اخر الاخبار

كان يومًا عاديًا جدًا ذاك الذي استمعتُ فيه إلى «تلملمن». لم أكن أعلمُ حينها أن ما سيليها من وقت لن يكون عاديًا أبدًا، فقد هطل عليّ حزن كبير وكثير كغيمة حرمس. أغنية تولّت، بدلًا منّي، الإجابة عن سؤال أحبّتي: شيوجعك، وشني المضيج خلگك يا سلمان؟ شعرتُ معها أني أفقد أو أحوز شيئًا مهمًّا لا أدريه. أغنية تملأ الوقت والمكان بالحسرة، فكأنّ دقائقها دهرٌ وأنغامها تضاريسٌ وأنواءٌ. أغنية زاهدة ناسكة متبتّلة، شعرتُ مع الباذخ من لوعتها ألّا معنى لياء التملّك إلّا حين أردّد نادبًا متفجّعًا: يا روحي، ومعها آه طويلة تسبقها أو تليها. أغنية تلائم تمامًا مزاج ليالي الالتحاق بجبهات الحروب العبثيّة، أو تكاثف سحب حزن طارئ، فهي كأمّ ذويل بين نجوم الأغاني، لا نسمعها إلّا كلّ مائة عام وخيبة.

    صوتك فيها، يا كريم، يدعونا بصدقٍ إلى المحافظة على أسمالنا السود والحرص عليها، فلا ندري، ولا أنتَ، متى سنرتديها ثانيةً. شممتُ في «تلملمن» رائحة شعواط دمي، ورأيتُ وهج عطّابتك، وسمعتُ هسيسها، وهي تنزف سخونتها على صدغي، فتريحه لدقائق ثم يعود استعار الضيم فيه. أغنية تسحن الروح مع شموع الأفراح التي انطفأت والأيام الحلوة التي رحلت، والصبر الذي شحّ..

  كريم.. أكنتَ تعلم أن العمارة مكان آمن للغناء والحبّ فاخترتَ أن تكون هناك لأنها الأصلح من بين مدننا كلها لتنزف «تلملمن»؟ أكنتَ تدري، وأنت تبوح بأسرارها، أن لك وحدكَ حقّ أن تبكي وتُبكينا على وطن لم نشهد غير نزفه، فآويتنا في خيمة «تلملمن» لتلملم نزوحَ أرواحنا؟ لماذا إذن لا تشفع الأغنية بلازمة أهلنا الذين يحبّونك وتحبّهم:» زَتهم ورد مايوس گلبي» لأنهم ينتظرونها منك ليكتملَ ما بدأتَه أنتَ من مراسيم دفن لأحلامنا العراض بوطنٍ اكتفى بأن يكون مكانًا لنموت فيه فقط.. أهلنا الذين ما حفظوا في وطنهم، عن ظهر ضيم، غير السكك الموحشة إلى قبور أحبّتهم؟

 وتلملمن...

الأغنية يا كريم، أي أغنية، احتيال على الحزن، أو ترويض له، أو إرجاء لمواجهة تداعياته أو تلطيفها، أو هي إنعاش للذاكرة وتنشيط لها لتحفر بإزميل الوجد لحظاتنا الكثيفة مع امرأة نجزم أنها أصل الوجود، وكلُّ ما عداه فروع له. أما «تلملمن» فتضيف مهمّة توثيقيّة أخرى، فكأنك فيها تحصي علينا تواتر الخيبات في محاريب عشق كبير لوطن يجري فيه الدم ناصعًا غزيرًا كغزارة أنهاره.

في «تلملمن» قداسة، ليس لأن من صاغوا سبيكتها جنوبيون كلّهم، وليس لأنّهم قدّيسون في صنع الحزن النبيل، بل لأنها تشبه الطاسة التي تنثر أمهاتُنا ماءها ونحن في الطريق إلى ما لا ندري، وبهذا ضمنتْ خلودها. وفيها ما يُسكرُ، لأن ما تقطّر من « هيّه حيرة» من سوائل اللحن والكلام والصوت كافٍ ليوجز مأزقنا الكبير.

يا كاظم فندي، يا سعدون قاسم، وأنت يا كريم: تأكّدوا أن يدنا، يدَ الغريق، ما زالت «تعمت» بانتظار «وصلة جزيرة»..

عرض مقالات: