوي تأثيرا كبيرا على شخصيته، وتعتبر أسرة بيت السماوي من الأسر المؤثرة في المجتمع الديواني في ستينات القرن الماضي، وفاعلة في المشهد الثقافي العراقي على الصعيد الثقافي والسياسي، ولها مواقف واضحة تجاه سلطات القمع والتجهيل.

مهر مجنون بالظلمة

نهر أعمى يضوي من ورى الظلمة

أخاف

أخاف

أخاف وما أخاف.

لقد أثرت هذه الأجواء كثيراً على  الشاعر عزيز السماوي ، فكانت قصائده مزيجاً من الحراك الثوري والتجديد الشعري، وتمتعت قصيدته بصور شعرية لم يسبقه إليها أحد، وقد اتهمه الكثير بعدم فهمه للشعر، لكنه أصرّ على مواصلة الدرب رفقة صديقي الأوحد الشاعر علي الشباني، الذي لم يدخر جهدا في مساندة مشروع صاحب (أغاني الدرويش) وظل على تواصل معه حتى بعد أن اختار عزيراً من لندن منفًى له. كانت حياة شاعرنا السماوي محتدمة بالأحداث الصاخبة، والمعاناة الشخصية القاسية، لكنه استطاع أن يوظف كل هذه العذابات لصالح الشعر والعمل على تجديده بعد أن تحول لمراثي للجنون كما يصفه في أحد لقاءته. وتميزت قصائده بتصوير الألم الإنساني كما في قصيدته الشهيرة (أغاني الدرويش) حيث يقول:

أحس الراس نسر يصير

يطك جنح بجنح ويطير

كان لهذه القصيدة (أغاني الدرويش) عندما قُرئت في المهرجان الأول للشعر العامي المقام آنذاك في محافظة (الناصرية) صدًى مدوٍ، حيث صُدم الجميع بطريقة البناء واللغة التي تضمنتها هذه القصيدة، وكيف لشاعر بعمر الفتوة أن يأتي بكل هذه اللافتات الاحتجاجية، والصور الشعرية التي عجز الكبار من الوصول اليها. أصدر عزيز السماوي العديد من الكتب الشعرية، وكان أولها كتابه (أغاني الدرويش) ثم (النهر الأعمى) وصولاً إلى (بانوراما عراقية) وكان الهم العراقي هو الخيط الناظم لجميع ما أصدر، ولم يتخلى عن الإحساس حتى في منفاه فنسمعه ينشد من بلد الثلج :

أوج من الفرح شمسين

دلوني العراق منين

دلوني أهد روحي حمامة من الفرح لهناك

نجمة بلا سمة ذكراك.

في هذا المقطوعة الشعرية يرسم لنا السماوي لوحة الغريب التائه في مدن العالم، كأنه يقول أن الإنسان بلا وطن أشبه بنجمة بلا سماء تحتضنها لترفع من مقامها. فنراه دائم الحنين والبكاء على وطن أبعدته الدكتاتوريات عنه قسراً.

انت السيف ويموت الضوة يمك

دمك سال

ولك فوك الثلج دمّك

يمّه اكعد

أحشّم كل بنات الناس

تهلهل للضوه اليلمض

ينتمي عزيز السماوي لضفة الشعراء المثقفين، فكان من القراء المتميزين، وتربطه علاقات صداقة بكبار الكتّاب والفنانين كالفنان فيصل لعيبي الذي وضع تخطيطات شعريه لجميع دواوينه الصادرة، وعبد الحسين شعبان، ومظفر النواب، والهام المدفعي، وقد امتدت علاقته لتعبر العراق حيث جمعته صداقات  ثقافية مع مثقفين عرب احتفوا بمنجزه الشعري، وكتبوا عنه أوراقاً نقدية كتبها عز الدين مناصرة، وعبد الكريم الكاصد، وفوزي كريم، وغيرهم الكثير من الأقلام الرائدة والمميزة. تميز شعر عزيز السماوي بحضور الإيقاع الصوفي، حيث تشعر عند الاستماع لقصائده بانبعاث حلاجي طافح بجماليات اللامرئي، وهذه ميزة ثقافية تضاف لرصيده الشعري والثقافي، وهذا يدل على عمق قراءته ورؤيته للشعر والحياة كجسد واحد. فتجده ينظر للأشياء والإنسان بعين الأعماق كما في هذه القصيدة السابحة في فضاءات الدهشة والمرح الصوري.

إيديك . . طيوف

إيديك إنتَ ورد وطيوف

إيديك إنتَ خطف الوان

قوس من القزح وطيوف

إيديك . . إنتَ گمر عل ماي هيبه إو بظلام إطيوف

إيديك . .  إنتَ نجم سهران يلمض بالدموع إطيوف

إيديك . . الگمره و المهره

إومضيف بهيبه من يلتم حنين يشد جرح مكشوف

إيديك . . إنتَ حمام يهيم يخفگ بالقصيدة حروف

في النص أعلاه لم يكتف الشاعر بتأثيث قصائده بالأبعاد الصوفية، فنجده يذهب بالشعر صوب المسرح ليُضفي عليه بُعداً درامياً، وهذا واضح في تركيبه للجمل والصور الشعرية، وطريقة الالقاء التي هي أقرب للمسرحة، وكأن القول الشعر يخرج من أصابعه قبل لسانه. فقصائد السماوي لا تُقرأ إلا من قبل السماوي نفسه، لأنه الوحيد الذي يعلم بسرّ جمالها الدرامي.

عرض مقالات: