اخر الاخبار

في قصيدته الشعبية الباذخة بالشجن والعذوبة، يقف الشاعر العراقي موفق محمد عند بوابة الغياب، يطرقها بنداء ملؤه الرجاء والخذلان: "صدك وترد؟". سؤال يتكرّر حتى يصير نشيدًا داخليًّا، يتأرجح بين الأمل المر واليقين القاسي بأن من ننتظرهم لا يعودون.

القصيدة – التي تنتمي إلى المدرسة العاطفية في الشعر الشعبي العراقي – تستند إلى بنية بسيطة في ظاهرها، عميقة في جوهرها. يبدأ الشاعر بلوعة القلب المفجوع، ويجسّده بجناح عصفور لا يقوى على احتمال الفُرقة:

"يلگلبي جنح عصفور من فرگاك

 يرف ايگول اريد الگاك وتلگاك"

القلب هنا لا ينبض، بل يرفّ، يرتعش، يتشوّق، في استعارة توحي بالهشاشة والقلق. إنه قلب متيم، ما زال يرفض التصديق بأن الحبيب رحل، وأن لا سبيل إلى لقائه من جديد.

وبين طيّات هذا الانتظار العصيّ، تتصاعد حرارة التضحيات، فيقول:

"مرة وتجرع الحنظل

غريبة وتلهم الزرنيخ

مشچولة شچل بالصيخ"

تتخذ المعاناة هنا طابعًا جسديًا حادًا، فالغياب ليس مجرد فقد معنوي، بل ألم ملموس، يلسع الجسد، يُسمّمه، يُشوّه الحواس. ومع ذلك، يظلّ الحب أقوى من السمّ.

في الفقرة الوسطى من القصيدة، ينهض الخيال الشعري مزدهرًا برموز الحياة والخصب:

"وجمعلك ورد قداح

جوري

لا

اجمعلك ضوه عيوني

وتلگاها حديقة الروح

 خضره

 والشجر نومي"

لا يقدّم الشاعر وردًا فقط، بل يهب عينيه، ليزرع بهما حديقة في روح الحبيب. هذه المبالغة العاطفية ليست من باب التزيين، بل من طبيعة اللغة العاشقة، حيث لا توجد حدود بين الجسد والرمز، بين الواقع والحلم.

ويبلغ الأمل ذروته حين يتخيل الشاعر عودة الغائب:

"اجه الغايب

هلهلن يا بنات العم

اجه الغايب

ابچنه بدمع من سم

اجه الغايب

لفنه ابچفن اظلم"

لكن هذه العودة ليست حقيقية، بل مزيج من الحلم والتهيؤ، من أصداء الماضي والتمنّي، حتى ينقلب كلّ شيء في آخر بيت، حيث تنقضّ الحقيقة كالصفعة:

" چذب ما ترد"

بهذا السطر القصير، ينقلب البناء العاطفي للقصيدة رأسًا على عقب. كل الأمنيات، كل الاستعارات، كل البكاء كان وهمًا. الغائب لن يعود. النهاية ليست مجرد يأس، بل إدراك مؤلم لطبيعة الخيبة.

إن "صدك وترد" ليست فقط قصيدة حب، بل مرآة دقيقة لقلق الإنسان العراقي، الذي اعتاد على انتظار الغائبين، سواء كانوا أحبّة أو أوطانًا أو أحلامًا ضائعة. بأسلوبه الشعبي الرهيف، يرسم موفق محمد خريطة وجدانية للانتظار، ثم يهدمها بجملة واحدة صارخة: "جذب ما ترد".

هي قصيدة يمكن أن تُغنّى كما يمكن أن تُبكى، يمكن أن تُقرأ في ليالٍ وحيدة أو في مجاميع سامرة، لكنها في كل الأحوال، تظلّ واحدة من أبرز نصوص الشعر الشعبي المعاصر التي جمعت بين بساطة اللفظ وعمق الشعور.