المواطنة، حق قانوني وانساني واخلاقي قائم بين المواطن – أياً كان انتماؤه وهويته وطائفته ولونه – والدولة.
ولما كانت (الدولة العراقية) قائمة على الاغلبية/ الأكثرية، اذن هي دولة فئة بعينها، اما بقية المواطنين فهم (أقلية ومكونات) يتم إلحاقهم بتلك الفئة، فهي تابعة، وتتفضل عليها تلك الفئة بـ (حصة) و (كوتا) انتخابية.
فيما الديمقراطية الحقيقية لا تقر بالكثرة العددية لفئة بعينها، وانما تقاس الامور مجتمعة على الوطن والمواطنة، ولا يمكن تمييز مواطن عن سواه من ابناء الوطن الواحد. فكيف يكون الامر اذا كانت الديمقراطية شكلاً بلا محتوى؟
لنقرأ كل ادبيات الاحزاب الدينية مجتمعة، وسنتبين انها لا تؤمن بهذه المفردة (الديمقراطية) ولا تضعها في برنامج عملها الذي تحول من (العبادات) الى (الحاكمية) وعندما ألزم التغيير السياسي الذي جرى بعد عام 2003 هذه الاحزاب بـ (السياسة الديمقراطية) وبضمنها (الانتخابات) فوجئنا بأن هذه الاحزاب لا تجد نفسها إلا في ممارسة انتخابات قائمة على تشكيلات وقوائم متعددة فيما هي تخرج من ثياب العقيدة وقدسيتها.
فمن لا ينتخب ويقاطع يعد في رأيها (كافراً) وخارجاً عن (الملة والجماعة). ومن هذا الرأي الحازم والمطلق خرجت شعارات (ما ننطيها) و (لا تضيعوها) و (نحن امة) و (نحن دولة).. الخ.
هذه الفئة بكل عنواناتها حسمت الموقف امام الجمهور الانتخابي.. قبل وبعد العملية الانتخابية.. فيما كانت قد اعدت طريقة انتخابية تعسفية وصنعت في ضوئها، مركزية لرئيس القائمة، ومركزية اخرى للتجمع العددي للتحالفات التي تجري بعد الانتخابات.. وهذا يعني في النهاية خنق الديمقراطية ونسف وجودها في صلب العملية الانتخابية، فإذا اختار العراقيون شخصية بعينها او قائمة بذاتها، فإنها لا تفلح بالفوز ما لم تكن خاضعة لـ (القائمة الموحدة الاكبر)!! وتذهب كل الاصوات الى حيث تذهب الريح! هذه مسألة اولى.
اما المسألة الثانية فتقوم على غياب قواعد (اللعبة الانتخابية) وعدم تكافؤ فرص المرشحين للانتخاب. فما بين فئة حاكمة تملك المال والسلاح، وفئة تملك الواجهة الدينية والعشائرية وتشتغل على مفهومين: تعميق الجهل وتعميق اقناع الناس بالوظائف والمكاسب وشراء الذمم.. من دون ان يكون هناك فهم ومعرفة بواجبات (النائب) الذي لا يملك ارادة تنفيذية.
اما المسألة الثالثة، فتأتي كنتيجة طبيعية للمسألتين السابقتين ذلك ان القوى المدنية ومن بينها الحزب الشيوعي.. لن يكون لها موقع في ظل ما اوردناه.. مع ان هذه القوى المدنية هي الأكثرية اذا ما حددنا اعداد كل المناضلين، وكل الذين تم احتسابهم على فئة طائفية بعينها وهم لا يمتون بصلة الى هذا التقسيم الطائفي، وانما هم مواطنون عراقيون مهما كانت طوائفهم وهوياتهم وألوانهم ومناطقهم واحزابهم، ولا يمكن حصرهم على انهم من هذه الطائفة دون سواها.
وعلى وفق هذه الحقيقة التي غيبها الاعلام، مثلما غيبتها القوى المدنية ولم تعمل على تثقيف وتوعية الناس بها. ونتيجة لذلك وجدنا معظم الرافضين للانتخابات، كانوا على قناعة تامة بأن الانتخابات لن تغير شيئاً، وان كل الوجوه ستتكرر مع تغييرات طفيفة يتم استبدالها على حسب المصالح والعلاقات والرشا!
ولم تكن هناك ارادة سياسية تعمل بجدية ودأب على ايضاح هذه الحقائق امام الجمهور، بحيث بات الواحد منا غير قادر على اقناع اقرب الناس اليه بالتوجه للانتخابات.. لأن (قواعد اللعبة الانتخابية) لم تكن ديمقراطية اصلاً، وإلا كيف يمكن ان يكون هناك وطن بلا مواطنة؟
نعم.. هناك قناعة تامة لدى الكثيرين بأن مشاركة القوى المدنية، يعطي شرعية لانتخابات غير ديمقراطية ولفئة لا تؤمن بالديمقراطية، ولقانون انتخابي تم (تصميمه) على وفق ارادة السلطة الحاكمة وليس لأحد سواها من هنا كانت النتائج محسومة ومعلومة ومتوقعة من قبل الكثرة من الجمهور المدني.
واذا ما قيل بأن هناك ضرورة لإثبات الوجود، فان هذا الوجود لا يمكن ان يكون فاعلاً ومؤثراً في برلمان لا يجمع افراده لا بر نبيل ولا أمان سليم! وللمدنيين تجربة سابقة عندما استقال عضوان من البرلمان، حيث وجدا نفسيهما يغردان خارج السرب.. وحسناً فعلا.
من خلال هذه النقاط الواردة؛ نرى ان منطق الاشياء، يقودنا الى معرفة رصيدنا في ظل زمن باتت فيه كل الارصدة بأيدي تجار المواقع المهيمنة على البلاد والعباد، بوصفها تمتلك (قوة السلطة) و (قوة المال) و (قوة السلاح) كذلك. ما العمل اذن؟
ان بناء الانسان الذي هدمت ومسخت وجوده كل الفئات التي حكمت العراق منذ 2003، مستفيدة من انقاض دكتاتورية فردية سابقة، مخلفة السيء بما هو أسوأ.
هذا الانسان، به حاجة ماسة الى اضاءة عقله التي تحاول السلطات اطفائها، وجعله ينصرف الى الجهل والغيبيات والبحث عن قوت يومه والمطالبة بأبسط حقوقه كإنسان، من دون ان يشغل عالمه بالتغيير الحقيقي.. بعد ان رسخوا في ذاكرته فكرة القبول بالسيء بدلاً من المغامرة ومن ثم الوصول الى ما هو أسوأ!
ان الاستسلام لهذا الواقع الفئوي المتردي في الميادين كافة، يعني ان حس الوطن والمواطنة قد تم تعطيله وتغييبه ولكن.. بوجود العقول النيرة لا يمكن دفنه ولا يمكن الاستغناء عنه أبداً.. لأن المواطنة هي الاصل وهي الاكثرية.. وهي القادرة وحدها على بناء الوطن.