اخر الاخبار

(شذرات) كامل الركابي هي جمرات، طالت أم قصرت؟

(حقل حبك جمر، مزروع برماد وروحي سنبل ما يبس بعد الحصاد)، تبقى الحقائق الكبرى هيَ هيَ وإن غطاها ضدُّها الذي يخدع الآخرين، فيأخذون الظاهر، كمثل الذين يرون كومة رماد غطت الجمر، ويفوتهم أن الجمر، فيأخذون الظاهر، كمثل الذين يرون كومة رماد غطت الجمر، ويفوتهم أن الجمر لمَا يزل تحت الرماد، وكمثل السنبل، وإن جثته مناجل الأيام، فأنه يبقى رمز خير حين يصير رغيفاً، فالحقيقة جوهر لا يخفى على أحد وإن غطتها أباطيل، كمثل نار الحب، الحب الصافي الحقيقي:

النار، نار الحب

تشعل داخلك، لليوم خضرة تستعر

تتجدد وما تنطفي

رغم التجاعيد البدت تحت الوجه ما تختفي)

إن الركابي يكتب بوعيِ مثقف يبحث عن حقائق غطاعا غبار حتى حجب جوهرها، ولا شك إن كتابةً من هذا النوع تبحث عن الجوهر فتغوص في الأعماق لتجد الفكرة، وبما أنّ المكتوب شعر، فلا بُدّ إِذاً من الشعرية، والركابي – كما أرى- يمسك بطَرفَي المعادلة، الفكرةِ وشكل التعبير عنها، فالفكرة موحية وهي حجر الزاوية التي ينبثق منها شلال الجمال بالألفاظ والصور وعلى المتلقي أن يشد حبلاً بينه وبين النص كي يصل الى عالم الجمال، متفاعلاً ومكتشفاً، وهذا نصُّ (نرجس) أنموذجاً:

(الشجره رسمت نهر

واتلمست حِسَّه

والنهر جي نرجسي

ظل يرسم بنفسَهْ)

النص ومضة (شذرة)، يفيض شعرية، فالشجرة بخضرتها التي تجود بها للطير والبشر لتعبر عن جوهرها، غي مبتغية ثواباً، إنها تريد أن تشكر النهر، فرسمته لأنه أَمدّها بالحياة، وتوغلِ الشجرة في الأعلان عن شكرها، فتسعى لسماع صوت النهر فتمتد أصابعُها (أغصانها)، متلمسة صوت النهر، والصوت يُسمع ولا يُتلمس، لكن هو الشعر، وهي الشعرية، ولكي لا تهرب الصورة من إِطارها، بلاحق الشاعر النصف الثاني من الفكرة، فيغادر الشجرة الى النهر الذي لا يشكر الشجرَةَ لِنبل فعلهاِ، بل يغرق في ذاته النرجسية، فيرسم (نفسَه)، موغلاً في النرجسية (ظَل يرسم بنفسَه)، ناسياً أو متناسياً الشجرة، فيا للمفارقة حين يقابل الأحسان بالنكران، ولا يخفى على أَحد أن الشجرة ما كانت لتكون لولا ماء النهر، ولكن ما قيمة نهر بلاضفاف خضر، ففي الكون (وحدة وجود)، ولا يمكن أن نعزل مظهراً فيه عن المظاهر الأخرى، هذه الصورة بين الشجرة وبين النهر عبرت عن علاقات مضطربة بين البشر أنفسهم، بين الشاعر وأفكاره من جهة، وبين أخرين من جهة أُخرى، مما يمنح النص يُعداً إِنسانياً يمنحه خلوداً بتأثيره في كل قارئ مهما أختلف الزمان والمكان، ويبدو أن (نرجس) نص أقرب ما يكون الى تجربة وأحاسيس الشاعر الركابي حتى إنه وضعه على الغلاف الأخير، مطبوعاً بحروف بيض، بياضها يمتص بعضاً من سوداوية أحلام الشاعر حيث الحسرات والأحزان والخسارات، هذه العوالم هي مصدر الهام الركابي في أغلب ما كتب، وما هذا بغريب، لأن عالم الأبداع في كل لون من ألوانه، من شعر ونثر وموسيقى ومسرح... الخ، يستفي من الألم والحسرة والحزن العميق اكثر مما يستقي من الفرح:

(وجهي حزن قافلة

مابين بَصْره وشام

ضاعت ويمكن تجي

لو ما تجي وتختفي

إتبيّن مع الايام)

كل هذه المعاناة يتجرعها الشاعر حتى لا يذل ولا يخضع للجور أو يستسلم له:

كون روحي تصير نجمة

وروحك إلها تصير يحبيب منار

تحتمل بُعد المسافة والتشظي والكسر والانشطار وغفله منك تشتعل بالنار، نار)

كل هذه الصور يصوغها الركابي [بأسلوب فيه ما فيه من الحداثة حتى في تجنيس ديوانه هذا بأنه (شعر عامي عراقي) ولم يقل: (شعر شعبي)، ولا شك عندي أن وصف (عامي) هو الأدق، وإن كان الشائع هو (شعبي)، والركابي في حداثته الشعرية يشير الى بعض رموزها كعوني كرومي في مسرحه، وفيصل لعيبي في تشكيله وشارلي شابلن في ابداعه السينمائي، فهو كما وصفتُه في كتابي (من حدائق الشعر الشعبي)2:

(يصوغ لقى مستلة من روح العصر والحداثة تجسيداً لمعاناة مَن حمل الوطن في قلبه حتى تشّرب حبه في كل مساماته عاطفة وفكراً، ولكنه حصد الملاحقة والغربة المفروضة عليه، لذلك فهو يعوض عن هذه المعاناة بالحلم معادلاً موضوعياً لكل خساراته) فهو يحلم ويحلم حتى إن الحلم جاء عنواناً لثلاث شذرات في الصفحات 17، 19، 67، كما جاء بصور مختلفة في شذرات أخرى، ولعل (ضياع) أنموذج مدهش لشعرية الحلم:

(نسمه غريبة هزّت رموشك

سَمَر ليل ابجنحها وصارت رموشك جنح،

ترافِگن طارن سوية الليل كِلّه وكبل ما يطلع صبح

ذيج ردتْ من طبايعها لهلها

وهاي ظلت دايخةابرسم المصير

لاتريد ترد رمش لعيونها وتنسه تطير

ولا تگلتها حمامة ازغيره ومضيعة جنح)

أليست (ضياع) صورة حلمية، فثمة نسمة ورموش تلاقيا ليلاً، ثم طِرنَ كل الليل والنسمة تعود من حيث أتت، والرموش تبقى تنقاى وتتقلب على جمرة الحيرة، ما أجمل هذا السرد الشعري الذي جمع الحدث والشخصية بلغة أقامت التوترات والشد بين معنىً وآخر! هذا الأبداع هو لُحمة (شذرات) وسداها، يجده القارئ في (الناسي) و (المغادرة) و...و، عدا (العراقي) التي جاءت مباشرة – كما أرى – وكأنها ليست من شعر الركابي، ولكن لكل جواد كبوة ولكل قلم نبوة.

هذه سياحة سريعة (في شذرات) كامل الركابي لا تغني عن قراءة الديوان الصغير حجماً، الكبير فناً ومعنىً.

  1. شذرات/ دار الرواد المزدهرة/ بغداد 2021.
  2. دار ثائر العصامي/ بغداد/ 2021 ص73.
عرض مقالات: