مصطلح "تليين المواقف الدفاعية" يستخدمه العسكريون ويقصدون به إزالة التحصينات قبل بداية العملية البرية التي يقوم بها المشاة. وفي عملية التليين تلك يدخل سلاح الطيران العادي والمسير، كما تستخدم المدفعية من مسافات بعيدة. وفي حرب السودان التي دخلت مرحلة ما يسمى بتوازن القوة، التي تفضي إما إلى الإفناء المتبادل او التسوية السياسية للأزمة، تنشط هذه الأيام فوق سماوات المدن والبلدات خطوط النار المتبادلة، خاصة في إقليم كردفان. وفي وقت أعلن فيه قائد الجيش السوداني رفضه لأي هدنة او تفاوض، ذلك في ظل المبادرة الرباعية التي تتزعمها أمريكا وتضم السعودية ومصر والإمارات.
ويجيء هذا التصعيد بعد احتلال قوات الدعم السريع لمدينة الفاشر الاستراتيجية والتي تتمركز فيها واحدة من أكبر فرق الجيش السوداني التي شاركت في الحرب العالمية الثانية إلى جانب قوات الحلفاء، إضافة إلى مكانة المدينة التاريخية كعاصمة لمملكة الفور التي ضمتها بريطانيا إلى أملاك الخديوي في وادي النيل وسواحل البحر (هكذا كان يعرف السودان في المراسلات البريطانية لمنع توغل الدول الاوربية فيه) عام 1916.
إذا فقد هذه المدينة يمثل هزيمة عسكرية ومعنوية للجيش. وقد سادت موجة من الإحباط وسط جموع الشعب عقب دخول قوات الدعم السريع اليها، الشيء الذي يفسر اللغة المتشددة التي تحدث بها قادة الجيش في الأيام القليلة الماضية.
لكن من ناحية أخرى فإن مجلس الأمن والدفاع السوداني، وفي بيانه الأخير الذي تلاه وزير الدفاع، لم يغلق الباب نهائيا أمام الوساطة الدولية لحل النزاع سلميا. رغم انه لم يخرج في مضمونه عن لغة التعبئة العامة للحرب وأكد على ان السودان له حق مشروع في الدفاع عن سيادته الوطنية ووحدة أراضيه. والنقطة الاخيرة فسرها خطاب البرهان الأخير بضرورة خروج قوات الدعم السريع من المدن التي يسيطر عليها وتسليمه للسلاح الثقيل وتجميع قواته في معسكرات يتم الاتفاق عليها. وهو موقف لم يتطور كثيرا عن مخرجات اتفاق جدة في وقت سابق. وهي خطوة قال عنها "الدعم السريع" انها تمثل أحلاما غير واقعية من قبل الجيش، في الوقت الذي أعلن فيه موافقته على الهدنة بلا قيد او شرط. وذلك من أجل تخفيف الضغط الدولي عليه بعد توالي الإدانات عليه بسبب الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها قواته في دارفور، خاصة في الفاشر. وكان أبرزها موقف وزارة الخارجية الامريكية التي سمت قوات الدعم السريع بالاسم وحملتها مسؤولية ما حدث وطالبت بمنع تدفق السلاح اليها وحذرت الدول التي تقوم بذلك دون أن تسميها. وهذا الموقف اعتبره مراقبون يميل إلى صالح الجيش. كما أدان مجلس حقوق الانسان تلك الانتهاكات وكون لجنة بشأنها وطالب بإحالتها إلى المحكمة الجنائية الدولية. ولامتصاص هذه الهجمة سارع "الدعم السريع" بقبول الهدنة في وقت لا زالت فيه المظاهرات تجوب عواصم العالم أجمع تنديدا بما حدث في الفاشر. وتتهم الإمارات بأنها تبيد الشعب السوداني بدعمها لهذه المليشيا.
في ظل هذه الظروف أطلق الجيش السوداني أكبر عملية برية استعاد بموجبها ثلاث مناطق في محيط مدينة الأبيض الاستراتيجية، والتي توجد بها أكبر حاميات الجيش في إقليم غرب السودان. وبها مطار استخدم في حرب الجنوب ونقل المساعدات الانسانية إلى دارفور وجبال النوبة ومنطقة أبيي المتنازع عليها وإلى غرب افريقيا. كما أعلنها الجيش مركز قيادة متقدما لطرد مليشيا الدعم السريع من غرب كردفان تمهيدا لاستعادة مدن دارفور التي تسيطر عليها تلك القوات المتمردة.
سخونة العمليات الحربية تشير إلى أننا مقبلون على أحد احتمالين، اما عمليات كسر العظم وانتصار أحد الطرفين او تليين المواقف التفاوضية بإحراز نقاط تقدم في الميدان قبل الجلوس إلى مائدة التفاوض. وفي الحالتين سوف تشتد وتيرة المعارك الحربية ويزداد تأثيرها السالب والمدمر على حياة المدنيين الذين يحتاج أكثر من 70 في المائة منهم للمساعدات الانسانية العاجلة حسب تقارير الأمم المتحدة.