مرة أخرى نعود للحديث عن نزوح الفلاحين من الريف إلى المدينة، أسبابه ونتائجه وآثاره، وسبل معالجته. فقد أُعلن قبل أيام عن نزوح (742) عائلة من أطراف محافظتي الديوانية والنجف إلى محافظة النجف، حيث تم إسكانهم في ناحيتي الرضوية والحيدرية، فيما لجأ البعض منهم للسكن في العشوائيات المحيطة بمدن المحافظة.
هذه ليست الحالة الأولى، فقد سبق أن كتبنا عن هذا الملف وأشرنا إلى نزوح آلاف العوائل من أرياف وأهوار محافظات الناصرية والعمارة والبصرة وديالى والسماوة والديوانية ومحافظات أخرى. واليوم، وبعد تفاقم أزمة شح المياه نتيجة انقطاع حصص العراق المائية من نهري دجلة والفرات بسبب تجاوزات الجارتين تركيا وإيران، إلى جانب الظروف المناخية القاسية وسوء إدارة ملف المياه داخلياً، أعلنت وزارة الموارد المائية عن انخفاض الخزين العراقي من المياه إلى ما دون (8٪)، أي ما يعادل (5) مليارات متر مكعب، وهو خزين لا يكفي حتى للاستهلاك البشري، فكيف بالزراعة؟
وما يزيد الطين بلة أن وزارتي الزراعة والموارد المائية لم تعلنا حتى الآن عن خطة زراعية لهذا الموسم، بل إن الزراعة مُنعت أساساً. ومن المتوقع أن تبدأ موجة نزوح واسعة من الريف باتجاه المدن، ولا سيما مراكز المحافظات الكبرى. وقد ظهرت أولى بوادرها في محافظة النجف، حيث نزح عدد من أهالي الديوانية والنجف إليها. ومع ضعف القدرة الشرائية للنازحين، فإنهم غالباً ما سيتوجهون إلى أطراف المدن للسكن فيها، وهو ما سينتج عنه آثار خطيرة مثل تجريف الأراضي الزراعية والمناطق الخضراء لتحويلها إلى مساكن، فضلاً عن الضغط الكبير على الخدمات العامة من كهرباء وماء وصرف صحي.
ولا يقتصر الأمر على الخدمات فقط، بل يمتد إلى الجانب الاجتماعي والاقتصادي، إذ ستزداد أعداد العاطلين عن العمل، وسيتفاقم العبء على المؤسسات الحكومية في ما يتعلق بتعليم أبناء النازحين وتوفير فرص مناسبة لهم. والسؤال المطروح هنا: هل تستطيع مؤسسات الدولة المعنية تحمّل هذا الجهد الإضافي؟
إن ما يجري يتطلب تحركاً عاجلاً من الحكومة المركزية ووزارة الهجرة والمهجرين ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية، إضافة إلى مجالس المحافظات ودوائرها التنفيذية، لوضع خطط بديلة تستوعب النازحين وتوفر لهم مقومات الحياة الأساسية. غير أن هذه المعالجات الآنية لا تغني عن الحل الجذري، المتمثل بضرورة قيام الحكومة المركزية بالتفاوض مع الجارتين تركيا وإيران بإرادة سياسية قوية، وباستخدام أوراق الضغط الاقتصادي المتمثلة بالتبادل التجاري، إلى جانب الأدوات السياسية والدبلوماسية، من أجل ضمان حصة العراق المائية.
كما أن من الضروري العمل على تعميم تقنيات الري الحديثة وتوفيرها بأسعار مدعومة، مع منح القروض والتسليف للفلاحين كي يتمكنوا من البقاء في أراضيهم، والحفاظ على الإرث الزراعي العراقي. ويضاف إلى ذلك أهمية إيجاد بدائل زراعية لكل منطقة حسب ظروفها ونوعية تربتها وكميات المياه المتوفرة لها، فضلاً عن تطوير الثروة الحيوانية وتشجيع زراعة الأعلاف الخضراء، وتوفير الأعلاف الجافة ودعم أسعارها بشكل رمزي للفلاحين.
إن استمرار نزوح الفلاحين من الريف إلى المدينة لا يعني فقط أزمة اجتماعية وخدمية واقتصادية، بل يمثل في جوهره تهديداً خطيراً بفقدان أحد أهم أعمدة الهوية العراقية المتمثلة بالإرث الزراعي، وهو ما يستدعي معالجة جذرية تتجاوز الحلول الترقيعية الآنية.
ــــــــــــــــــــ
*مهندس زراعي استشاري