اخر الاخبار

وإنّ من الشعر ما يُقوّي النفسَ ، ويُثبّتُها ، ويَدفعُ عنها الزعازعَ ، ويُريها وجهَ الصواب في ما هي فيه ؛ وكم كانت أبياتٌ من الشعر عونًا على اللأواء ، وملاذًا من التردّي؛ كالتي أعانت إبراهيم بنَ عبد الله بنِ الحسن في يومه الشديد .

لقد كان من أمر إبراهيمَ وأخيه محمّدٍ ، النفسِ الزكيّة، أنّهما توثّبا زمنَ الأمويين ، واختفيا ، وأرادا مع أبيهما ، وهو في الصدارة من بني هاشم ، أن يُديلوا من بني أُميّة ، وأن يقيموا دولتهم ؛ وكانوا في ذلك على مستبقٍ مع أبناء عمّهم، بني العبّاس ؛ فلمّا قُيّض للعبّاسيين أن يحكموا ، وأن يتولّى أبو العباس السفّاح الخلافةَ ، وأن يُمسك بالأمر من أطرافه ؛ أتاه وجوهُ الناس مبايعين ، وتخلّف عنه إبراهيم وأخوه محمّد ، فأوحشه تخلّفُهما ! لكنّ أباهما عبدَ الله جاءه  مسلّمًا بالخلافة مبايعًا ، دافعًا عنهما ما يظُنّ فيهما. حتّى إذا انقضت أيّام أبي العبّاس ، وقام المنصور بالأمر ، وأخذ في طلبهما ، وألقى أباهما عبدَ الله في السجن ، وألقى معه نفرًا من آله ، وسلّط عليهم جميعًا سوطَ عذاب ؛ ضاقت الأرض ، عندئذٍ ،  بهما ، ورأيا ألّا منجاةَ إلّا بالظهور؛ فإمّا حياةً كريمةً ، وإمّا مماتًا مريحًا  ؛ فظهر محمّد في المدينة ، وظهر إبراهيم في البصرة !

ثمّ قُدّر للمنصور أن يغلِب ، وقُدّر على محمّدٍ ، النفسِ الزكيّة ، أن يلقى مصرعَه في المدينة ؛ وأُمهل إبراهيمُ حينًا من الزمن ؛ فكانت الحربُ بينه وبين دار الخلافة سجالًا ؛ مرّةً له ، ومرّة عليه ؛ حتّى كان يومٌ رأى فيه البياضَ ، وهو شعاره في حربه ،  يقلّ ، ورأى السوادَ ، وهو شعار بني العبّاس ، يكثُر، وأيقن أنّ الدائرةَ عليه ، فالتفتَ إلى المفضّل الضَّبّي ، وكان من رجاله ، وقال له : يا مفضّل أنشدني شيئًا يهوّن عليّ بعضَ ما أنا فيه . يقول المفضّل فأنشدته : 

         أقـــــــولُ لـــفتيـــــانٍ كـــــــــــــــرامٍ تـــروّحــــــــــوا ... على الجُردِ في أفواهِهن الشكائمُ

         قَعوا وقعةً من يحيَ لا يخزَ بعدها ... ومـــــن يُختَــــرَمْ لا تتّبعهُ المــــــلاومُ

         ألا أيّـــــها النـــــــــاهــــــي فـــــزارةَ بعدمـــــا ... أجَدَّتْ لغزوٍ ، إنّمــــــا أنتَ حــــــالمُ

         أبــى كـــــــلُّ ذي تَبْـــــــلٍ يبيتُ بهمّــــه ... ويُمنـــعُ منـــه النــــــومُ إذ أنتَ نائـــــمُ

         وهل أنتَ إن باعدتَ نفسَك منهمُ ... لتسْـــــلمَ ، ممّــــا بعـــــدَ ذلــــك ســـــالِــمُ

ويُتمُّ المفضّلُ كلامه فيقول ؛  قال لي : “ أعدْ ، فتنبّهتُ وندِمتُ ، فقلتُ : أو غير ذلك ؟ فقال : لا ، أعدها ، فأعدتُها ؛ فتمطّى في ركابيه حتّى خِلتُه قد قطعهما ؛ ثمّ حملَ حملةً فكان آخر العهد به ! “

لقد كان إبراهيم ، مع كلّ ما له ، رجلًا عالمًا بالشعر؛ يعرف جيّده من رديئه ، ويُحسن التخيّر منه ؛ لكنّه اليومَ يريدُ أن يسمع شيئًا من الشعر على لسان غيره حتّى يشدَّ به  نفسه ، ويقوَى على يومه العصيب ؛ فأنشده المفضّل مقطوعةً من دون أن ينصَّ على مُنشئها ؛ وكأنّه لا يقطع بنسبتها إلى شاعر بعينه ، وكأنّ إغفالَ اسمِ شاعرها يجعلها ملكَ من يسمعها ! وقد تداولتها كتبُ الأدب ، من بعدُ، من دون أن تقطع بنسبتها إلى شاعر بعينه ؛ فقد جاءت نسبتُها في “ الوحشيّات “ إلى أبي حَرَجَة الفَزَاريّ ، وفي “ الأغاني” إلى عويف القوافي ، وفي “ الحماسة الشجريّة“  من دون عزوٍ . وهي على ذلك في صميم ما كان فيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ؛ فلقد رأى أمارةَ غلبةِ جندِ الخلافة ، ورأى صحبَه يقلّون ، ورأى الموتَ مطلًّا ؛ فكان بين أمرين ؛ إمّا أن يخضع ويذلّ ويُعطي بيده ، وإمّا أن يمضي على عزيمته الأولى ؛ فلمّا سمع أبياتَ ذلك العربيّ الكريمِ أعاد في نفسه :

قَعوا وقعةً من يحيَ لا يخزَ بعدها ... ومـــــن يُخترمْ لا تتّبعه المـــــــلاومُ

ولم يبقَ له إلّا أن يتمَّ ما بدأ !

إنّ الشعرَ العربيّ القديمَ معدنُ القيم الرفيعة ؛ في سمو النفس ، وحفظ كرامتها ، وفي مغالبة المكاره ؛ ولقد حفِظ الشعرُ على القوم قوّتَهم ، وكان ركنًا ركينًا في تماسك أخلاقهم .

أمّا المفضّل الضبّي  فقد كان من أجلّ رواةِ الشعر ، وأعلمِ القائمين عليه ؛ قال عنه ابنُ سلّام : “ أعلمُ من وردَ علينا من غيرِ أهل البصرة : المفضّلُ بنُ محمّدٍ الضبّيّ الكوفيّ.” وكان صغوه إلى آل عبد الله بن الحسن ؛ يرى رأيهم ، وينحو منحاهم ؛ وكانت بينه وبين إبراهيم ، خاصّةً ، صلةٌ وثيقة ؛ فلمّا أُضطُرّ إبراهيم  أن يتخفّى ، ويستتر عن عيون السلطان  كان بيتُ المفضّل ممّا اختبأ فيه ؛ حتّى كان سببًا في إنشاء “ المفضّليات “ ؛

فقد روى أبو الفرج الأصفهانيّ في “ مقاتل الطالبيين“: أنّ المفضّل كان يقول : إنّ إبراهيم بن عبد الله  بن الحسن كان متواريًا عندي خشيةَ السلطانِ وعيونه ، وكنت أخرجُ وأتركه ، فقال لي : إنّك إذا خرجتَ ضاق صدري ، فأخرِجْ إليّ شيئًا من كتبك أتفرّجْ به ، فأخرجتُ إليه كتبًا من الشعر ، فاختار منها السبعينَ قصيدةً ؛ صدّرتُ بها اختيارَ الشعراء ( يريد المفضّليات ) ، ثمّ أتممت عليها باقيَ الكتاب .

إنّها لَصلةٌ عجيبةٌ بين ثائر يحبُّ الشعرَ ويرويه ، وبين راويةٍ عليم بالشعر يحبُّ الثورةَ ، والخروجَ على الظالمين ! لكنّ كلًّا منهما سِيقَ إلى مآل يخالفُ مآل صاحبه ؛ فأمّا إبراهيم فقد مضى على أمره حتّى لقيَ ربَّه ، وأمّا المفضّل فقد قعدتْ به نفسُه عن اللحاق بصاحبه ؛ فأعطى بيده، وجنح إلى الموادعة ، وأمّا الشعرُ فقد ظلّ منبعَ قوّةٍ وسموّ...!