تمثل رواية (رقصة تحت ظل فراشة) للروائي عمار نزار تجربة شبابية في كتابة الرواية البوليسية القصيرة لما أنطوت عليه من غموض وجرائم وصراع خفي بين الشخصيّات ممّا جعل السرد يكتسب ملامح وتوّجهات التشويق، والإثارة واستقطاب المتلقي لمتابعة خيوط وأبعاد الأحداث والشخصيّات لمعرفة الحقيقة الكاملة التي يؤجّلها الكاتب لخلق حالة من التشويق والتتبع والسير مع مسارات الغموض والغرابة التي مثلّت أحد خصائص هذه السردية البوليسية.
انطلاقاً من هذه المعطيات والتوصيفات فإن العمل البوليسي ينطوي على دقة، وترتيب على مستوى الحبكة والبداية والذروة والنهاية، وعلى مستوى تقديم الشخصيّات والإيهام بها، وخلق حالة من القلق واللبس والشكوك والبحث عن القاتل أو المجرم الحقيقي وسط هذا الصراع والإيهام واختلاط المواقف والنيّات، ولعلّ هذا النمط من الروايات يتطلّب بطبيعة الحال القدرة على نسج الحبكة وتعميق مسار الفعل البوليسي والأجواء التي تثير الخوف والتوّجس والقلق فضلاً عن التمكّن من رسم تراتبية السرد وعدم الكشف المبكّر عن أيّة معلومة تضيء وتكشف الأسرار، فتوافر الأحداث البوليسية والغموض والأسرار وإثارة ذهن المتلقي، وتوافر التشويق والجذب، وطريقة تقديم الأحداث والشخصيّات وتواتر الأحداث المثيرة كلّها ترتبط بخصائص البناء الفني للسرد البوليسي الذي يختلف اختلافاً كلّياً عن أنماط السرد الأخرى.
إنَّ الشكل الفني والبناء الروائي يتحول إلى دال ومدلول، أي أن الموضوع أو الثيمة تتجسّد من خلال البنية السرديّة ويصبح الشكل والمضمون في توحّد وتناغم يعبّر كلّ منهما عن الآخر، وهذا يكشف عن أهميّة ومركزيّة البنية الفنيّة أساساً، ومن ثم يفكر الكاتب بملء فضائها بما يؤيد التركيز أو التوكيد عليه من قيم وأفكار ودلالات، وبما يجعل الرواية البوليسية لا تخلو من تلك السمات، وثيمات انسانية تسهم في الكشف عن الواقع المأزوم والصراع البراغماتي، والاجتماعي والسايكولوجي والطبقي بين الشخصيّات ويصبح المعنى المتوخّى كامناً وراء سلسلة من الجرائم والصراعات وأفعال الشر لكي يكشف العمل في نهاية المطاف عن ثنائية الخير والشر، وغالباً ما يرتكز الروائي البوليسي على قاعدة العدالة الشاعرية حين يتعرض الأشرار للعقاب وينال الأخيار الموقف الإنساني وعمل الخير والسلوك السوي، وعلى وفق هذا المنحى نلحظ أن السرد البوليسي يقوم على تمركز الصراع بين الأخيار والأشرار، وعلى الرغم من قلة تجارب وتوّجهات الكتابة البوليسية في الأدب العربي عموماً، لكنّها بدت في المرحلة الأخيرة تجد من يقصدها ويختارها ويوظفها، بسبب أنّ مأزوميّة الواقع المعاصر تنطوي على غموض وتأزّم وشرور تجعل الكاتب يميل إلى توظيف النسق البوليسي في الكشف عن الاختلال والنكوص والزيف.
ولعلّ هذه التوجهات هي التي تجعل السرد البوليسي ليس مجرّد تسلية ومعالجة سطحية ومساحة لحلّ الألغاز، ولعبة للغموض المجرّد، بل حتى أعمال (أجاثا كريستي) لا تخلو من إدانة للشر والكشف عن الواقع الملتبس والتركيز على أن الشر لابُدَّ أن يندحر، ويتحقق العدل، ويسود الأمن، وإن كشف الجريمة يؤكد قاعدة انعدام فكرة الجريمة الكاملة وانعدام استمرار الشر المطلق.
قدمنا هذا الإستهلال كمهاد أول قبل تناول أو تحقيق مقاربة تحليلية للرواية التي استخدم الكاتب لمسة أو (ميكانزم) الإيهام في (بنية العنوان) بوصفه الدال المركزي أو الإضاءة الأولى فقد أوهمنا العنوان بنسقه ومدلوله الشاعري، وكأنه عنوان لمجموعة شعرية، وليس لرواية بوليسية قصيرة، وقد عكس صورة شعرية مضمّخة بروح رومانسية، وخيال جامح من خلال الاقتران الدلالي الشاعري بين الفراشة والرقصة، والظلال التي بينهما، مع ملاحظة الخطأ في كتابة مفردة (الظل) بصيغة (الضل) في العناوين الداخلية، والفرق على مستوى المعنى يختلف بين المفردتين بطبيعة الحال. والكشف عن الاشتغال وترسيخ الأجواء البوليسية، بدأت الرواية باستهلال يجسّد حركة هروب، وترقّب ومطاردة تعلنها الشخصيّة الرئيسية في الرواية متمثلة بـ(أنس) وتجسّد أجواء الخوف والحركة والغموض لجذب انتباه المتلّقي منذ البدء، "انطلق بخوف.. القدمان تركضان بتآزر متواصل مع ايقاع شهيق مسموع الأنفاس، تتسابق مع نبضات قلبه المتسارعة، يبدو الزمن قد كسرت عقاربه وتلاشى في بعد غير محدّد، مشهد غمره طقس غريب، عندما اختلطت الأمطار بجريان التفكير، وهمسات المطر تندمج مع همهمات الريح، باغتته نفسه في لحظة غفلة، وأعصابه الخائفة تسبقه". (الرواية: 5).
وتتكشف ببطء ملامح اللوحة التفاصيلية سيرورة الأحداث، وتكشف من خلالها طبيعة الشخصيّات المحيطة بـ(أنس) الذي يعيش في قصر كبير في حي اليرموك في بغداد معزولاً في غرفة في الطابق الثاني لا يدخل عليه سوى (جيهان) زوجة أبيه (عبد الله) إنها هي الوحيدة التي ترعاه، وتقوم بحقنه بعلاج لمرضه الجلدي الغامض، وليس في هذا القصر الكبير سواهما، وخادمة وفلاّح يرعى الحديقة.