اخر الاخبار

صادف في الأول من أمس، السادس والعشرين من تشرين الأول الجاري، الاحتفاء السنوي بـ يوم المرأة الريفية العالمي، وهو مناسبة تتيح لنا التوقف أمام الدور العظيم الذي تنهض به المرأة الريفية العراقية، وما قدمته – وما زالت تقدمه – من جهود لا تُقدّر بثمن في خدمة أسرتها ومجتمعها واقتصاد وطنها، رغم ما تواجهه من ظروف قاسية وتحديات متراكمة منذ عقود.

جهود مضنية بلا إنصاف

لم تعرف المرأة الريفية في العراق الراحة يوماً. فمنذ الفجر وحتى غروب الشمس، تعمل في الحقول والمزارع بدءاً من مرحلة البذار مروراً بسقي المزروعات، وصولاً إلى موسم الحصاد. ولا يتوقف عطاؤها عند الزراعة فحسب، بل يمتد إلى تربية الحيوانات ورعايتها، وجمع منتجاتها من الحليب والبيض والألبان لتوفير غذاء متكامل للأسرة.

وبالتوازي مع ذلك، تتحمل مسؤوليات منزلية مضاعفة: الغسيل والطبخ والتنظيف والعناية بالأطفال، فضلاً عن متابعة شؤونهم الدراسية. ورغم هذا الجهد الكبير، فإنها تعيش في ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، تتسم بانتشار الأمية والحرمان من التعليم بسبب غياب المدارس أو بسبب الأعراف والتقاليد التي تحدّ من فرص تعلم الفتيات، ما أدى إلى تفشي الجهل والتخلف في المناطق الريفية.

تحديات صحية واقتصادية متراكمة

يُضاف إلى ذلك سوء الخدمات الصحية في الريف، فالمستوصفات قليلة، والأدوية واللقاحات نادرة، مما يؤدي إلى انتشار الأمراض وارتفاع نسب الوفيات، خصوصاً بين النساء والأطفال. ورغم أن المرأة تمثل العنصر الأساسي في العملية الزراعية والإنتاج الحقلي، فإنها غالباً لا تنال من عائد هذا الجهد سوى القليل، إذ تبقى السلطة الاقتصادية بيد الرجل الذي يهيمن على الموارد ويقرر مصيرها.

مكاسب ما بعد الثورة وتراجع لاحق

بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، شهدت المرأة الريفية بعض التحسن، إذ أُنشئت مراكز لمحو الأمية، وتوسعت فرص التعليم والرعاية الصحية، وتم فتح مراكز لرعاية المرأة الريفية والنشء الريفي، إضافة إلى السماح للنساء بالانضمام إلى الجمعيات الفلاحية والتعاقد على الأراضي الزراعية.

لكن، ومع الأسف، تراجعت كثير من هذه المكاسب في السنوات الأخيرة. فبعد سقوط النظام السابق، جرى الاستيلاء على العديد من مراكز المرأة الريفية من قبل جهات متنفذة، مما أدى إلى تعطيلها وحرمان النساء من خدماتها. كما تراجع دور المرأة في الجمعيات الفلاحية وتضاءلت فرص مشاركتها في صنع القرار الزراعي.

قوانين مجحفة ومعاناة متجددة

وجاءت التعديلات الأخيرة على قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لتزيد الطين بلّة، إذ حرمت المرأة من حقها في الإرث بالأراضي الزراعية، وهو ظلم فادح بحق من زرعت الأرض وسقتها بجهدها وعرقها لعقود. كيف تُحرم من الأرض التي عمّرتها بيديها؟

وتفاقمت معاناة النساء الريفيات مع تفاقم أزمة المياه في نهري دجلة والفرات، إذ اضطرّت آلاف العائلات إلى النزوح بحثاً عن مصادر المياه والعمل، تاركةً خلفها أراضيها ومدارسها ومراكزها الصحية، الأمر الذي تسبب بانقطاع الأطفال عن التعليم وتدهور الأوضاع الصحية والاجتماعية.

دعوة للإصلاح وإنصاف المرأة الريفية

إزاء هذه التحديات، فإن الإنصاف الحقيقي للمرأة الريفية يتطلب تحركاً عاجلاً ومسؤولاً من الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، يستند إلى خطوات عملية واضحة، من أبرزها:

1. تطوير التعليم الريفي عبر بناء مدارس جديدة في القرى والأرياف، وتوفير كوادر تعليمية كفوءة وبنى تحتية مناسبة مع تعبيد الطرق المؤدية إليها.

2. تحسين الخدمات الصحية من خلال إنشاء مستوصفات في المناطق النائية وتزويدها بالأدوية واللقاحات والملاكات الطبية الكافية.

3. إعادة تفعيل مراكز المرأة الريفية والنشء الريفي التي جرى الاستيلاء عليها، وإنشاء مراكز جديدة لتأهيل النساء وتطوير مهاراتهن الزراعية والمهنية.

4. توفير قروض ميسّرة بلا فوائد للعاملات الريفيات عبر وزارة العمل لتأسيس مشاريع صغيرة في الصناعات اليدوية المنزلية.

5. منح قروض زراعية للنساء من المصرف الزراعي لإنشاء مشاريع الثروة الحيوانية، مثل تربية الأبقار والدواجن والأغنام.

6. معالجة أوضاع النازحين الريفيين وتأمين التعليم والغذاء والرعاية الصحية لهم حتى يتمكنوا من العودة إلى أراضيهم.

7. إلغاء التعديلات المجحفة على قانون الأحوال الشخصية رقم (188)، خصوصاً ما يتعلق بحرمان المرأة من الإرث في الأراضي الزراعية، لأن العدالة تقتضي أن لا يُحرم من يزرع الأرض من حقه فيها.

إن المرأة الريفية العراقية هي العمود الفقري للزراعة والحياة الريفية، وهي التي صانت الأرض والغذاء والعائلة رغم قسوة الظروف وتقصير السياسات. والاحتفاء بيومها العالمي لا ينبغي أن يكون مجرد مناسبة رمزية، بل محطة لتصحيح المسار وضمان إنصافها قانونياً واجتماعياً واقتصادياً، فهي لا تطالب إلا بحقها الطبيعي في حياة كريمة على أرضٍ طالما رعتها بيديها.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* مهندس زراعي استشاري