" بهدف تقديم رؤية متكاملة عن شاعر ما، نقدم احدث قصيدة له، تنشر لأول مرة، الى جانب مراجعة نقدية لأحدث ديوان اصدره"
المحرر الثقافي
حينما تكلَّمَ أَدونيسُ
يا وَلَدي عُذرًا
كما حَمَلَتْني الرِّيحُ
هي ذاتُها التي أَتَتْ بِكَ هنا
مُدَّ لي يديكَ
تَعالَ نَجْمَحْ ما تَبَقَّى من الحَطَبِ
نَصْنَعْ لنا سَفينةً
وقُبَّعَةً بَيْضاءَ لإبْحارِنا
تَعالَ، مَن قالَ لنا: “أَرْضٌ واحِدَةٌ”؟
تَعالَ، تَسَلَّقْ فوقَ كَتِفي
شَيِّدْ لنا صارِيًا وشِراعًا
واجْعَلْ من عَيْنَيْكَ تِلِسْكوبًا
أَرْفِقْ بآخِرِ هُدْهُدٍ
هو دَليلُنا لِمُدُنِ الحُرِّيَّةِ.
دَعْ زَيْفَ هذِهِ المُدُنِ
دَعْها نائِمَةً على وِساداتِ الغَباءِ
اسْأَلْني أُعْطِكَ حُجَجَ الرَّحيلِ
جِئْتُ من بُطونِ القَلَقِ
خُطايَ قَلَقٌ
دَقّاتُ قَلْبي قَلَقٌ
قَلَقٌ حتّى على مَن أَحْبَبْتُ
نَديمي الأَمْسِ (النَّكِرَةُ)
ولي من الغَدِ آمالٌ لن تَجيءَ
الخَريفُ زَمَنُنا المُسْتَدامُ
طُفولَتُنا تَنْتَشي بِتِرْياقٍ غَريبٍ
لأَجْلِ أنْ تَنامَ جَدَّتُكَ بهُدوءٍ
جَدَّتُكَ المُرْهِقَةُ من جَفافِ الشِّفاهِ
الحائِرَةُ من قِصَصِ العَذابِ.
تَعالَ نَجْمَعْ حِكاياتِ “أَلْفِ لَيْلَةٍ ولَيْلَةٍ”
أو “كِليلةَ ودِمْنَةَ”، نُخْفيها
لِتَكونَ مُلْهاةَنا المُخَدِّرَةَ للنِّسيانِ.
تَعالَ نَكْسِرِ المَرايا
نُبْعِدْ أَشْباحَ السَّلَفِ المَقيتِ
وإنْ أَبْحَرْنا نَنْتَظِرْ أنْ يَمْنَحَنا البَحْرُ
ساحِلًا وشَجَرَةَ تُفّاحٍ وحُوريَّةً
لِنَأْتيَ بِكَذِبَةٍ نُمَنِّي النَّفْسَ بِها
نَصْرُخْ: “لقد وُلِدَ العالَمُ مِن جديدٍ”
آلام متصوفة الحب
سالم محسن

تتمركز كينونة الشاعر عبد الامير العبادي في لحظة معقدة من بعد عقود زمنية قاسية ووحشية وليس بوسع مجسات الشعر أن تكون خارج تأثيراتها لكون الشاعر قد تجذرت لديه تلك المعاناة والآلام ومع الالتزام بقضايا الأنسان المصيرية ما جعله يمد جسور اللحظة الآنية لتظهر لديه وعبر محاكاة وتجليات في المتون والهوامش على حد سواء (لي هذيان يتنقل معي ..يبحث عن عتقه..ينزع أغلالا أدمنت معصميك ) . الشعر رهان الشاعر إلى الآخر - المتعدد لاستكمال - ما بدأه من أحلام فتتجه اللغة نحو إنتاج المعنى المتفرد من خلال الجمل الشعرية والعبارات بنوع محدد كالخبرية والفعلية واستخدام الأسماء بدلالات عميقة يتخللها صياح وصراخ يشترك مع (الفقراء/ /مرأة تهز مهد الحضارة /أطفال هذه البلاد /سواد العبيد /قهر العراة /صديقي الرسام /حكايات جداتنا / الحشاشين) في صيحاتهم وصراخهم . في مجموعته الشعرية السابعة (آخر متصوفة الحب) من اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لعام 2024 تتدفق قصائد الشاعر عبد الامير العبادي بالمفردات والثيمات في إيقاع ينذر بالمفاجئات