يبدأ جداون لويس كراوس مقاله «الحصول على البضائع»، المنشور في مجلة نيويوركر، بقراءة لكتاب سفين بيكيرت «الرأسمالية: تاريخ عالمي» الصادر عن دار بنغوين، الذي يقدّم الرأسمالية بوصفها منظومة شاملة تتسرّب إلى كل جوانب الحياة. يحاول بيكيرت تفكيك الرأسمالية عبر تتبّع بنيتها الكبرى ومسارات توسّعها، لكنه كثيراً ما ينتهي إلى إعادة إنتاج سرديتها الرمزية دون الغوص العميق في بنيتها الاجتماعية. فبدل النظر إلى الرأسمالية كنظام تاريخي يقوم على علاقات إنتاج وصراع على الموارد والسلطة، يميل بيكيرت إلى تصويرها كقوة متعالية أو كطبقة من "الحركة التكتونية ــ مصطلح عند بيكيرت استعارة تصف الرأسمالية كقوة عميقة وبطيئة لكنها شاملة، تعيد تشكيل كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. هذه القوة تتحرك تدريجياً، لكن تأثيرها ضخم ويغير شكل العالم بالكامل. باختصار، الرأسمالية تعمل مثل الصفائح التكتونية، ببطء وعمق، لكنها غير قابلة للتجاهل، والتي تعيد تشكيل الوعي والثقافة، وتحوّلها إلى منطلق لتفسير التغيّر التاريخي. تخيل أن الرأسمالية مثل الصفائح التكتونية تحت الأرض: تتحرك ببطء شديد، لكن كل تحرك صغير لها يغير شكل سطح الأرض تدريجياً. كذلك، القرارات الاقتصادية والتجارة العالمية تبدو صغيرة أحياناً، لكنها تُعيد تشكيل المجتمع والعلاقات بين الناس بشكل هائل. هذه الحركة البطيئة لكنها دائمة تجعل الرأسمالية قوة عميقة وشاملة، تؤثر في حياتنا اليومية دون أن نشعر بكل تفاصيلها.
بهذا الزخم المفهومي، يصبح حديثه عن "التحوّل الذهني" أو "التشكّل الثقافي" للرأسمالية طرحاً مهمّاً لكنه غير مكتمل، لأنه يفصل البنية الاقتصادية عن شروطها المادية ويرجع التغيير إلى تحوّل في الوعي بدل أن يربطه بتحولات في الملكية والتكنولوجيا والقوة الاجتماعية. فالتبدّلات التي جعلت التراكم مشروعاً لم تكن نتاج تطوّر أخلاقي أو ثقافي فحسب، بل جاءت من إعادة تنظيم العمل وتوسيع شبكات السيطرة وانتزاع فائض القيمة من اليد العاملة ضمن علاقات إنتاج غير متكافئة. عندما يصف بيكيرت الرأسمالية كمنظومة تنتج الاستلاب وتعيد تشكيل تقسيم العمل، فإنه يلامس تحليلات نقدية معروفة، لكنه لا يذهب إلى جذورها: كيف يُعاد تشكيل الإنسان كمجرّد حامل لوظيفة اقتصادية، وكيف يُبنى الاقتصاد العالمي عبر عنف استعماري منظم. كما يقدّم "التراكم البدائي" كمرحلة سبقت الرأسمالية، في حين تشير قراءات أخرى إلى أنه مكوّن مستمر يُعاد إنتاجه بطرق جديدة: عبر الخصخصة، الهيمنة المالية، وإعادة تشكيل الأسواق. وفي تناوله للعوالم السابقة للرأسمالية، يميل بيكيرت إلى تأطيرها بوصفها مجتمعات "مكتفية" أو غير مهيأة للتوسّع، ما يغفل وجود الفوائض، والتفاوتات، وشبكات التبادل التي لطالما أثّرت في التنافس بين القوى الاجتماعية. حتى تحليله للثورة الصناعية بوصفها لحظة "ربط عالمي" يبقى عاماً، لأنه لا يُبرز أن صعود الآلة كان وسيلة لزيادة السيطرة على زمن العمل، ورفع الإنتاجية، وإخضاع العمّال لشروط جديدة من الانضباط والإيقاع الصناعي. كما يعامل بيكيرت التكنولوجيا كعامل محايد أو كنتاج لحيوية الرأسمالية، متجاهلًا أن الابتكار ذاته يتولّد داخل توترات اجتماعية عميقة، وأنه لا يتحرك بمعزل عن علاقات السلطة. وفي تحليله لدور الدولة، يختصرها غالباً في كونها أداة توسّع اقتصادي، دون التوقف عند بنية القوانين، والتعليم، والضرائب، والشرطة، وكيفية استخدامها لإعادة إنتاج ملكية معيّنة وضمان استمرار السيطرة. حتى حين يناقش أشكال مقاومة الرأسمالية، فإنه يقدّمها كحساسية أخلاقية أو ثقافية أكثر من كونها تعبيراً عن صراع داخل عملية الإنتاج نفسها، ما يجعل مقاومته للرأسمالية أقرب إلى نقد للهالة لا لتفكيك الأساس الذي تقوم عليه. وفي النهاية، قد يكشف كتابه عن مفارقة لافتة: فمحاولته تقديم “نظرية كلية للرأسمالية” تنتهي إلى إعادة إنتاج الطابع الشمولي الذي يتّسم به النظام ذاته-تفسير شامل، وتوسّع بلا حدود، وانفصال نسبي عن البنية المادية. يوضح هذا النوع من القراءة أن الرأسمالية ليست قوة غامضة أو كياناً قدرّياً يسيطر على العالم، بل هي نظام يمكن فهمه، قائم على ممارسات اجتماعية ملموسة يمكن دراستها، وتحليلها، ومواجهتها، وتجاوزها، بدل الاقتصار على التأمل في أبعادها الثقافية الظلّية.