اخر الاخبار

استطاع الشاعر السوري نوري الجراح أن يؤسس نبرةً خاصةً في الشعر العربي الحديث، نبرة تمزج بين المنحى الملحمي والبعد الوجداني الإنساني الذي يتجلى في استحضار الروح السورية بأبعادها الحضارية والتاريخية وأفقها المأساوي. فشعر الجراح لا يكتفي بأن يكون تعبيراً عن الذات، بل هو سعي دائم لكتابة سيرة جماعية تمزج بين الأسطورة والذاكرة والمأساة، بين الطفولة الأولى في الوطن والخراب اللاحق به.

ينطلق نوري الجراح من وعيٍ شعري يرفض الانغلاق داخل حدود القصيدة الغنائية الفردية. إنه يطمح إلى كتابة قصيدة واسعة الأفق، توازي في طموحها الأشكال الملحمية القديمة، بلغة حديثة ورؤية معاصرة. ففي أعماله الكبرى مثل "الخروج من شرق المتوسط"، و"قارب إلى لسبوس"، و"نهر على صليب"، و"مراثي هابيل"، و""ولا حرب في طروادة" و"الأيام السبعة"، و"يأس نوح"، و"الأفعوان الحجري"، وأحدثها "فتيان دمشقيون في نزهة" نلمس نزوعاً نحو البناء الملحمي الذي يقوم على:

- تعدد الأصوات، حيث لا يتحدث الشاعر وحده، بل تُسمَع أصوات الغرقى، والمنفيين، والضحايا، والبحّارة، والنساء اللواتي ينتظرن عند ضفة المأساة. قصيدة الجراح في جوهرها رحلة عبر الجغرافيا والتاريخ والذاكرة، رحلة من المشرق إلى المنفى، ومن البحر إلى الصحراء، ومن الماضي السوري إلى الحاضر الكارثي.

ومن سمات شعره تلك اللغة المشهدية، فقصيدته تُبنى على المشهد لا على التداعي، وكأنها لوحة سينمائية كبرى تلتقط الحركة والمكان والزمن في تناغم سردي وشعري.

بهذا المعنى، تتحول قصيدة الجراح إلى ملحمة معاصرة للمنفى والخراب السوري، أو "ملحمة مضادة"، كما أطلق عليها الناقد خلدون الشمعة في كتابه الصادر مؤخراً "التموزية والملحمة النقيض"، لكنها لا تستعير الأسلوب الملحمي القديم، بل تعيد كتابته بلغة رمزية تعكس تفتّت العالم واغتراب الإنسان.

الروح السورية والذاكرة الجماعية

يستمد نوري الجراح موضوعاته الشعرية وطاقته كشاعر، خلال العقد الأخير، من الجرح السوري الكبير، لكنه لا يكتب عن الحرب مباشرةً، بل عن الإنسان السوري الممزق بين المنفى والبيت وبين الذاكرة والنسيان. فقصيدته ليست سياسيةً بالمباشر، لكنها تحمل في عمقها صرخةً وجوديةً ضد القتل والاقتلاع والنسيان.

الروح السورية عنده ليست انتماءً جغرافياً، بل هوية شعرية تتأسس على مفهوم يرى إلى سوريا لؤلؤة في قلب المتوسط تخاطفتها أيدي الغزاة والديكتاتوريين، هوية مفتوحة لا تني تتشكل وتعيد تشكلها من علاقات معقدة بين الحاضر الحي والذاكرة التاريخية، حيث يستعيد الشاعر ملامح من دمشق القديمة، تدمر، أوغاريت، صور وصيدا وعسقلان وأنطاكية ومدن أخرى في البحر المتوسط، بوصفها رموزاً لحضارة طالها الدمار والحريق، رائياً إلى دمشق مدينة أبدية فهي طائر الفينيق المنبعث من الرماد.

ويلوح المنفى كقدر سوري، أما السوريون "الخارجون من لوح الأبجدية المكسور" فهم في شعره طرواديو العصر، فتتجسد في هذا الشعر مأساة السوريين (وكذلك ساكنة شرق المتوسط) الذين أُلقي بهم في المراكب، أو تشردوا في المنافي الأوروبية، أو ظلوا وحيدين في ركام مدنهم المدمرة. أطفالهم مشاهد مؤثرة في ملحمة جماعية للبراءة المهدورة.

لا نهاية لصور البحر في شعر نوري الجراح، إنه أكثر من مجرد مكان؛ إنه فضاء الوجود والمنفى، وهو مقبرة الأرواح الضائعة وبؤرة الانبعاث من الموت وفي دواوينه الأخيرة، يتحول البحر إلى بطلٍ ملحمي، يجمع بين صورة الهاوية والرحمة، وبين الولادة والموت. والبحر أيضاً ذاكرة السوريين الغرقى، الذين ركبوا الموج بحثاً عن خلاصٍ أو وطنٍ بديل. وبلغة شعرية حديثة يتحول البحر إلى فضاء أسطوري يعيد ربط الحاضر بالأساطير الأولى: أوديسيوس، جلجامش، وعوليس، كأن الشاعر يرى في السوري المعاصر البطل التراجيدي لعصرنا، مكرساً البحر رمزاً ملحمياً لرحلة السوريين الجماعية من أرضٍ إلى أخرى، ومن معنى إلى آخر، في ما يشبه الأوديسة الحديثة.

في البنية الشعرية والأسلوب

يكتب نوري الجراح بلغة شفافة ومشحونة بالصور والأساطير، فهي لغة سردية- شعرية تجمع بين التقطيع الغنائي والامتداد الملحمي. وغالباً ما يستخدم ضمير الجمع أو المجهول ليعبّر عن المصير الجماعي لا الفردي. كما نلحظ في شعره التوازي البنائي بين السرد التاريخي والأسطوري، والواقعة المعاصرة التي تعيد إحياء المأساة في سياقها الحديث. وهذا ما يمنح قصيدته طابعاً شبه مسرحي أو سينمائي، إذ تتحرك الشخصيات في فضاء رمزي تتداخل فيه الأزمنة، وكأن التاريخ السوري يعاد تمثيله في كل جيل. 

بين الملحمة والمرثية

على الرغم من طابعها الملحمي، تبقى قصيدة نوري الجراح في جوهرها مرثية كبرى لعالم يتمزّق إنسانه. إنها قصيدة تطلع من قلب الفاجعة، لكنها لا تنغلق في الحزن، بل تبحث في لغتها الشاعر عن معنى جديد للحياة. فالملحمية هنا ليست بطولية تقليدية، بل بطولة الضعفاء والمنفيين، بطولة الهاربين من الموت وقد نجوا ليصونوا الحياة والذاكرة.

إن الشاعر نوري الجراح إذ يكتب ملحمة الإنسان السوري في القرن الحادي والعشرين، بلا سيوف ولا ملوك، ولكن ببحرٍ يعجّ بالغرقى، وبأرواح هاربة من مدائن تحترق بحثاً عن النجاة والخلاص، إنما يكتب ملحمة الإنسان في كوكب يتوحش، وبهذا، يغدو شعره وثيقةً إنسانيةً وشعريةً كونيةً فريدةً، تخلّد مأساة البشر في مواجهة قوى الشر من طغاة وغزاة لا كحدثٍ سياسي، بل كقدرٍ شعري ووجوديٍّ مفتوح على الأبد. إنه حقا كما ردد يوما "شاعر متوسطي يكتب بالعربية"، موسعاً بذلك فضاء قصيدته، ومنبهاً إلى الدور الحضاري لثقافته العربية والمكانة التي تحتلها اللغة العربية في الفضاء الحضاري للمتوسط.