اخر الاخبار

يقول الروائي الانكليزي “ نيل جايمان “ ان الشجاعة لاتعني انك لست خائفا، الشجاعة معناها أن تكون خائفا، خائفا جدا، لكنك تفعل الصواب رغم ذلك” هذه المقولة قادتني الى احتفالية الحزب الشيوعي العراقي في الذكرى الثمانين لتأسيسه والذي توافق في العام 2013، وبالتحديد على قاعة سينما سمير أميس في بغداد حيث ألقى شاعرنا الكبير موفق محمد قصيدته الرائعة “ رسالة الى المتأسلمون” ولم أقل رائعة إعتباطا أو مجاملة لشاعر عشق الوطن بكل ما أوتي من قوة ولكن تأتي روعتها في مواجهة المتأسلمين الذين استعمروا حياة الوطن والمواطن بمفخخاتهم وبكواتم قتل الابرياء ليشيعوا لغة القبح على حساب أغاني جمالية الحياة.

“ خذوا ربكم الطائفية “

نعم الشاعر حين ألقى قصيدته تلك في زمن الخوف والذبح لم يقصد المسلم الحقيقي المؤمن بسماحة الدين وورعه وتقواه، بل كانت موجهة للمتأسلمين الذين كان همهم الأكبر سرقة المال العام من خلال الترهيب والقتل الممنهج تحت عباءة الدين مرتدين أقنعة التقوى ليستروا بها قباحة وجوههم وحقيقة مآربهم الدنيئة، فكان موفق موفقا بالتصدي لهم من خلال قصيدة مازج فيها الشعر الفصيح والشعبي لأنه أرادها ان تصل لعامة الناس غير آبه بالنتائج متصديا للقتلة برصاص القصيدة في ميدان الحرب وكأن دافعه للمواجهة  مقولة نيلسون مانديلا “ الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يتذوق الموت إلا مرة واحدة”، نعم أرى ابن شط الحلة هكذا وهو يصرخ بشجاعة أنبياء الشعر:” أيها السادة المتأسلمون، الحاكمون بأمر الله والمتحكمون برؤوس عباده، إرفعوا سيوفكم عن رقابنا وخذوا الفرص كلها، الدنيا والآخرة، والسماء ومن فيها، والأرض ومن عليها، خذوا ربكم المفخخة، خذوا ربكم الطائفية، خذوا ربكم الكاتمة، واتركوا لنا فرصة بناء عراق ينام به الله آمنا في سماءه”.

“ داعش” ونبوءة الشاعر

مرارة الشاعر في مستهل القصيدة تتجلى واضحة وكأنه لسان حال المرارة والمأساة التي يعيشها الناس بتلك الاعوام القاسية التي كانت فيها الطائفية الحاكم الشرعي للبلاد، ونرى الشاعر يحدد وبدقة أرباب القتل فجعل للمفخخات ربا، وللكواتم ربا، وللسيوف ربا، ومنحهم كل مايريدون من أجل بناء العراق وأن ينام الله الحقيقي آمنا في السماء وليس أربابهم المزيفون كما تبين القصيدة.

نبوءة الشاعر كانت أكثر من واضحة بالأشارة الى عصابات داعش الارهابية، على الرغم من كونه كتب القصيدة وألقاها قبل دخول داعش للعراق بشهور لانه ألقاها في آذار وعصابة القتلة دخلوا الموصل في حزيران من نفس العام 2013، وكانت لغة القتل السائدة عند الدواعش هي السيوف، وترجمها هو بقوله” ارفعوا سيوفكم عن رقابنا” وكم حصدت تلك السيوف الظلامية من رقاب.

شاعرنا الذي استهل شاردته برسم لوحة الوجع العراقي لم يتجاهل تاريخ الحزب ونضاله وتضحياته وهو يحتفل بتأسيسه فالتفت إليه وهو ينشد بعنفوانية القيّم “ كل هذا الظلام وأنت ترى، كل شيء ترى، تنام القرى على ساعديك، طويلا تنام القرى، فتحمل عنها جراح الذئاب وتحسن للجائعين القرى” ثم يلتفت الى الوراء مستذكرا معاناة الحزب وتاريخه المشرق والمشرّف وهويصرخ بشجاعة الرفيق الغيور” لاضير فليبنوا السجون، وليحشرونا في قطار الموت، في نكرة السلمان، في الغرف الظليمة والدوارس، سنحول السجان والجلاد والسجن الرهيب الى مدارس”  وهنا واجزم على ذلك بأن المدارس التي يقصدها هي لبناء انسان يؤمن تماما بحرية الاوطان وسعادة الشعوب “ وطن حر وشعب سعيد”.

“ زورها بكير ياعصفور”

الكبير موفق بعدها يدهشنا برحلة أمل صوب صوت الجبل الكبير وديع الصافي وهو يغني معه في بداية مقطعه الجديد اغنية الصافي “ زورها بكير ياعصفور”، بعد مستهل الاغنية يصمت الشاعر ويتحول الى صورة مأساوية أخرى، فما الذي دفع الشاعر لذكر عنوان الاغنية ثم تجاهلها، وحين استرجعت الاغنية وسمعتها بصوت صاحبها الصافي أدركت بأن هذا المهووس بعشق الوطن يطالبنا جميعا الى سماع تلك الاغنية لكونها حنين لديرة مضاعة يريد من عصفور القلب ان يزورها بعجالة ويتنعم بكل ما فيها من حياة بعد أن أرهقت نهاراتها خفافيش الظلام، وها أنا أنقل لكم مقطع كما أرادت امنية الشاعر دون أن يذكر ذلك:

“ زورها بكير ياعصفور،

وحياة هالنسمات والغيم والفيّات

والورد والريحان والمنثور

زورها بكير ياعصفور

واحكي لها ياما انشغل هالبال

من حرقة الفرقة

وهالقلب عالورقة

ماعاد عنده للحكي راسمال

“ نحجي طك بطك “

عاشق الوطن وشاعره بعد مستهل الاغنية ليبين لنا ماذا فعلوا القتلة بالعصافير، بالبلابل، بالحياة وهو يقول” لقد نتفوا ريش العصافير التي تقف فوق الزنازين خوفا من رسالة حب، واعدموا البلابل التي تحمل لنا تحايا الاهل رميا بالرصاص، وسدوا الثقوب التي نتنفس منها، فلم يتمكنوا من بصرتك وبصيرتك، فها أنت تعبر الثمانين، فتى تحمل العراق على كتفيك، لتنقذه من هذا الجب الدامي الذي لايعرف قراره أحد، فلا سيارة ولاهم يحزنون” ثم يطالب جميع العراقيين باللهجة الدارجة بعلو صوته وشأنه” بعد ميفيد نرمز نحجي طك بطك” ثم يخاطب الحزب صارخا بصراحته المعهودة” ياأيها المتنبأ بما نصطلي به الآن جميعا، لقد كنت عابرا للطوائف، لأنك عليم ببراكينها التي تتطاير بحممها الآن، تنورا ينسف تنورا، فمن يكنس لحم أولادنا في الطرقات، ومن لدماءنا التي تنام وحيدة مع الكلاب في الأزقة، فالطوائف صبح من اللافتات السود التي تلتف على أجساد امهاتنا، وليل يبتكر الظلمة والخفافيش، ليل قناص يقتل قمره ونجومه، وذئاب تعوي في العتمة “ بعد ميفيد نرمز احنه اهل الحك” وكأنه يربط هذا البيت الشعبي ببيته السابق من حيث المعنى والقافية” بعد ميفيد نرمز نحجي طك بطك.

“ من أي نجم قدّ شعرك “

الشاعر بعد ذلك يتنقل بنا في الشعرين الفصيح والشعبي عن معاناة الشعب وغايات واهداف الحكومات الفاسدة والعصابات المتنفذة، ووصية أم الشاعر التي تحذر الحكومات من شارة الحزب الشيوعي ومكانته التي تضر من يضره لكونه ناشدا وراشدا للحب والسلام، الى أن يتحول الى جزء مهم عاشه العراقيون مجبرين غير مخيرين “ الكتلتان المتصارعتان الآن، أعني الكتل السياسية والكتل الكونكريتية، كلاهما تتربعان على صدور العراقيين، وتطحن والناس نيام”.

يخاطب الحزب بعد ذلك معترفا بمناقبه وتضحياته” أيها الزاهد النبيل، مازلت في محرابك خاشعا، متصدعا من محنة العراق، فلقد انفطرت قلوب قبلك ولم تزل يافع القلب خضلا، ثمانين عاما وانت تضيء ليل العراق الطويل بكوكبة من شهداءك، وتهتف يسارا انظر، فلقد أكملت الدورة الوطنية وكهربت القرى وابتكرت العراق”. وفي ختام معلقة الشجاعة بزمن الخوف يخاطب شاعرنا الكبير حزبه قائلا” من أي حب قدّ صبرك، من أي نار قدّ صبرك، من أي طين قدّ صبرك”. وأنا المذهول بشجاعة القصيدة وصاحبها أقول: “ من أي نجم قدّ شعرك “.

عرض مقالات: