أيّها الجلّاد
عُد إلى قريتكَ الصغيرة
لقد طردناك اليومَ
وألغينا هذه الوظيفة..
• سركون بولص
الإهداء إلى: سعيد كريتلي، شهد الرحماني، وحيد غانم، عادل الثامري
وإلى: حسين سرمك وروحِه
التي ظلّلتني في يلوا.
يوم الأحد أواخر سنة 2020 في ضريح السيد أحمد البدوي بمدينة طنطا بمصر وأنا أتهيأ لصلاة الظهر وردتني رسالة من علي تخبرني برحيل والده، صديقي الأقرب إلى قلبي الدكتور حسين سرمك. كنت أتواصل مع علي، وأعرف أن حالته حرجة جداً، لكنني مع هذا صُدمت وإحساس بالفجيعة اجتاحني، لا يمكنني وصف مشاعري، ولا أدري لماذا تمنيتُ أن يبقى جثمانه هناك ولا ينقل للعراق، كما لو كنت واثقاً من أننا سنلتقي في يلوا.. بعد خمس سنوات في مقهى نيرو عند رصيف ميناء يني كابي باسطنبول الأوربية غمرتني المشاعر ذاتها بحزن شفيف، فقد كان حسين حاضراً معي وأنا أحتسي الشاي التركي الثقيل باستكانة من زجاج مذهّبٍ أرجعتني إلى أجواء السبعينات في البصرة وبغداد وطقوس الشاي العراقية، وصلت شهد كي تصطحبني إلى يلوا، وكانت قد أصرّت على أن تتكفّل بحجوزات التذاكر ومرافقتي، وكتبت لي: خالو ميصير لازم أجي.
رأيتها تلوّح لي من باب المحطة وبيدها تذاكر (العبّارة) إلى يلوا. قرأتُ اسم هذه المدينة التركية الساحلية الواقعة على الجانب الآسيوي من بحر مرمرة في قصة لشهد بعنوان (فهد) ومع أنها قصتها الأولى لكن الدكتور حسين سرمك أشاد بها ونشرها في موقعه (الناقد العراقي) بعض أحداثها تجري على ظهر السفينة أو (العبّارة) كما يسميها العراقيون المقيمون في تركيا، وكنت أتساءل: هل ثمة صلة ما، بين إصرار الدكتور سرمك على نشر هذه القصة مع أنها الأولى لها، وبين سكناه فيما بعد ووفاته بوباء كورونا في هذه المدينة. وفي الطريق البحري إلى يلوا ذكرت تساؤلي هذا وكنا على المقاعد الأمامية، ثمة ظل لطيف يظللنا، استدرت نحوها، كانت ترتدي قلادة تحمل صورة جيفارا، الثائر الأممي المعروف، قلت لها ممازحاً: بلشفية خالو، وكانت إلى يساري، فابتسمت، وأرتني ساعتها، فتحت عيني على اتساعهما كأنني مندهش وقلت: كاسترو أيضاً، وسألتها: لا شمس هنا ما هذا الظل فوقنا؟ تلفتت مندهشة ثم قالت: لا أدري، ربما سحابة عابرة، تحدث الرجل عن يميني ببضع كلمات تركية، عرفت منها اسم تروتسكي، وكان يشير إلى جزر الأمراء التي بدت من جهته غير بعيدة، فتذكّرت قراءتي لكتّاب تأريخ الثورة الروسية، وكان تروتسكي قد كتبه في منفاه الأول في جزيرة (بيوك أدا) بتركيا، وهي واحدة من هذه الجزر التسع. ثمة العديد من الأمراء البيزنطيين تم احتجازهم فيها ومنهم أخذت الاسم، ولعل هذا ما دعا كمال أتاتورك إلى نقل تروتسكي مع زوجته ناتاليا من إسطنبول إليها. الكاتب التركي سعيد فائق سكن في هذه الجزر أيضاً، وهناك متحف باسمه في جزيرة بورغاز، وذكر أدباء آخرين، معلومات جميلة كنت مستمتعاً بها، وتساءلت ثانية: ترى هل ذهب صديقي الحبيب حسين سرمك إلى يلوا ليلتقي بأرواح أولئك، أشقاء الكلمة، تروتسكي وفائق وناظم حكمت وعزيز نسين ويشار وكمال وغيرهم، لا أدري، لكنه كان يؤمن بالقوة الخلاقة للاشعور، ربما