توطئة
" سقطت بغداد عشرين مرة عبر تاريخها منذ تأسيسها عام 762م، إحتلال إثرَ إحتلال،المغول ، الصفويين، المماليك، البريطانيين والأمريكيين" ..
الشبيب صاحب جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عام 2000 عن روايته "الضفيرة"، يعود بجديده العشرين، ضمن مشغله الروائي الذي ابتدأه عام 1995 برواية" إنّه الجراد".
تفتح الرواية درفتي بوابتها السردية بـ" إدّعى الذي سيّبته محبوبتُه على جسر المدينة"، من ثم عادت إليه وتزوجا "وانجبا أبناءً ثلاثة".
احداث تراوح عند مفترق عدم اليقينية وبقصدية البحث وراء ما يثير فضول القاريء للمتابعة.. بمجرد الدَلْف إلى متن الرواية تتنبّه لسحر اجوائها وفرادة ما يمليه أسلوب السحرية من دلالات ومعانٍ..! فالجسر لم يعد معبَراً للأقدام قدر ما هو فاصلة لألتقاء الأرواح المحبّة العاشقة.
الأسلوب والخيال الأدبي المشبع بالباراسيكولوجي، الخاص بالظواهر النفسية والخارقة للطبيعة، مثل التخاطر، الاستبصار، التحريك الذهني، يوظفه الروائي بدراية العارف لإيصال رسالة غاية في الأهمية، عابرا لعدم يقينية أحداث الرواية والتركيز الضمني على ما يميزها في حبكة قوامها جمالية السرد وتوظيف ما هو تاريخي استشرافا للحاضر المعاش المطعّم بمضمونه العنصري، الطائفي والتحزبي.
أما والإشارة – حدبة الجسر- التي تتكرر في دفتي الكتاب 38 مرة فتعمل كدوارة الريح في لا يقينية وجود هؤلاء التوائم اطلاقاً، لا بل حتى بزواج المسيّب من المرأة التي سيّبته، مثابة جمالية تُعد مصدر إلهام وباعث لاستشراف الأمل كما القلب النابض توقاً لما يحب وما يفتقدهُ من فَقد.
المتن:
الرجل المُسيَّب – نعْتُه، ملحقاً بـ (أبو صخر) ، أمين مكتبة لمدرسة متزوج من امرأة لم تكمل دراستها الإعدادية، سيّبته مرّة وها هي تعود لتلتقيه عند – حدبة الجسر- ، المثابة التي تذكّره ابدا بـ – أم صخر- التي لم تفارق ذهنه ابدا.
الحارن شارد الذهن على جسر المدينة يهذي امام ثلاثة سابلة يمرون به فرادى، يسألونه ولا يفهمون منه شيئا ، عافت نفسه الطعام ثلاثة أيام.
كهلٌ، يُحسب من مثقفي المدينة، عيناه ترنوان إلى حدبة الجسر، وهاتفٌ من السماء يطوف به اثناء نومه، يستحثه الإسراع نحو الجسر يبشره بعودة زوجته الخجولة لتعتذر منه.
تزوجا ثانية ، فيما رغبت زوجته بالسكن في مدينة أخرى كون جسر المدينة يذكرها بفعلتها(!) فيؤنبها ضميرها. الهاتف السماوي يطوف به ليلا يبشرهُ بثلاثة توائم، سمّاهم له، صخر، شامل ثم أدهم. – أسماء برمزية تعكس رؤى حامليها- تتقبل الأم أسماءهم على مضض. في عيد ميلادهم الثامن، الثلاثة إختفوا يوم تبعوا بدوياً يضرب على الربابة ويشدو بعتابة.
غابوا بسحر موسيقى البدوي وغابت معهم سبل البحث اثنتا عشرة سنة!
وسط قلق الوالدين يتخلى الزوج عن عمله بعد بحث لأكثر من أربعة اشهر، يهيم على وجهه في صحراء شاسعة حتى تقوده قدماه إلى موقع – الخيمة الكبرى / خيمة الشغل- لسرادق البدو في عمق الصحراء حيث تَجمَع اليها الصبية المأخوذين بموسيقى العازف وكأنهم مسحورون ليخضعوا الى عملية بيعهم لقاء مكافآت من قبل مقاولين أفندية.
بسبب من استضافته لدى سرادق البدو فترة أيام قلائل للتأكد من تواجد ابنائه ضمن ما يُعرض من الصبْية الا انه يقع في مطب اُعدّ لهُ لتوريطه بالزواج من ابنتهم البدوية المتزوجة أصلاً من ثلاثة يموتون تباعاً أثرَ زواجهم!
اكاديمية النشء الوطنية:
موقع داخل مركز العاصمة بمعيّة مقاولين " حَضَر" مكلفين بتهيئة الأولاد المغويين الذين تم انتقائهم من خارج مجمعات البدو- في إشارة إلى جهة اجنبية ممولة لأحزاب سياسية تدار من قبل طرف مجهول تسعى باصطفاء الصبيان لاعدادهم كقادة أحزاب سياسيين بثلاث رؤى متباينة لثلاث فئات: " دينية " – وشهادة تخرّج بشريط رمادي داكن - بقداسة تجرّم الإعتراض على توجيهاتها الدينية من قبيل إن السماء مهمومة بشؤون البشر التي تُثقلُها فوضى لا تُطاق- . الفئة الثانية " اممية" ، بشهادة تخرّج بشريط أحمر-تسعى " أن تكون البشرية بجلّها وحدةً واحدةً وطنية تستحوذ غالبية البشر العظمى على خيراتها، وليست مجموعات متكتلة جينيّاً كما في المجموعة الثالثة الـ" قوميّة" بشهادة تخرّج وشريطها الأصفر. كذلك يتوزع التوائم الثلاثة كلٌّ بحسب حزبه، صخر، شامل وأدهم على التوالي. ثلاث مجموعات تفيد تعدد الفرص ولاحقاً نشوء احتدامات فعداوات فاقتتال بينها! هذا ما أُعدت العدّة له من قبل " المقاولين الأفندية الحَضَر" لقاء اكراميات ومعونات يمنحوها للبدو..
