اخر الاخبار

كنت واحداً من كثيرين تعرفوا الى ناجح المعموري منذ بدايات مشواره الأدبي، بوصفه أديباً ومبدعاً حمل هموم الكلمة وجمالها، غير أني كنت من القلة التي شاءت لها الأقدار أن تنال حميمية صداقته. عرفته عن قرب، ولامست في حديثه دفءَ الإنسان وصدق المبدع، فتوطدت بيننا صداقة متميزة، قوامها الانسجام الفكري والتقارب الثقافي. وقد منحتني رفقته فرصة ثمينة للتعرف اليه معرفة عميقة، الى شخصيته.. وطباعه.. وذوقه.. وسلوكه.. وفكره.. وآرائه التي تشي بعمق التجربة وصفاء الرؤية، وما أكتبه عنه الآن ليس ألا ومضات خاطفة من انطباعات صادقة، تومض ببعض ما انطوت عليه روح هذا المبدع الكبير، الذي ترك أثراً ثقافياً لا يخفت مع الأيام.

تجري الأيام وتتلاحق السنوات، يكبر ناجح بالعمر وتتسع مداركه، فينضج وهو يدرك تماماً أين يقف، وما ينبغي أن يكون، والى أين يجب أن يسعى، وقد تجلى وعيه مبكراً، حين ظهرت ملامح انطلاقته الأولى في مرحلة الدراسة الإعدادية، إذ قادته قناعاته الى طريق السياسة، منجذباً نحو الفكر التقدمي إبان ثورة 14 تموز 1958، تلك التي لامست أحلام الفقراء وآمالهم، وبقي طيلة حياته صادقاً مع نفسه، وفياً لفكره، تتنامى اهتماماته، وتتعمق إرادته، حتى ولج عالم الأدب هاوياً في ستينيات القرن الماضي، يسكب آماله على الورق، ويجعل من الكتابة مرآة لروحه الباحثة عن معنى.

 وجد ناجح نفسه في مستهل مشواره الكتابي موزعاً بين القصة والرواية، يصوغ عوالمه الجمالية في فضاءات السرد مازجاً بين خصوبة المخيلة ودقة التصوير، وكان قلمه يميل في الوقت ذاته الى توثيق الموروث الشعبي، حيث تنبض الحكايات بالمرويات والأساطير، ولم يكن ذلك التنوع في البدايات سوى سمة مألوفة في مسار الأديب الباحث عن ذاته في ميادين الإبداع، الى أن جاءت النقلة النوعية التي حملته من حقول الأدب الى آفاق البحث في عوالم الميثولوجيا، حيث اتسعت رؤيته واشتد ألق تجربته في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً حين انقلب المشهد الثقافي العراقي رأساً على عقب، بعدما جنحت السلطة الحاكمة الديكتاتورية الى تقويض سقف الحرية، وتبنت نهجاً يقوم على أحادية الفكر والثقافة. أثر الأديب ناجح أن ينأى بنفسه الى الهامش، بعيداً عن دوائر الضوء، ملتجئاً الى عزلة اختيارية يستعين بها على وحشة الزمن الغادر، أبتعد عما يسلب الإنسان إرادته ويصادر حريته ويخدش نقاء روحه، وارتضى أن يكتوي بلهيب الفاقة والإقصاء، وظلت (الشمس تشرق من الجهة اليسرى)، كما أعلن ذات يوم عنواناً لمجموعته القصصية المشتركة، شاهدة على رؤيته وانحيازه الإنساني. ومع ذلك كانت الدنيا تزيده مكابدة بعد أخرى، فيشتد الخطب ويلتمع الخوف في عينيه، ويشتعل الإبداع في أعماقه قلقاً وتوقاً الى الانفلات.

لم يحتمل سكون القلم ولا جفاف مداده، ولم يرتضِ أن يتلبسه الصمت فيغدو ساكناً بلا ممارسة للكتابة، فاليد لا تكل والدنيا محطات، يمضي من واحدة الى أخرى، بحثاً عن أفق جديد، جذبته الأسطورة وأنجذب هو الى سحرها بشغف صاف، فكانت صفحة الميثولوجيا مدخله الى مضمار طويل في مسيرته الثقافية وهناك بدأ فصل الكتابة من جديد، مستعيناً بأزمنة الماضي ووهجها، متنقلاً مع الأسطورة من ورقة الى أخرى، يتخذ منها ملاذاً يكسر بها رتابة الواقع، وفي ذلك الملاذ أعاد ترتيب ذاته في المشهد الثقافي، بما تمليه قسوة الظروف وتمنحه فسحة الإبداع بين الوجود والتواجد، والهموم والأحلام ومشاغل الكتابة وهواجس البوح التعبير.

