اخر الاخبار

في يوم الخميس 15 أيار من هذا العام، فقد العراق شاعره الكبير موفق محمد، بعد أزمة صحية ألمت به. وكان الشاعر الذي ولد في مدينة الحلة العام 1948، قد بدأ الكتابة في الصحف العراقية منذ ستينيات القرن الماضي، حتى صار من أبرز مبدعي البلاد، ممن ستُّخلد العديد من قصائده وسيبقى في قلوب الناس الذين أحبوه، وبمبادرة شعبية منهم نصبوا له تمثالاً في المدينة الفراتية الجميلة أثناء حياته، نحته النحات العراقي طه وهيب.

سطع نجم الشاعر الراحل موفق محمد، في سماء الحلة حتى قبل أن تتغنى بقصائده، ويشير الشاعر السوري فايز العباس، إلى الترابط بين المدينة ومغنيها الأشهر وشاعرها الأهم، فقال في رثائه "..اليوم ترجّل شاعر الحلة الذي قال يوماً، في الحلة قديسان لا يتعبان؛ الجسر القديم وسعدي الحلي، وكنت أتمّم جملته وأقول، وموفق محمد...". كما قال الشاعر السوري محمد المطرود في وداعه: "موتُ شاعرٍ حقيقي يعني تساقطُ نجومٍ كثيرةٍ كانتْ تزينُ جزءاً من سماواتنا..".

ويطلق العراقيون على موفق محمد، لقب "شاعر الوجع العراقي"، إذ اكتسبت قصائده شعبيتها من كونها ذات طابع حزين في بلد عانى من سلسلة حروب واضطرابات أمنية رهيبة طوال العقود الماضية. فقد خلد الشاعر الحليّ سيرة ضحايا تلك الحروب بأدق تفاصيلها وتأثير غيابهم عن منازلهم وعائلاتهم، وهي تفاصيل تكاد تلامس حياة كل عراقي تقريباً. وزاد أسلوب كتابة تلك القصائد من شعبية مؤلفها الذي مزج في أبياتها بين اللغة الفصحى واللهجة العامية، وجعلها مزيجا من التاريخ والجغرافية والحكم والأمثال الشعبية التي يرددها الناس في يومياتهم.

وساهم غياب موفق محمد عن المواقع الرسمية، الأدبية والسياسية، وقلة ظهوره في عالم الإعلام والتواصل الاجتماعي ومقابلات "البودكاست" الطويلة، في تحويل قصائده لمنبر يحكي عنه وعن حياة الناس البسطاء. لكن ذلك التماهي مع الناس في القصائد، لم يبعد موفق محمد عن سماء النخبة الشعرية، بل بالعكس تماماً، حيث باتت قصائده مفضلة ومحل إعجاب في الوسط الثقافي والأدبي كما كانت لدى عموم العراقيين، ولا سيما بين الشعراء. وعكس سيل كلمات وقصائد الرثاء التي دوّنت بعد رحيله مكانة موفق محمد لدى جمهور الشعر في العراق والعالم العربي، إلى جانب النعي الرسمي من رئاسة الحكومة.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن موفق محمد، يحمل شهادة بكالوريوس في اللغة العربية، وعمل في التعليم مدرساً في عدد من مدارس مدينته، وأصدر طوال مسيرته الشعرية التي تمتد لأكثر من خمسة عقود، عدة دواوين مطبوعة، وشارك في العديد من المهرجانات الشعرية داخل وخارج العراق.

كتب الراحل في رثاء ولده الشهيد المهندس، يقول:

"ميّت أنه

ولا خط يجي عن موتك

سوده وحشتك يَولِدي حرموك من تابوتك

مشچوله ذمته المرمرك

لا تبري ذمته مروتك

ما ناح طير على الشجر

إلّا اعله نغمة صوتك

حيل ادلهمت يا نبع ﮔلبي وﮔمرنه امدمّه

إبموس الخناجر تاكل بلحمه وتفطر النجمه

عميه وتدور رويحتي إبيا بير أدوّر يمّه

وما ظِن بعد تطلع شمس وتزول هاي الغمّه

وفرﮔاك فتّ إمرارتي وضاﮔت عليّه الـﭽلمه

لا ﮔبر وتهدّل إله

وألهم ترابه وأسأله

الـﮔلب صاير كربله"

 

وخصّ الشاعر محبوبته الحلة، بقصيدة طويلة عنوانها “غزل حلي”:

