اخر الاخبار

يعرف المعجم الفلسفي الخيال بأنه قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة بحيث يشاهدها من الحس المشترك كلما التفت إليها فهي خزانة للحس المشترك ومحله مؤخر البطن الأول من الدماغ، الخيال هي قوة حافظة لتلك الصور بعد غيبوبتها عن الحس المشترك فهو كخزانة للحس المشترك . وربما أمكننا ان نصنف الخيال الذي قد يميز على أساس الخيال العادي وهو الخاضع للبيئة، يمتاز بالبساطة، لا طموح يشغله ويتصف بالرتابة اما الخيال المريض فهو غرائزي،شيطاني، يتصف بأنه مرض نفسي في حين يتسم الخيال المنتج بالذاتية التي تحيله إلى (شعر، رسم، فن، اختراعات ...) متميزة ومن الخيال أيضا البارسايكلوجي أو الحدسي أو الشعبي أو خيال المدينة أو خيال الشعر ...الخ ومن كل ذلك سوف نحصل على نتائج مختلفة وفق اختلاف قيمة وقوة الخيال ومعياريته أيضا، او بالعكس قد نقع بثقافة خائفة أو محدودة الإبداع أو نصل إلى خمول اجتماعي أو ضعف في الإبداع الحسي والفكري أو ضعف في التصميم والتشكيل و ضعف في الصناعة والفن والأدب والمعمار وكلها أسس ومحركات للمجتمع او محركات للحضارة ككل .

والخيال نظام واحد لشعب واحد وهو ثقافة تدرس أو تطور أو تنمو بحسب الأدوات المحيطة أو الملحقة به، فما نراه من إمكانية تشغيل الخيال لدى العرب في جانب الشعر فانه متميز وفق حضور أدواته وكونه صنعة قديمة تطورت باستمرار، فهي أشبه بصناع الحلوى يتطور عملهم وفق تبادل الأجيال كلما استمروا بتشغيل ذلك العمل وأتقنوه فتكرر الموهبة والنبوغ وتتوسع مجالات الشعر وصوره وخيالاته، إلا ان عائق اللغة والإعلام وتدويل الثقافة العراقية اليوم هو ما يحول دون نشر نجوم فنون الشعر العراقي في التراث العربي أو العالمي . وإذا أردنا تتبع تنوعات الخيال في الأدب الإسلامي فسوف نجده اقترن لا بالشعر أو النثر والبلاغة فحسب بل في جوانب أدب التصوف وأدب الفلسفة وأدب العلم ...الخ وسوى ذلك .

وحديثا كان الأدب الشعبي الذي قدم لنا تصورات مدهشة في الخيال يتفوق من حيث الخيال على الشعر الفصيح بكونه أكثر حميمية وقربا من الواقع .

فالشعر الشعبي يطوع كلماته لغرض صنع صورة خيالية بطريقة محترفة، والصورة والخيال الشعبي كما هو الفصيح يعتمد على بيئته وثقافة الشاعر واستمرارية ذلك الشاعر في تطوير صنعة الخيال أو رسم الصورة الشعرية، فالشاعر مجموعة أجزاء متعددة منها: (إمكانية توليد الصور، القدرة على رصف وتوليد جمل لها معنى ووزن، قدرته إلى ربط كل ذلك بالإحساس والعاطفة، إجادة اختيار القافية والحفاظ على وحدة موضوعة والقدرة على تشكيل الأخيلة بطريقة ملفته لنظر المختصين والمتذوقين) . وبإمكانه التفوق بكل شيء ليصبح شاعرا إلا انه إذا أراد النبوغ عليه أن ينظم قصائد تمثل الصورة أو الموقف فيها المقام الأول أو بإمكانه الاتكاء على الومضة أو الصورة العقلية التجريدية . لقد كانت صور الشعر الشعبي تزخر في منظومة شعراء كبار مثل مظفر النواب وعريان السيد خلف وكاظم إسماعيل .

ويتضح لي ان الصبغة العامة لجيل واحد من الشعراء الشعبيين تتميز بكونها نظام واحد من توليد الصور بفعل المنافسة أو بكون هذه الصور ارتبطت ببيئة واحدة وكتبوا على هذا الأساس بهم وحزن واحد، فخيالهم كان مقيدا بالبيئة أو الحزن المرتبط بهم والذي يختلف من جيل إلى جيل في الأسلوب والمفردة، ولا يمكن نكران اثر جيل بآخر كما واثر النواب بغيره من الشعراء .

والمفردة الشعبية في الشعر تولد ملاصقة للصورة الشعرية، وما يلاحظ على خيال الشعر الشعبي انه يحاول الإفلات من المنطق الرتيب ومع انه تركيب خيالي غير معقد كما وألفاظ النواب مثلا (العيون = زرازير) (الشفاه = عنابة = تنمرد =مزيج من تناقض) وهكذا في قصيدة الريل وحمد وغيرها، إلا انه خيال بسيط تم تعويضه بالجرس الموسيقي ووحدة القصيدة وموضوعها، وانسجامها فكان لها اثر في ذاكرة المتلقي أفضل من اثر الكثير من ناسجي الصور الخيالية المركبة الذين ظهروا فيما من الشباب فيقول نائل (لذلك بالحرب يتلمسون الروس /من تخطف عليهن خاف قاطعهن) وهو تركيب مستغرق بجانب سايكلوجي خيالي وأيضا صورة أخرى سمير صبيح (الناي لو ما يون جا حاله حال الكصــب) ويبدو ان هذا الخيال الومضة لدى الشعراء الشباب تأثر بكاظم إسماعيل الكاطع الذي يقتنص خيالات مركزة وسريعة منها (شفت العطش لو هجم أول ضحية العرك) أو قوله (البير كلما غمكت جرحه المساحي يفيض ماي وله الكثير من الصور الخيالية الخلابة) .

ولا أود سرد شواهد نصية كثيرة هنا فالخيالات التي يتمتع بها الشعر العراقي الشعبي رائعة فعلا، لأنها لم تنزوي بفعل حجم التأثيرات التي طرأت على المجتمع العراقي، فهي لا زالت تحتفظ بوعيها في تصوير الجمال

ومن جانب آخر في نقش ونحت صورة ثابتة ربما لا يتقنها إلا الشاعر الشعبي العراقي، فهو لا يقف على تلاعب الخيال اللغوي أو عبقرية ان يصنع صورة الانسجام في القصيدة بل يتعداه إلى تركيب أولي وآخر ثنائي وثلاثي، وكأننا إزاء تركيب سحري.

عرض مقالات: