تُعد ظاهرة الاستهلاك واحدة من أبرز المؤشرات على التحولات الاجتماعية والثقافية في المجتمعات الحديثة، إذ لم تعد مقتصرة على تلبية الحاجات الاقتصادية أو الوظائف النفعية للأشياء، بل أصبحت نمطًا من العلاقات الاجتماعية ومنظومة دلالية تنتج المعنى والهيبة والتميّز الاجتماعي. وفي هذا السياق، يقدم جان بودريار في كتابه "المجتمع الاستهلاكي رؤية تأسيسية لفهم بنية المجتمعات الغربية، لا سيما الأمريكية، من منظور اجتماعي ونقدي"، إذ يحلل كيف تحوّل الاستهلاك من مجرد نشاط اقتصادي إلى نظام رمزي وثقافي يحكم العلاقات الإنسانية ويعيد تشكيل القيم والهوية. إن قراءة هذا المنهج في سياق المجتمع العراقي تساعد على تفسير التحولات الاستهلاكية المعاصرة وتأثيرها على التراتب الاجتماعي، الهوية الثقافية، ومفهوم الحرية الفردية.
من الاقتصاد إلى الرموز: تحول الاستهلاك إلى نظام دلالي
ينطلق بودريار من تفكيك وهم الحياد الاقتصادي الذي يقوم عليه السوق الرأسمالي، موضحاً أن الأشياء لم تعد تُستهلك بوصفها أدوات نفعية، بل أصبحت علامات في نظام لغوي جديد. وفي العراق، يمكن ملاحظة هذا التحول بشكل واضح في الطريقة التي تتحرك بها السلع الفاخرة، سواء كانت سيارات، هواتف ذكية، أو ملابس مستوردة، داخل الفضاءات الحضرية، حيث لا تمثل هذه المنتجات قيمة وظيفية بقدر ما تمثل إشارات اجتماعية للتميّز والانتماء. تصبح السلع لغة، تُعبر بها الفئات عن نفسها، وتحدد من خلالها الفجوة بين الطبقات، وتعيد إنتاج نظام اجتماعي رمزي يعتمد على الرغبة في التفوق الرمزي أكثر من الوظيفة العملية للمنتج. هذا التحول يجعل من المجتمع الاستهلاكي في العراق لغة جديدة، يترجم من خلالها الأفراد مكانتهم الاجتماعية ويخلق شبكة معقدة من المعاني التي تتحرك بين الصور والإشارات.
الأسطورة الحديثة؛ الإعلان والموضة كأداة لإنتاج الرغبة
يلعب الإعلان والإعلام دورًا محوريًا في صناعة الرغبات في المجتمع العراقي، تمامًا كما لاحظه بودريار في السياق الغربي. فالإعلان لا يبيع المنتج نفسه، بل يبيع وعدًا بالسعادة والنجاح والقبول الاجتماعي، وهو ما يسميه بودريار «أسطورة الرغبة». في العراق، تنتشر هذه الأساطير عبر وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُزرع في الأفراد مشاعر النقص والحاجة المستمرة، فتخلق دائرة لا نهائية من الإغراء والإشباع المؤجل. من خلال هذه الدائرة، يصبح الاستهلاك أداة أيديولوجية تضمن استمرارية النظام الاجتماعي الرمزي، بحيث يُنظر إلى امتلاك السلع الفاخرة كرمز للهيبة والمكانة الاجتماعية، وليس فقط كحل لمتطلبات الحياة اليومية.
الطبقات والتمييز الاجتماعي؛ من التفاوت الاقتصادي إلى التراتب الرمزي
يعيد المجتمع الاستهلاكي إنتاج الفوارق الطبقية على شكل رمزي، حيث لم يعد التفوق يُقاس بامتلاك وسائل الإنتاج، بل بامتلاك العلامات الفاخرة. في العراق، تتجلى هذه الظاهرة في سلوكيات الطبقة الوسطى التي تحاول تقليد الطبقة العليا وذلك بشراء المنتجات ذات العلامات التجارية الفاخرة، ما يخلق سلسلة من الرغبات الطبقية تضمن استمرارية النظام الرمزي. يضرب بودريار مثال الغسالة التي تُستخدم كعلامة للوجاهة والتميّز بدلًا من وظيفتها العملية، ويمكن ملاحظة هذا في السياق العراقي، حيث تتحول المنتجات اليومية إلى رموز اجتماعية، تمامًا كما كانت الأنساب والمكانة تحدد الهيبة في المجتمعات التقليدية.
الاستقلال الزائف للفرد؛ الحرية في وهم الاختيار
يرى بودريار أن المجتمع الاستهلاكي يروّج لفكرة الحرية الفردية والاختيار الشخصي، بينما الإنسان في الواقع مُسيّر عبر منظومة من الرموز والإعلانات. في العراق، يشعر المستهلك بأنه يختار بحرية، إلا أن هذه الاختيارات غالبًا ما تكون استجابات مبرمجة ثقافيًا، تعكس أساليب السيطرة الناعمة التي يمارسها النظام الاجتماعي الرمزي. فالحرية الزائفة هذه تُخدع الفرد باللذة والرضا اللحظي، لكنها في الوقت نفسه تثبّت النظام الطبقي وتعيد إنتاج الرغبات وفق منطق العلامة، لا الحاجة.
منطق العلامة؛ من الحاجة إلى الرغبة
يفرق بودريار بين منطق الحاجة (النفعي) ومنطق الرغبة (الرمزي). في العراق، كما في المجتمعات الاستهلاكية الأخرى، لم تعد الأغراض تؤدي وظيفة محددة، بل تكتسب معناها من شبكة دلالية من الإشارات والعلامات التي تحيل بعضها إلى بعض. تصبح المنتجات مكونات نظام رموز مغلق على ذاته، يشتغل كخطاب اجتماعي بدلًا من أداة عملية. السيارات، الهواتف، الملابس وحتى الأجهزة المنزلية، جميعها تتحول إلى لغة رمزية، ينقل من خلالها الفرد صورته الاجتماعية ويحدد موقعه ضمن التراتب الاجتماعي.
المجتمع الاستهلاكي كدين رمزي
إن المجتمع العراقي المعاصر يتعرض لتحول واضح نحو ثقافة الاستهلاك، حيث تتحول الأشياء إلى رموز، والرغبة تصبح أداة ضبط اجتماعي، والاستهلاك يتحول إلى دين رمزي جديد. المجتمع الاستهلاكي ليس مجرد مرحلة من تطور الاقتصاد، بل نظام شامل من المعاني والأساطير التي تعيد إنتاج الإنسان في صورة مستهلك دائم، يعيش في وهم الحرية بينما توجهه الرموز من وراء الستار. النتيجة هي تفكك القيم الحقيقية، وتحول العالم إلى مرآة من الصور، يُستبدَل فيها الواقع بالإعلان، والحقيقة بالتمثيل، والوجود بالاستهلاك، مما يجعل فهم الظواهر الاجتماعية في العراق مستحيلًا من دون الإحالة إلى التحليل الرمزي والاستعانة بمنهجيات بودريار في قراءة المجتمع الاستهلاكي.