"ها أنا أحب الحلة

فما زلت جنيناً في رحمها

أسمع صوت أمي

في هسهسة الخبز

وفي نهرها الهادر بالحمام

هذا النهر الذي مد ذراعيه وسحبني

برفق من رحمها

وخبأني وأراني ما في قلبه من تيجان

وكنوز

ولفّني في سورته"

وعن نهر الحلة الذي اكتسى بالسواد، فالنهر يلبس عباءات ثكالى الحروب التي دمرت وطنه، قال:

"حيث يفور الصبر

وتلبس الأمواج عباءات الثكالى

وتسير بخطى وئيدة

فترتبك النوارس فوقها صارخة

يا نهر أنّى لك هذا السواد؟

أنا أحب الحلة

أعشق رقتها التي تفوح برائحة العنبر

وحليب أمي وهي ترضع آخر العنقود"

ولكن جسر الحلة لم يعد ذلك الجسر الذي يربط الصوب القديم بالحديث بل صار يئن ويبكي مذ صار سبيلا للعابرين إلى الحروب:

"واعتذر …أحبّ جسرها القديم

لم يحلق لحيته رفقا بالصبية

أسمع أنينه وهو يرى الجنود

العابرين إلى الحروب

محترقاً بالجمر الذي تتركه أقدامهم

على ضلوعه

أهذه دموع أمهاتهم؟

قال الجسر وبكى"

ثم يرجع موفق محمد للسخرية من المأساة ومن هول انعكاسات الحرب على وطنه فيقول:

"ألم ترَ أن لا حمار في العالم يشبه موفق محمد

فهو الوحيد الذي يسير على قدمين اثنين

هو في الستين من عمره

ولا يملك شبراً في المعمورة

ولا زاوية في زريبة

يخرج وحيداً عارياً كما خلقه الله

ويعود مثخناً بالجراح

جراء السياط التي تشترطها الأزمات

التي تعصف بالبلاد".

 

وهذه الأزمات جعلت الخواء النفسي والمادي يفتكان بالعراقيين أيام الحصار، فقال في قصيدة أبواب:

"فلا خبز في الدار

ولا أب يهبط من صورته في المساء

المساء الذي يلوّن الأفق

بنحيب الأرامل

لتشرق الشمس عراقية

تتطاير لحما ودما".

ولأن ما من حصاد في وطنه سوى التوابيت، ناشد موفق محمد العالم، فيقول في قصيدة (أبواب) أيضا:

"بابنا لم يحلق لحيته

فلقد اشتبكت بلحى الأزقة التي تنام

في التوابيت

أما آن لأبوابنا الملطخة بالدماء

والحناء

والعويل وبكاء العوانس

ان تطير بأثوابها

مبرقة مرعدة

ليرى العالم غيومه الجديدة".

ثم يتوجع موفق محمد على أبناء وطنه من الخراب الذي حلّ بهم بشكل أكثر وضوحاً موظفاً الاستفهام، فيقول في قصيدة (صور شمسية):

"هل رضعنا حليب جهنم وتنشقنا

يحمومها؟

فاستأسد الجمر فينا…

ليأكل ما تبقى من لحمنا الذي

أخطأته الهاونات والأنوات….

لدرجة جعلت العراقيين يطلبون

اللجوء الإنساني إلى جهنم".

ثم يتجلى موفق محمد في صورة حكيم فيطالب بالحكمة لوقف نزيف الدم بين أبناء وطنه، ويقول في قصيدة (No – PHoto):

"عمّ تتذابحون؟

والوطن يرفس تحت أقدامنا

أنحن الغريبون فيه أم هو الغريب فينا؟

ألم نرضع حليبه؟

وتوسدنا صدره طويلاً

فلنحتكم قليلاً

قبل ان يصبح العراق مصنعاً لتعليب الرؤوس البشرية

وما من مستور غير المقابر".

وتجدر الإشارة إلى أن موفق محمد كان ملمّاٌ بالتراث الشعبي، من أمثال شعبية وألفاظ وحكايات وحتى الشتائم، وهو ما نرى مثالاً عليه في قصيدة (تخطيطات جديدة لمؤيد نعمة) حيث قال:

"والنفط يخرج من بطون الأرض مشفوعاً

لا بما صنعت يداه

ولضاع شعب في المتاه

(والشايل البيرغ حمد واليلطم ابن كضيمة)"!

 

وقال في قصيدة (ما تبقى من أيامه):

"والوظيفة في الصباح

سوى الرعب وما يردده

الصبية وهم يجوبون

الأزقة في عرباتهم

(العدّة عراقي عتيك للبيع)"!