لكون القصائد باغلبها تماحك الواقع وتطرح عليه العديد من الاسئلة ضمن الماضي القريب والماضي البعيد والطبيعة (قمم الجبال العالية والوديان المنخفضة) فهو لا يتوقف عند حد معين من حمل هذه الاسئلة بل يحدد لها أسماء معينة ( حسن الصباح / حميد البصري /صومعة ابن مسرة القرطبي /شباط الاسود/الوثبة / تشرين / المتوكل/ مستعمرة كلكامش / وطن قرقوش/ اسماؤنا الحسنى/ الجعد بن درهم ) يخاطب العقل والغريزة والروح والمادة والسلطة والشعب والجهل والكسل مقابل الكفاح والنضال ويصب جام غضبه بوجه الشعراء المتملقين في الزمنين . إن هذه المجموعة الشعرية هي شعر الأفكار التي نحتاجها ونحتاج من يذكرنا خشية من تأثيرات غريبة.. لابد من النظر الى الوراء ولتكن نظرتنا بغضب كما قيل ..( أنظرْ الى الماضي بغضب).. تتماسك الأفكار مع العبارات بشكل مباشر. الأفكار السابقة حملت قسوتها وأنتقلت إلى هنا دون أي تغيير.. فالقتل هو القتل وإنْ تعددت الوسائل ..بدون زخارف وكذب. إن الجدة كما هناك نجدها هنا وهكذا المرأة والطفل والشيخ والأم والأخت والصديقة والزميلة. إن الشعر قام بمهمته على أكمل وجه عندما يطلق المعلم والتلميذ خارج حدود الصف المدرسي. يكتب الشاعر قصيدة المعنى ولا يهتم بأشكال الحداثة , فالجملة الشعرية لديه تنمو بين التخزين والتفريغ بين الهامش والمتن بين الجملة القصيرة والجملة الطويلة بين الحشو والتجريد.. تتعاضد الكلمات والمعاني للوصول الى جملة القفلة والخروج من القصيدة بجملة تترك في ذهن القارئ أسئلة مصيرية أو بجملة من سياق القصيدة تشير إلى إنتهاء ذروة المعنى في حدود الرفض والغضب والحنق, وفي ظل هذه المحمولات أوجد الشاعر له نافذة يطل منها على الكون لوحده دوننا ,وإن عنوان المجموعة الشعرية قد أوحى بتمركز عال وسمو عندما اختار ( آخر /متصوفة/ الحب) فالكلمات الثلاثة التي يتكون منها العنوان تعد من المطلقات من حيث الأعداد ومعنى التصوف في الثقافة العربية والاسلامية وباقي الثقافات ,أما عن مطلقية الحب فهو أسمى المشاعر والأحاسيس الانسانية التي تدل على أي انسان بوجودها وعدمها, وإن هيمنة العنوان في هذه القصائد تدل على ذلك ( الهزيع الاخير من الليل ) و(اه لك والف اه لي ) و( الارق) و ( طريق الى بنزرت ) و( شذى العيون ) و( مرة ومرة ) و ( ممرات ) . في قصيدة (هودج) هو الوطن وإن المخفي والمضمر في الجمل الشعرية - إن الشاعر لا يريد أن يصرح .. فمن ( ارتحل وبقينا ) ومن هو الملاك ؟فهذه استعارات بعيدة الغور ,واذا ما عدنا الى قراءة المجموعة وفق هذا المنظار فانه يحرك فينا وكما أسلفنا الماضي القريب والبعيد يحاكي علامات لمرجعيات مشتركة تتواشج مع الأنسان وإن متعة هذا الشعر تتجلى في توزيع اشاراته ودلالاته لدى القارئ بوضوح وجرأة.