اخر الاخبار

على الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها عمال النظافة صباح كل يوم للحفاظ على نظافة الشوارع والمناطق العامة، إلا أن واقعهم المعيشي والمهني يعكس صورة مختلفة تمامًا عن المشهد الذي يراه الناس.

فهذه الفئة التي تؤدي واحدة من أكثر المهن مشقة وأهمية، تواجه تهميشًا حكوميًا مركبًا يبدأ بضعف التشريعات، ويمتد إلى غياب الحماية الاجتماعية، مرورًا بتدني الأجور وسوء بيئة العمل.

أجور متدنية لا تواكب الغلاء

يعاني العاملون في مجال تنظيف المدن من تدني الأجور مقارنة بحجم الجهد البدني الذي يبذلونه يوميًا، فضلًا عن ساعات العمل الطويلة التي تبدأ قبل بزوغ الفجر في كثير من الأحيان. وغالبًا ما تتراوح رواتبهم بين الحد الادنى وهو 350 ألف دينار ومبالغ بالكاد تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف السكن والغذاء والنقل.

ويؤكد كثير منهم أن رواتبهم لا تكفي لإعالة أسرهم، ما يضطرهم إلى العمل في وظائف إضافية مرهقة أو اللجوء إلى الاقتراض بشكل متكرر. وبرغم الوعود الحكومية المتكررة بتحسين الدخل، إلا أن الإجراءات الفعلية ما تزال محدودة وغالبًا ما تصطدم بسياسات التقشف أو بعقود التشغيل مع الشركات المتعاقدة.

بيئة عمل خطرة وغياب معدات الحماية

أحد أبرز مظاهر التهميش يتمثل في غياب معدات السلامة الشخصية.  فكثير من العاملين يضطرون للعمل من دون قفازات أو كمامات أو أحذية واقية، رغم تعاملهم اليومي مع النفايات المنزلية والتجارية، وأحيانًا الطبية. هذا الإهمال يجعلهم عرضة لأمراض تنفسية وجلدية وإصابات جسدية متكررة. كما أن غياب التدريب المهني يزيد من خطورة العمل، إذ لا تتوفر برامج حول طرق التعامل مع المخلفات الخطرة أو كيفية الرفع والنقل السليم للأوزان الثقيلة، ما يجعل أبسط الحوادث سببًا في تعطيل حياة العامل لأسابيع وربما لأشهر، أو حتى مدى الحياة.

استغلال العقود المؤقتة وغياب الامتيازات

ويؤدي اعتماد الكثير من الجهات الحكومية على شركات خاصة لإدارة قطاع النظافة، إلى انتشار ما يُعرف بـ"العقود المؤقتة" التي تفتقر إلى الأمان الوظيفي. وتتيح هذه العقود تقليل التكاليف على حساب حقوق العمال، إذ نادرًا ما يحصلون على ضمان اجتماعي أو صحي، أو على إجازات مدفوعة، أو تعويضات مناسبة عند الإصابة أو الوفاة أثناء العمل. هذا النمط من التعاقد يحرم العاملين من أبسط مقومات الاستقرار المهني، ويجعل مستقبلهم عرضة لأي تغيير إداري أو مالي أو حتى مزاجي من قبل الشركات المشغّلة.

تجاهل صوت الميدان

من أبرز مظاهر التهميش أيضًا تجاهل صوت العاملين أنفسهم في النقاشات الحكومية الخاصة بقطاع الخدمات. فكثير من الخطط والمبادرات تُعلن دون استشارة من يزاولون العمل ميدانيًا ويعرفون تفاصيله الدقيقة، ما يؤدي إلى قرارات غير واقعية أو غير قابلة للتنفيذ. كما أن ضعف تمثيلهم النقابي يجعل الدفاع عن حقوقهم أمرًا بالغ الصعوبة، إذ تتركز جهود النقابات في قطاعات أكبر أو أكثر نفوذًا، بينما تبقى مطالب عمال النظافة مؤجلة.

مهنة ذات قيمة عالية.. ولكن!

المفارقة أن قطاع النظافة يمثل أحد أعمدة الحياة المدنية الحديثة.  فالنظافة العامة تحدّ من انتشار الأمراض، وتحسن صورة المدن، وتساهم في جذب السياحة والاستثمارات. ومع ذلك، لا ينعكس هذا الدور الحيوي في سياسات الحكومة العراقية أو في أولويات الإنفاق العام.

إن الدول التي نجحت في إصلاح هذا القطاع تبنّت استراتيجيات واضحة تضمن أجورًا عادلة وتأمينًا صحيًا وبرامج تدريب ومراقبة مهنية دقيقة. أما في العراق وعدد من دول المنطقة، فما زال العاملون في النظافة يواجهون واقعًا هشًا يفتقر إلى العدالة.

الإصلاح يبدأ بالاعتراف

لإنصاف هذه الفئة، لا بد أولًا من الاعتراف بأن قطاع النظافة ليس قطاعًا هامشيًا، بل قطاع خدمي أساسي. ومن الضروري وضع تشريعات حديثة تضمن حقوق العاملين فيه، وتشمل:

• رفع الحد الأدنى للأجور بما يتناسب مع تكاليف المعيشة.

• دمج العاملين في منظومتي التأمين الصحي والضمان الاجتماعي.

• مراقبة عقود الشركات لضمان عدم استغلال العمال.

• توفير معدات السلامة والعمل وفق معايير الجودة الدولية.

• تأسيس قنوات مباشرة لتلقي شكاوى العاملين ومقترحاتهم.

وفي النهاية، فإن تهميش حقوق عمال النظافة ليس خللًا إداريًا فحسب، بل قضية تمس كرامة الإنسان وحقه في العمل الآمن والعيش الكريم. فهؤلاء هم السدّ الأول الذي يحمي المدن من الفوضى البيئية والأمراض، ولا يمكن بناء مجتمع متوازن دون تقدير دورهم ومنحهم ما يستحقون من احترام وحقوق. فالعدالة الحقيقية تبدأ من الفئات التي ظلت تعمل بصمت خلف أكوام النفايات، منتظرة اعترافًا بسيطًا بدورها الحيوي في حياة الناس.