قادته هذه القوة للقاء بأقرانه هناك، أتذكر بألمً أنه وقت مغادرته العراق من مطار البصرة، ودعني برسالة واتساب مقتضبة تعمّد فيها تضييق الوقت، كي لا يكلّفني باستقباله ومصاحبته، وكي يوفر علينا معاً مشاعر الوداع الموجعة. ليس هناك صدفة في هذا الكون/ الرواية.. كل حركة، كل سكنة، كل شيء منسجم بدقة واتقان مدهشين مع غيره، قال هذا وهو يستضيفني في آخر لقاءٍ لنا في داره بالناصرية. ولعل ما ذكره صديقي عن هذا الانسجام المدهش والرسم السردي المتقن للكون وكائناته ووقائعه، هو الذي جمعني في اليوم ذاته - إنما بعد ساعات - في كاديكوي إحدى الضواحي الساحلية الجميلة ليلوا بالكهل التركي وسأسميه: سعيد كريتلي، كان جالساً على كرسي خشبي لوحده، مبتعداً عن الجميع، ووجهه سارح في الأفق، كما لو كان هو ذاته القاضي سعيد كريتلي الذي سيحدثني عنه. يمكنني ببساطة - وأنا أتأمل ملامح ذلك الكهل الذي لا أفهم لغته – أن أعيد ما رواه لي عن حكاية القاضي وقريته، كاديكوي:
جلس سعيد كريتلي، قاضي يلوا مستظلا بظهيرة هادئة، مر الوقتُ عليه بسلام، لا مشاكل مهمة ولا خصومات، ناس هذه المدينة وقراها طيبين، قال في سرّه، ثمة نسائم عذبة تداعب وجهه وتغريه بقيلولة مريحة، أسند ظهره إلى وسادة محشوّة بالريش الناعم، شعر باسترخاء لذيذ ودار بعينيه في السماء، صافية زرقاء، تزيّنها سحائب بيض متفرقات، ما أشبهها بألوان البيوت في قريته بجزيرة كريت، زرقة وبياض، قال، وما أحلاها، وتذكّر أن الناس هناك يُقولون إنها من تراث أجدادهم الأندلسيين الذين حكموا جزيرة كريت لأكثر من قرن. كان سعيد كريتلي بعد أن تولى القضاء بيلوا يحنّ بشدّة لمرابع الصبا في كريت، ويركب إليها البحر بين حين وآخر، يزور أقاربه وأصحابه هناك، يتفقد أحوالهم ومعه حقيبة هداياه من خواتم وأحجار كريمة ومسابح. الاخضرار هناك في كريت، وحتى هنا في يلوا يغطي الأرجاء، كل شيء دون الأفق أخضر، سفوح الجبال المحيطة، وحتى القمم خضراء والمناطق القريبة، أخذته خيالاته بعيداً حتى ارتفع الآذان: حي على الصلاة، فتغلّب على كسله، توضأ وصلى الظهر وتغدّى، وأوشك أن يرتشف ثانية من استكان الشاي مسترخياً في انتظار قيلولته، لكنه سمع جلبة في الحوش.
- يواش، يواش، اهدأوا، ساكين أولون.. ما بكم، من هذا؟
- مولانا القاضي هذا ولد حرامي، قال الحارس وهو يجر الصبي ويشدد قبضته على ياقة ثوبه كما لو كان يخشى هروبه.
- حرامي، هٍرسٍز، أف أف، لاحول ولا قوّة إلا بالله. ماذا سرقت يا ولد؟
سكت الصبي، مرعوباً.. كان وعيناه دامعتين، فانبرى الحارس:
- لقد دخل بستانكم مولانا، قفز ودخل.
- عجايب! ارفع يدك عنه، وقل لي: هل رأيته بعينك يا حارس؟
- يوك مولانا، هذا جوجوك شَيتَان؛ كان مختبئاً، ما رأيته أنا، لكني رأيت ظلّهُ يقفز هكذا. وحاول تصوير قفزته بحركة مضحكة.
كتم الحاضرون ضحكاتهم احتراما للقاضي الي اكتفى بابتسامة وسأل الحارس..
- تقول رأيته يقفز، لكن الى بستان فيه سور، كيف يقفز؟
- هو قفز مولانا، ظلّهُ قفز. لزوم هناك سور مانع، بركات مولانا القاضي لزوم يوجد سور، لذلك قفز وعبر السور.
أطرق القاضي قليلاً وهو يمسّد لحيته بعد أن همس الإخبارجي بأذنه إن الولد من الروم، وأنه يعيش مع أمّه وأخته الصغيرة وجدته العجوز ويعيلهم بعد فقدان والده في بحر إيجه.
- اجلس يا ولد، اعطوه ماءً، اشرب لا تخف.
- ثم التفت للحارس: هكذا إذن، أنت رأيت ظلّهُ، وماذا رأيت بعد ذلك، ماذا فعل هذا ولد؟
- لقد تسلّق شجرة السفرجل مولانا، مع إنها واطئة وثمارها قريبة، لكنه تسلّقها بخفّة ثعلب مولانا، هذا شَيتَان ولد مولانا.
- ها – قال القاضي – هذه المرّة رأيته يصعد الشجرة أم ظلّهُ؟
- ظلّهُ مولانا، وكان طويلاً، أطول من شجرة السفرجل القصيرة وأضخم.
- وأين كان هذا الولد؟
- لا أعلم مولانا، هذا شَيتَان ولد. وأكل سفرجلة كاملة.
- تقصد ظلّهُ أكل سفرجلة أم هو بلحمه ودمه؟
- بلي مولانا أنا رأيت ظلّهُ فقط، يوك ولد.
- هل التهمها ظلّهُ بسرعة أم ببطء؟
- هذا سريع مولانا، انقض عليها هو، وأكلها كأنه قط مفترس.
- هو أم ظلّهُ يا حارس.. كن دقيقاً في الشهادة.
- بلي هو مولانا، لا لا مولانا، عفوا منكم مولانا، ظلّهُ أكلها.
- ها، هكذا. ونظر إلى الصبي رافعا حاجبيه وبؤبؤي عينيه نحوه.
- وهل أكلها كلّها أم ترك قطعةً منها؟
- كلها مولانا، ألتهمها كلها بسرعة.
- هذا جوعان ولد أيها الحارس! لماذا لم تدعه يأكل أكثر، جوجوك جُك آج، يا صاحب القلب القاسي.
- تعال يا ولد، لا تخف، لماذا لا تجلس، هنا اقترب جنبي.
- حاكم كاتب تعال. نادى القاضي.
اكتب: لأن ظلّ هذا الولد قفز، وعبر السور وليس الولد نفسه، فقد حكمنا بأن يضرب الظل يوز قمجي، مائة سوط.
ولأن ظلّ ولد صعد شجرة، يُجلد الظلُّ يوز قمجي زيادة. كاتب كم صار حساب؟
- مولانا مائتي سوط قمجي نجلد ولد.
- يواش، لا، مائتي سوط يجلد ظل الولد. وليس الولد، مفهوم؟
- كيف مولانا؟
- حاكم كاتب افهم كلامي: الحارس رأى ظل الولد يقفز ويصعد ويأكل وليس الولد، أنت يا حارس هل رأيت الولد أو الظل؟
تردد الحارس وخشي إن قال رأيت الولد، فسيتهمه القاضي بشهادة زور ويجلّده ويطرده، كما فعل بالحارس السابق. فقال:
- بلي حضرة مولانا القاضي أنا رأيت ظل الولد فقط.
- عفارم، إذن أنت حارس تمسك كرباج غداً، وتقف بالشمس، وتجلد ظل الولد مائتي جلدة. يواش، وزيادة يوز سوط لأنه أكل السفرجلة.
ثم دنا القاضي من الولد وهمس بأذنه: لا تخف ستقف في الشمس فقط، وشمس يلوا لا تحرق، والحارس سيجلد ظلك ولست أنت، فهمت؟ أومأ الصبي برأسه بلي.
ظهر اليوم التالي وقف الولد، وامتد منه ظل طويل وكان الحارس يجلد الظل والكاتب يسجل وأحياناً يُخطئ في العد، فيأمره القاضي بإعادة الجلد والعد من جديد، حتى هلك الحارس من التعب وصارت يده ترتجف، بالكاد أكملَ مائتين ولم يستطع الاستمرار.
فقال القاضي: حارس، أنت صرت عجوزاً، اخرج لا نحتاجك، ابحث عن عمل آخر. والتفت إلى كاتبه: لا نريد حارس مكانه ولا جلاد، ارموا هذا الكرباج بالبحر، لقد ألغينا هذه الوظيفة. مشى القاضي ناسياً قيلولته ويد الفتى بيده، وكان ظلّ الولد من شدة فرحه بإلغاء وظيفة الجلاد قد ارتفع عالياً، طار فوقهما وسايرهما كغيمة، هكذا يؤكد كبار السن في كاديكوي، ومنذ تلك الحادثة أينما يذهب الفتى كان ظلّهُ معه، لكنه يسير فوقه، لا جنبه ولا أمامه أو خلفه. وفي الليل ينام معه في فراشه.
وصل الخبر إلى السلطان في قصر دولما بهجت باسطنبول فاستدعاهما معاً، القاضي سعيد والصبي الرومي، وكان يستمع لحكايتهما وهو مندهش، أعجبته حكمة القاضي وعطفه وعدالته، وشاهد بعينيه الظلَّ وهو يسير فوق الفتى ويدخل القصر معه، فاقشعر جلده وأخذته رهبة، وأمر بمنح الفتى راتباً وبيتاً لأسرته، وتمليك القاضي كل الأراضي الواسعة المحيطة بداره، وحتى الجبال المحيطة بها، ومنذ ذلك الوقت سمّيت المنطقة: قرية القاضي (كاديكوي). بقيا معاً متصاحبين لسنوات، ثم مات القاضي، وعاش الفتى من بعده أكثر من ستين سنة حتى بات عجوزاً، لكنه طيلة هذا الزمن لم يتأخر يوماً عن زيارة قبر صديقه القاضي، وفي بعض ليالي الصيف كان ينام إلى جواره، حتى قامت الحرب بين اليونان وتركيا وانتهت بتوقيع اتفاقية لوزان بينهما، وبموجبها تم طرد الأتراك من جزيرة كريت والأراضي اليونانية، ومنهم من كان من أحفاد القاضي سعيد كريتلي وأقاربه فاستوطنوا كاديكوي، وبالمقابل طُرد اليونانيون من مدينة يلوا والأراضي التركية، ومنهم الرومي العجوز مع أولاده وأحفاده، فغادروا يلوا وقد أعطاهم فائق كريتلي ابن القاضي مفاتيح بيوت الأسرة بجزيرة كريت، لكن الرومي العجوز حين صعد السفينة لم يصعد ظلّهُ معه، لم يصاحبه لأول مرة منذ حادثة الجلد، وتوقف عند الساحل، كأنما يودع صاحبه أو يعتذر منه، ثم عاد الظلُّ إلى كاديكوي.
في اليونان تحدثت الصحف عن مهاجر عجوز جاء إلى كريت بلا ظل وسرت أوقاويل وقصص كثيرة عن سرقة الأتراك لظلّهً، لكن الناس في يلوا وكاديكوي اعتادوا على رؤية الظلّ وهو يتجوّل من دون صاحبه، ينظرون إليه ويترحمون على القاضي ويتذكّرون العجوز الرومي بمحبة. طيلة النهار يبقى الظلُّ عالياً وبعيداً، لكنه ما أن يرى إنساناً طيباً حتى يهبط قريباً منه ويظلّله. وفي المساء قبيل المغرب بقليل يرجع مباشرة إلى ضريح القاضي سعيد في بستانه القديم يطوف حوله قليلاً ثم يختفي فيه.
مس صديقي وحيد غانم كفي برفق فانتبهت، وقال عادل الثامري وهو يغمض عينيه بانفعال لطيف، وكانا يحتفلان بي ضيفا عندهما: أين سرحت. انتبهت كما لو كنت غافياً، اختفى محدثي الكهل التركي، سألتهما عنه فضحكا مني، وركبنا السيارة، كنا ثلاثتنا، وكانت أرواح من سكن كاديكوي من الأدباء تودعنا مموهة بالضباب وتبتعد، وحده ظل الفتى بقي معنا، فوقنا، يسايرنا كأنه يحرسنا، لا يتقدم ولا يتأخر، شعرت به حزيناً، وكان وجه حسين سرمك كلما رفعت رأسي إلى الأعلى رأيتهً ينظر إليَّ من خلال الظلّ، يطمئنني عليه، كأنه يقول لي: أنا بخير، ويبتسم.