اخر الاخبار

رغم مرور أكثر من عقدين على التحولات السياسية التي شهدها العراق بعد عام 2003، لا تزال قضايا المرأة في هذا البلد تواجه عراقيل معقدة، تتشابك فيها السياسة بالدين بالعادات الاجتماعية.

وتقف المنظمات النسوية العراقية في خط المواجهة الأول، في محاولات النهوض بحقوق النساء وإعادة تعريف دورهن في المجتمع، وفي السعي لتعديل القوانين التي تكرّس التمييز، وبغية وضع حد للحيف ضد المرأة. 

المنظمات النسوية بين الدفاع والمقاومة

ورغم تنامي عددها وانتشارها في المدن الكبرى مثل بغداد وأربيل والنجف والبصرة، فقد كانت المنظمات النسوية في العراق من أكثر الجهات التي واجهت صعوبات حقيقية في العمل بعد عام 2003، جراء تحديات متشابكة، تبدأ من غياب الدعم الحكومي، وتمر عبر التهديدات الأمنية، ولا تنتهي عند الوصم الاجتماعي.

تقول الناشطة الحقوقية زهراء التميمي"كل محاولة لتعديل قانون الأحوال الشخصية نحو مزيد من المساواة تواجه باتهامات الخروج عن الدين أو الأعراف. نحن لا نعارض الدين، بل نطالب بقراءة عادلة له تراعي واقع المرأة اليوم". وتشير التميمي إلى أن الضغوط السياسية غالبا ما تفرغ الحملات النسوية من مضمونها، إذ تتحول إلى سجال طائفي بين القوى الدينية والمدنية، مما يشتت الهدف الأساس: تحقيق العدالة القانونية والاجتماعية للنساء.

تحديات التمويل والاستقلالية

أحد أبرز التحديات التي تواجهها المنظمات النسوية في العراق هو غياب التمويل الوطني، حيث نادراً ما تحصل هذه المنظمات على دعم حكومي مستقر، ما يجعلها تقبل بالدعم الخارجي، مما يُستغل ضدها في اتهامها بالارتباط "بأجندات خارجية"، خاصة حين تتناول قضايا حساسة كالمساواة في الميراث أو تعديل سن الزواج.

وتوضح الناشطة انتصار عبد الكريم، "إن التمويل الخارجي ضروري للاستمرار، لكنه يأتي بشروط أحيانا:"، فبعض الممولين الدوليين يضعون أولويات لا تنسجم مع السياق العراقي، ما يخلق فجوة بين ما نحتاجه فعلاً وما يطلب تنفيذه في المشاريع. نحن نحاول الموازنة بين الاثنين دون التفريط باستقلاليتنا".

قانون تاريخي في مواجهة واقع متغير

اعتبر قانون الأحوال الشخصية العراقي عند صدوره العام 1959، خطوة متقدمة مقارنة بما كان سائدا في دول المنطقة، حيث وحّد أحكام الزواج والطلاق والإرث والنفقة والحضانة أمام القضاء المدني، ومنح المرأة قدرا من الاستقلالية القانونية. غير أن هذا القانون، رغم تقدميته، لم يبق بمنأى عن محاولات التعديل والتسييس.

فمنذ عام 2003، ومع صعود قوى دينية إلى المشهد السياسي، عادت النقاشات حول "أسلمة" القانون أو تعديله وفق المذاهب الدينية المختلفة. وأبرز تلك المحاولات كانت في عام 2017 عندما طرح مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري، الذي أثار موجة واسعة من الرفض، خاصة من المنظمات النسوية، لاحتوائه على مواد تجيز الزواج المبكر للفتيات، وتسلب الام حضانة الأطفال بعيدا عن مصلحة المحضون، وتحد من دور القضاء المدني.

العادات الاجتماعية والحواجز الثقافية

إلى جانب العوائق القانونية والسياسية، تواجه المنظمات النسوية معركة ثقافية طويلة مع العادات العشائرية والتقاليد المحافظة التي ما زالت تتحكم في حياة النساء. في كثير من المناطق الريفية والجنوبية، ينظر إلى الحديث عن" حقوق المرأة" على أنه تهديد للبنية الأسرية أو مساس بالرجولة، وهو ما يجعل نشاط المنظمات محفوفا بالمخاطر.

وتروي إحدى الناشطات من محافظة ذي قار، فضلت عدم ذكر اسمها لأسباب أمنية، أن منظمتها تعرضت لاعتداء أثناء تنظيم ورشة توعية حول الزواج المبكر، فتقول "اتهمنا بأننا نحرض الفتيات على العصيان، رغم أن هدفنا كان توعية الأسر بمخاطر تزويج القاصرات. هذا يوضح حجم الفجوة بين القوانين والوعي الاجتماعي".

المعركة القانونية والإصلاح المؤجل

منذ سنوات، تسعى منظمات نسوية عديدة لتقديم مقترحات لتعديل قانون الأحوال الشخصية، تضمن حماية أكبر للمرأة، خصوصا في حالات الطلاق والحضانة والعنف الأسري. لكنها تصطدم بممانعة شديدة من بعض الكتل السياسية التي ترى في هذه التعديلات "تجاوزا للشريعة".

لقد صادق العراق، كما هو معروف، على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) عام 1986، إلا أنه أبدى تحفظات على المواد التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهي تحفظات تُستخدم اليوم ذريعة لعرقلة أي إصلاح قانوني يمسّ قوانين الأسرة.

أمل بالمستقبل: جيل جديد من النسويات

ورغم كل الصعوبات، يشهد العراق اليوم بروز جيل نسوي جديد، أكثر جرأة وتنظيما، يستفيد من وسائل التواصل الاجتماعي لإيصال صوته. فحملات مثل #قانون_188_خط_أحمر، و#لا_لتزويج_القاصرات، أصبحت أدوات ضغط فعالة، أجبرت البرلمان أكثر من مرة على التراجع عن مقترحات مثيرة للجدل.

تقول الباحثة الاجتماعية أمل محمد ان "ما يميز الحركة النسوية الجديدة في العراق هو وعيها بالتقاطع بين الدين والسياسة والعادات، وسعيها لتغيير الخطاب المجتمعي قبل تغيير النصوص القانونية. الإصلاح لا يمكن أن يفرض من الأعلى، بل يبنى من الوعي الشعبي".

وأخيراً فإن المعركة من أجل حقوق النساء في العراق ليست مجرد صراع قانوني، بل هي صراع ثقافي وسياسي واجتماعي معقّد. والمنظمات النسوية، رغم محدودية إمكانياتها، تمثل الصوت الأكثر ثباتا في الدفاع عن المرأة في وجه التمييز والعنف والتهميش. لكن التغيير الحقيقي لن يتحقق إلا حين تدرك القوى السياسية أن العدالة بين الجنسين ليست تهديدا للهوية، بل ضمانة لمستقبل أكثر توازن وإنسانية.