اخر الاخبار

يُعدّ كتاب «عزلتان.. غابرييل غارسيا ماركيز و ماريو بارغاس يوسا»* بترجمة مارك جمال، من أبرز الإصدارات التي تفتح نافذة جديدة على اثنين من أعمدة الأدب اللاتيني الحديث: ماركيز ويوسا. يجمع الكتاب بين البعدين الحواري والمقالي، فيقدّم للقارئ مواجهة فكرية وأدبية بين كاتبين يصعب المفاضلة بينهما، لأن كليهما ينتمي إلى عالمٍ مدهش من الخيال يعبّر فيه عن واقعه من زاوية مختلفة. خلال الحوار، يفاجئ ماركيز القارئ باعتراف صريح بأن روايته «مئة عام من العزلة» مستلهمة من قصة حقيقية تتعلّق بجده الذي ارتكب جريمة قتل وهرب من قريته ليساهم لاحقاً في تأسيس قرية جديدة. وعندما بلغ ماركيز الخامسة عشرة من عمره، عاد مع والدته إلى قريته أراكاتاكا لبيع منزل العائلة، وهناك ولِدت عنده فكرة الرواية التي غيّرت مجرى الأدب اللاتيني بشكل خاص والعالمي بشكل عام. كما يكشف الكتاب عن ان «ماكوندو»، القرية الخيالية التي أصبحت رمزاً في أدب الواقعية السحرية، لم تكن سوى اسم لإحدى مزارع الموز في القرية التي قضى فيها المؤلف طفولته. ماركيز يصرّ في هذا الحوار على أن روايته واقعية لا سحرية، إذ يرى أن كل ما يبدو غريباً في أمريكا اللاتينية يمكن أن يكون واقعياً تماماً في نظر الناس. أما على المستوى الفكري والسياسي، فيصرّح بوضوح: «أنا مع الاشتراكية»، مؤكداً انحيازه للفقراء ودعمه للثورة الكوبية وصديقه فيدل كاسترو، الذي ظلّ اشتراكيّ الهوى، إنسانيّ التوجه، يرى في الاشتراكية نموذجاً للعيش بكرامة لا أداة للصعود نحو السلطة. من جانبه، يوضح يوسا في الحوار أن كليهما -هو وماركيز- تأثرا بعمق بالأديب الأمريكي "ويليام فوكنر" أكثر من أي مؤلف آخر. إلا أن يوسا يعبّر عن رأي نقدي جريء، إذ يرى أن رواية «خريف البطريرك» لماركيز تفتقد المصداقية الفنية، وأن شخصية الديكتاتور فيها ضعيفة وغير مقنعة، بخلاف «مئة عام من العزلة» التي يعتبرها عملاً خالداً يتجاوز مستويات الوعي المختلفة للقراء، لما تحمله من توازن بين العمق والبساطة. إن هذا الحوار هو شهادة فكرية تؤكد أن الأدب اللاتيني لم يكن معزولاً عن السياسة أو واقع الحياة رغم سحريته، فماركيز يكتب ايماناً منه بقوة الحكاية الشعبية وقدرتها على كشف الظلم، بينما يكتب يوسا من وعي نقدي عقلاني يرى في الأدب وسيلة لفهم واقع السياسة في المجتمع. وان هذا التباين بين العاطفة والعقل في الفكر والتحليل، هو ما يمنح الكتاب قيمته الفكرية، ويحوّله إلى مرآة صادقة لأدب القرن العشرين في أمريكا اللاتينية. بهذا، يقدّم كتاب «عزلتان» قراءة مزدوجة للكاتبَين، تكشف التقاءهما في الهمّ الإنساني واختلافهما في الرؤية الفنية والسياسية.. كتاب لا يكتفي بتوثيق حوار بين عملاقين، بل يرسم خريطة فكرية لأدب أمريكا اللاتينية، حيث تمتزج الواقعية بالأسطورة، والفكر السياسي بالإبداع السردي، في توازنٍ نادر بين الوعي والفن.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*منشورات الجمل 2025.