اخر الاخبار

  «يحقّ لمن يحبّ وحده أن يلومَ وينصحَ» تورجنيف

حرف أبجديّ في الّلغة، لكنّ مخرجه شغاف القلب والشفتين حين تبوحان بالجميل مما يضمر الجنوبيون من أسرار، ويتمنّون أن يقولوا. تخلّت عنه ألسنة العرب كلّهم، وتلاقفه جنوبيو العراق ليدحضوا بنطقه وتائر الركود وكسل القلب وعجزه. نون مُطمَئنّة مُطَمئِنَة برغم ما بوقت الجنوبيين من احتشاد هلع وفائض قلق، فتسالموا على جدواها. نون، تصلحُ قَسمًا على حُسن الظنّ، وتقسيمًا للمجدي من القول من سواه. قلتُ لها ذات وجد، تلك التي يتوزّع سكنُها بين شطّين وهور، آمنًا رخيًّا:

ـ لا تتعمّدي إيذائي بالغياب، فمع غيابك قد يوقف قلبي نبضه.

قالتْ، أو كتبتْ:

ـ لا... بعد ما أغيبن... عهد.

كان يمكن أن تكتب لا وحدها، غير أن الّلغة عندها، كأيّة جنوبيّة، تفقد المعنى المرجو إن لم يصاحبها دخان استعار. لغتها عينُ ذاتها، فهي تتجسّس على خلاياها وتنقل اللهب النقي فيه، وتحشده في نون ساكنة.

تريد حبيبتي أن تمنح نفسها ومستمعيها طلاقةَ النطق وإطلاقه لأنّها اعتادت ألّا ترضى بغير الجوهريّ، فتكوّر شفتيها، أو أصابعها، مع نون ساكنة. وقلتُ لها إثر إصابة ريشيّة في مقتبل الصدر، أخطأتِ القلب:

ـ حين أكون معكِ، ولو افتراضيًّا، وحين يتركّز الوجود كلّه في مساحة الكيبورد الصغير، أجدني مضاعفًا ممتدًّا، ومزهوًّا باخضرار طارئ. ردّت:

ـ أريدن حروفي الأعرفها.... حچيك ما يثمر وي شراييني.

معها حقّ، فحبيبتي تنصّ على وجودها بنون ساكنة تتربّع على أبجديّتها الصوتيّة والمكتوبة. نون تتوسّط العذوبة، مع احتمال لا تنكره، أنّها أقرب للعذاب. نون تعبّئ سامعها بقناعة أنّها أروع ما لدى قائلها وأجمله، فينزلها منزلة العينين السامية من الوجه. قالت لي، وهي على وشك أن تُحرق بَنانها بكثرة التحديق فيها: شگولن من أريدن أوصفنّك؟ احترتُ إن كان سؤالها استفهامًا أو دلالًا.. ففي جرسه اختفى هدوء الّلغة، الذي اعتدتُه، وسئمتُه.

تنتصر حبيبتي بنونها الجنوبيّة الصاخبة على حاضرها الهشّ برغم يقينها أن نونها حكر عليها وعلى مَن يشاكلها في صلته الوثيقة بمروز الشلب وبلوريّة الماء حينًا ودهلاه حينًا آخر. ترى حبيبتي لنونها فعل “سنّ الذيب”، تدرأ به عن روحها نوبات اكتئاب وتباريح وجد طارئ في مستهل شيوع عتمة الغروب. نون ساخنة برغم سكونها، مع ندرة طروئها في الحوارات، لكنّها كافية، كأيّ نجمة ساطعة، لأن تهدي قلوب سامعيها إلى المحبّة. أنا أعني، حصرًا، تلك القلوب التي تستلّهم الزجاج في قابليّته للصدع والكسر وعصيانه على الرأب. نون مدهشة، لأنّ مَن اعتاد نطقها يُدهِش غيره في سرعة استجابته لنداء الحبّ، ويعدّ الّلغة رطانةً إن خلت منها. إن سمعتَ مَن يقول لك “أحبنّك” فاعلم أنّه لا يضاعف الكلمة بالمعنى بزيادة نون ساكنة فحسب، بل ويضاعف حجم قلبه. صحيح أن لحزن حبيبتي الجنوبيّة سوادَ الخيبات، لكنّها لا تتخلّى عن بياض الرازقي، لأنّها تستوي بنونها وتستقيم، وتطرح عنها تعرّجات اللهجات الأخرى. تغدو جحيميّة حبيبتي حين يتعلّق الأمر بالحبّ، فهي تعرف المكر بما لا يزيد عن كونه فكرة تساورها، لكنّها لا تتقنه إلّا في إقناعي بمهمّتها الشاقّة، مهمّة أن أزيدها حبًّا يليق بها وبنونها التي تبدو ماسةً مشعّة وسط خرز الحروف.. ومع أنّها تبدو أحيانًا منذورة للضيم، تكثر حبيبتي من نطق النون الساكنة لتحرّك بمهمازها انطلاقها نحو الفاتن في الحياة. تُعجزها نونها الساكنة عن مقاومة إغراء الجمال وغوايته، ولكي تدرأ عنها صفة الفظاظة أو الدناءة أو الهبوط تستهلُّ ما تقوله أو تكتبه لي بكلمة “خويه”، لتجتثّ ما قد يعلق بورود آصرتنا من طحالب زاحفة.

كتبت لي ذات تصدّع: أحطنّك بلبّ حشاي.. أصوغنّك صياغة لمنحري گلادة. وكتبتُ لها فورًا: أهذا شعر؟ قالت لا.. وأتبعتها بجملة محيّرة: الشطوط كلها تنحدر صوبنا..

لا تجاور حبيبتي الفرح إلّا لمامًا، لكنّها تعرف كيف تكافئ حزنها وتروّضه. فقد تجرّأتْ مرّة وبعثت لي تسجيلًا، تحشرج فيه صوتها لثقل غناء أو صفعة نعي أو مباغتة فرح. صنعت حبيبتي نونها راكزة راسخة، كما صنعت غناءها حين صدحت: نتانيك لو نگطع الظنّة؟ كلّ ما كتبتُه لوقع الدهشة التي بلّدتني: أهذه أنتِ؟ أهذا صوتكِ؟ وجاءني تسجيل قصير، قالت فيه من بين فرث غضبٍ ودم خيبة: نحمد الله ونشكره، أعرفنّك من خيالك، وأنت حسّي ما تفرزنه!!!!

لا تأتي نون حبيبتي إلّا منفردة، لكنّي استشعر الحبّ فيها زخّات، أو “زرّات” وهي تشير إلى أيّة كثرة. نونها أكبر من أن تُدحض أو تُواجه بما يماثلها من فيض، فالحبّ بين حوضها والنقطة المضيئة واسع كسماء. لنون حبيبتي عيون نحلة، ترى أجمل ما بي فتحطّ عليه. تحطّ على عينَيّ وكفيّ وشفتي، وجبيني وناصيتي، فأهشّ بعصا نونها على الناصع بي معها. بتُّ أحرص على أن ينجو بي شيء من رداءة العاديّ والمستهلك في الّلغة، فوجدتني أردّد:

أجلبنّك يا ليلي وبس أنوحن بيك... طمعًا بمجاراة حبيبتي في نونها الساكنة. وبتُّ أتلصّص مُرهفًا سمعي كي يفوز بنغمتها، تخرج كدانةٍ من محار الشفاه. النون عاقلة، تسبقها وتليها الحكمة والمحبّة لأنّها ساكنة، فجرّبوا نطقها تفلحوا.....

عرض مقالات: