هي الثقافة، شأن الناس كلّهم شاءوا أم أبوا، قصدوا أو لم يقصدوا. متدخّلة في كل شؤونهم الحياتية والفكرية والأدبية ومتغلغلة فيها. تقودهم في التعبير عنها وعن ذاتهم من خلال نوعها. إن ارتقت قيمها ارتقوا، وإن تسافلت قيمها تسافلوا. فالناس لا ينالون الاحترام والإجلال لمجرد أنهم بأشكال أدمية. فهذه الأشكال لا تمنع عتاة المجرمين من أن يعبّروا عن وحشيتهم بالقتل والافتراس. الناس يرتقون حين ترتقي ثقافتهم، وبناء على هذا الارتقاء يكون التقدير ويتحقق علو المكانة، سواء أكانوا أفرادا أم مجتمعات.
والتعبير عن الثقافة يأتي من خلال الفعل والسلوك الحياتي. ويأتي في مرحلة متقدّمة معرفيا من خلال التعبير عنها في المنجز المكتوب، سواء أكان أدبا أم نقدا أم غير ذلك. ويأتي التعبير عنها، أيضا، من خلال المعنيين بها من المثقفين، متحدثين عنها وباحثين فيها. والناس في درجات تعلّمهم وإمكاناتهم ليسوا متساوين، لكنهم جميعا في مركب واحد، وحين تُسيء مجموعة منهم، بفعل تفشّي قيم سلبية في ثقافتها، قد تُعطّل سير المركب، وقد تُغرقه بمن فيه، من متنورين وجهله على حد سواء. لذا يصبح سعي المثقف حين يقوم بمحاولة الارتقاء بثقافة مجتمعه بكلّ مستوياته متضمنا رغبته في أن ينجو هو من الغرق، فضلا عن رغبته في أن يُجنّب الآخرين أيضا، هول الهلاك، فهو وهم جميعا في مركب الثقافة. الأفراد المثقفون ثقافة مدنية متوازنة تنتمي لزمانها ومكانها من حيث النوع والقادرون على توصيلها؛ يمكن أن يكونوا بؤر إشعاع ثقافي نافع في مجتمعاتهم، لكن الأكثر أهمية وقدرة على التأثير الثقافي على المجتمع هي المؤسسات ذات الشأن الثقافي، لترتقي بثقافة المجتمع. ومسؤولية الارتقاء هذه تستوجب رؤية معرفية بقوانين الثقافة وكيفية اشتغالها، مثلما تتطلب إخلاصا في العمل، ولغة مناسبة تصل إلى عقول الناس ونفوسهم.
نعم، ثمّة نخبة أو نخب، يتبادلون الأحاديث فيما بينهم، بلغة خاصة تضجّ بالمصطلحات الخاصة والصياغات الخاصة، ويتحدثون في موضوعات خاصة، وتفاصيل معيّنة، كالحديث عن التبئير، وعن أنواع الراوي في السرد، ويتحدثون عن تقنيات قصيدة التفعيلة، وأنواع الصورة الفنية... كل هذا محترم ومقدّر وهو حقّهم، ولكن ثمّة شيئا آخر يمكن أن يشتركوا فيه مع الجمهور، وهو الثقافة التي هي شأن الجميع، ومِقْوَد مَرْكَب الحياة في المجتمع.
قد تشترك التشريعات القانونية والمؤسسات الثقافية والمثقفون الأفراد في الارتقاء بثقافة المجتمع سلوكيا. وهو أمر ممكن في كل المستويات الاجتماعية والثقافية. فالتسامح والإنصاف واحترام الآخر وحب الوطن والحرص على المال العام واحترام القانون والحرص على نظافة الشارع ... بوصفها قيما ثقافية ليست بحاجة إلى مستويات متقدمة من التعليم لإشاعتها وترسيخها في المجتمع. وهذا هو المستوى الأول الذي يشمل المجتمع كلّه، بمختلف مستوياته الثقافية وشرائحه الاجتماعية. وهو في أصله يستند إلى أحد تعريفات الثقافة: حين تكون ((أسلوب حياة شعب)). وهذا "الأسلوب" أو نمط العيش يمكن أنّ يُرتقى به.
التباين في المستوى الثقافي أمر متحقق في كلّ المجتمعات، وإن كانت نسب هذه الفئة أو تلك مختلفة من مجتمع لآخر. والأمر لا يقتصر على مجتمعنا، الذي فيه نُخب ثقافية، مثلما فيه طبقة ثقافية قوامها غير المتعلمين والمطحونون ثقافيا.. ولدينا طبقة ثقافية متوسطة بين الطبقتين، وهم طلبة الجامعات والمتعلمون.. وهذه الطبقة بالذات فيها فرصة للاستثمار الثقافي، يمكن أن تقوم به النخب الثقافية، للارتقاء بها ثقافيا، لا من حيث الارتقاء بأسلوب حياتها فحسب، فهذا حاصل في الهدف العام، فهي جزء من مجتمع مشمول كلّه بهذا الهدف. ما أقصده هو اشتغال النخب على أفراد هذه الطبقة المتوسطة ليكونوا مصطفين مع مبدأ "التثقيف" والعمل على الارتقاء بالقيم الثقافية، ليكونوا متحدّثين في الثقافة وعنها، في المجالس والمنتديات وفي الشارع.
من سُبل تحقيق هذه الأهداف أن تفتح المنتديات المغلقة أبوابها، وأن تنفتح النُخب الثقافية على الجمهور، وتسعى لتوصيل الأفكار بطريقة مبسّطة، دون أن تفقد الأفكار قيمتها ومعناها وتنحرف بفعل الإفراط في التبسيط. الغاية أن تُصاغ الأفكار الثقافية بلغة مفهومة غير مقعّرة ومفرطة في التصنّع. فمعادلة كبار الكتّاب كان رهانها قائما على صياغة العمق ببساطة.
من أشد أنواع الخطر على ثقافة المجتمعات الفصام التام بين النخب من المثقفين والأدباء والكتّاب، وسائر الطبقات الاجتماعية الأدنى منها ثقافة، لاسيما الطبقة الوسطى. ومن خسارات المجتمع العراقي أنّه فقد دور الطبقة الوسطى لتكون حاضرة ومؤثّرة في الثقافة، من خلال تقديمها لثقافتها في الواقع. فقد انحسر دور هذه الطبقة بفعل عوامل عديدة، وبانحسارها خسر المجتمع كلّه بعض روح الثقافة المدنية.
قد يتصوّر أحد أنّ القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي صارت تقدّم للناس فرصة للارتقاء بالثقافة، وهذا ليس سوى ضرب من الوهم. فالواقع أن كل مستوى ثقافي معيّن من الناس سيذهب للقنوات والمواقع التي تخاطب مستواه، وهي لا تريد الارتقاء به بقدر رغبتها في استثماره. ويبقى سابحا في فضائها مستجيبا لرؤيتها.
ما نعنيه بفاعلية المثقف والنخب الثقافية بأنديتها ومؤسساتها، أن تضخ ثقافة تساعد على توازن النوع الثقافي وتخرجه من أحاديته، وأن تساعد في جودة الرؤية الثقافية وتعمل على التنوير وتعميق الوعي، وتحريض الناس على اختيار الموضوعات الثقافية والبرامج التي ترتقي بهم... فثورة المعلومات على اتساعها، مازالت تُضخّ بطريقة تعطّل الاهتمام بجودة الرؤية الثقافية وولادة الجديد. وهي مازالت تؤبّد الوعي الثقافي وتبقيه متخندقا، وقد تزيده سوءا وتسطيحا.