لقد وجد ضالته في عالم ساحر، تتجلى فيه بدئية التكوين الإنساني، وينجلي الإحساس بالوجود في حضرة الانزواء الخلاق. هناك، حيث مكمن صالح للعيش وممكن للحياة، حتى وإن غاصت الأحلام في أعماق الروح، فإنها تظل قادرة على احتواء قدراً من الطموح، ويبقى المغزى الأسمى هو البقاء والديمومة خارج دائرة الارتهان. وقد فعل ونجح في مسعاه، وهو الناجح حقاً، ولكل أمري من أسمه نصيب، كان موفقاً في انصياعه لرغبته العميقة، تلك المتصلة بدخيلته الجوانية اتصالاً وثيقاً، إذ لا يمكن إغفال دافعية اللاوعي ومهيمنات اللاشعور غير المدركة، التي قادته نحو الميثولوجيا، وجذبته بقوة الى منطقة اشتغالات المخيلة العميقة، لينفتح عبرها على أفق معرفي وموسوعي شامل.

سعى الى تكوين شخصيته الثقافية بتميز واضح، وظل يسابق الزمن مندفعاً بشغف لا يهدأ، يطالع يقرأ ويتعلم في حماسة تتقد يوماً بعد آخر، حرص على نسج مكوناته الثقافية بتفرد لافت، فلم يكتفِ بما بين يديه من معارف، بل مضى أبعد من ذلك، متوغلاً في مديات قصية من أعماق التاريخ، وقد قاده شغفه بدراسة التاريخ القديم الى حضور دروس طلبة الماجستير في قسم الاثار بجامعة القادسية، لا من باب السعي وراء شهادة أكاديمية، بل رغبة صادقة في الاستزادة من معارف حضارات العراق القديمة، والاطلاع على امتداداتها العميقة في مسيرة التاريخ الإنساني.

انغمر في ميدان البحث والتقصي في أغوار تاريخ الحضارات، متتبعاً أثر الأساطير، باحثاً عن منفذ الى أسرار الميثولوجيا وآفاقها الرحبة. وتقدم بإصرار في تطوافه التنقيبي، تتسع معارفه عمقاً وغزارة، وهو يحفر تحت طبقات الزمن، وينفض الغبار عن النصوص التي توارت بفعل التقادم في متاهات التاريخ، ولم يتردد في تقديم قراءاته النقدية الفاحصة، وإن حملت كشوفاته بعض التأويلات (المضاعفة والمخصبة) والمغايرة لما هو سائد، إذ كان ينطلق من فهم عميق واقتدار معرفي، ومن رغبة صادقة في إعادة اكتشاف المعنى، وإضاءة ما خفي واندس في ضفة المسكوت عنه من الموروث الأسطوري.

يا صديقي.. وأنت في هذه اللحظات القاسية التي تغالب فيها المرض، لا يسعني ألا أن أستعين بغوايتك المحببة (ملحمة كلكامش)، لأستحضر منها فكرة الخلود التي انشغل بها (جدنا) كلكامش وتاق اليها، تلك الفكرة التي تكشف أن ما يخلد الإنسان حقاً هو عمله وما يتركه من أثر باقٍ في الذاكرة. فأقول مطمئناً: تبقى الحياة قصيرة والزمن سريع العبور، ويبقى الموت -بعد عمر مديد- استحقاقاً مؤجلاً لنا جميعاً، لا يملك أحد منا أن يختار ميعاده، أو يرسم شكله، أو يحدد لونه، غير أنه ليس نهاية على الإطلاق. ويكفيك فخراً يا من تنتمي الى نسل كلكامش، أنك قد شيدت صرحاً فوق أديم كوكب الأرض، متمثلاً في منجزك البهي، الذي يلتقي فيه الماضي بالحاضر، والخيال بالواقع، والفكر بالإحساس، تلك المؤلفات المدهشة التي حازت مكانة مرموقة في المكتبة العراقية والعربية، واقترب عددها من الخمسين كتاباً، توزعت على مختلف الأجناس الأدبية والميادين الثقافية والحقول المعرفية، فكن مطمئناً، يا صاحبي أن لديك حصيلة غزيرة باقية وخالدة، لا تضاعف أمد الحياة فحسب، بل تبقيك حياً في ذاكرة الإبداع ووجدان الأجيال. وقد خرجت قبل أعوام قليلة من براثن الجائحة الكورونية سالماً، وأرجو الله المقتدر في هذه اللحظات، أن يمن عليك بالعافية، ويعينك على تجاوز هذه الشدة، لتعود كما عرفناك دائماً، مفعماً بالحياة والإبداع.