اكاديمية بثلاثة طوابق تؤشر بتورية ذكية إلى نوايا الجهة القائمة باعدادهم كي تخلق منهم قياديين لأحزاب بطابع قدسيّ الأيديولوجية، وإلى أن يتم الإيقاع بتلك الأحزاب، لتنشب صراعات دموية فيما بينها بسبب العهر الآيديولوجي..!
واذن نحن امام مجتمع بداوة مقابل مدنية تتذاكى ولا من معترض لأولئك الغرباء الذين تحكّموا بمصير جيل جديد، بذريعة " السعد الذي ينتظر الأولاد"!
ما تم التأكيد عليه عن قداسة مناهج الدراسة المختلفة شكليا والمتشابهة بهيمنة المقدّس الديني، يهدف إلى حشره في أدمغة الطلاب الذين بدو وكأنهم منومون مغناطيسياً.
الإنتباهة في انخطافة المسيَّب وبصيرته الذهنية التي ما عادت تميّز مسيرات التظاهرات الثلاث في العاصمة وتصارع أصحاب الهراوات، فسرعان ما نزع المتظاهرون قماشات اليافطات الملونة عن مساندها الخشبية والمعدنية وصاروا يتهاجمون .. –مشهد يعود إلى ستينيات القرن الماضي وما هو مماثل من قبل القوميين.. وليس بعيداً تظاهرات تشرين وما حدث من قتل الأبرياء العزّل عند محيط المطعم التركي وساحة التحرير في بغداد..! على أن بصيرة المسيَّب لها بصرٌ يرى وآذان تسمع.
خاتمة الرواية تدين حصيلة فناء كل توائم المسيَّب فيما يبقى المسيَّب أسير وهمٍ لا فكاك من هذيانه، بحثا عن منقذٍ قوي لنجدته - في تورية لما يجري حاضرا لبلد كالعراق وبلدان الشرق الأوسط بحثاً عن مخلّص حقيقي غير الذي يحاول الخداع بالمقدس والتطرف الأيديولوجي المبني على "إستحواذٍ خالٍ من أيما نبضٍ لحياةٍ يكون فيها المُستحوَذ بمثابة خشبة" ص126
الرجل المسيّب، سُيّب مرارا:
هو المتسمّر عند حدبة الجسر، لا يجيب المتعرفين عليه سؤالهم هل حقاً أنه واقف منذ ان غادرته فلانة؟!
كلامه خليط من الفصحى واللهجة الدارجة جمع سمّاع مقهى عند كتف الجسر، يتسلّون بسماع حكايته.
المرّة الثانية التي تسيَّب فيها يوم أوقع به البدو وزوجوه لابنتهم الثيب أرملة ازواجها الثلاثة تباعا. اما المرة الثالثة التي يتسيّب فيها فتأكَدت يوم اختفت زوجه -ام صخر- من خيمتها بين سرادق البدو، دون بيان مصيرها، هل انتحرت في تنورها الطيني بدارها في المدينة!؟.
أخيرا تسيّبه القطعي إثرَ مقتل اثنين من توائمه واعدام ثالثهم الكبير المدان بالعمالة وتآمره على الحزب والدولة، وأخيراً ضياع المسيَّب خلف قضبان السجن مع جلّاس مقهى "اموري"، باعتباره الهدف المطلوب في دائرة الأمن والمخابرات!
الدلالة الفلسفية:
مشهد يتكرر شبيهه البصاق على – صالح السلوان – مثقف السلطة النمّام في رواية " المعظم" ص 257، كأنما بصمة الكاتب الساخر بما يعرف بالسخرية " الكلبية"، يختتم بواسطتها روايته بحنكة العارف الساخر، لرجل كهل يساند الرجل المسيّب ويخلّصه من موقف سابق حين سيق إلى دائرة الأمن، بدعوى ان الرجل مخبول في عقله ولن يصدّق حكايته أحد.
لم تفارق بصيرة المسيّب رؤيا حرق كُل كتب "شامل"، وأصحاب الرايات الصفر الذين استحوذوا على مقدرات البلد واعتدوا على شامل وأصحابه من اليساريين. رؤية تقف عند صراع ( الأخوة الأعداء).
في المشهد الأخير للرواية يبرز الرجل كبير السّن وسط المخفورين من سمّاع مقهى " أموري" ، وهو يصارع نوبة سعال عنيفة حتى يحرر ما في صدره من بصقة كبيرة داخل علبة معدنية عادة ما يحملها معه...!
بصاق على واقع النميمة والتسيّب المرير وعداء الأخوة باستخذالهم من قبل عدوٌ مخادع عَبْرَ فخٍ من أيديولوجية متطرفة وعقائدية رعناء. واقعٌ لبلاد كلما مرت عليها السنوات كلما تراجعت القهقرى.
اللغة :
بطلاوة ممتعة لا تني عن اطناب مستساغ بفنية عالية سيما أسلوب التدوير في تكرار وتوضيح ما يسعى الكاتب لتوصيله بمهارة فذّة هي بصمة الشبيب في الروي. سبكٌ مميّز للأحداث " صخر وشامل وأدهم موزّعون على صفوف ثلاثة وسط أقرانهم في طوابق ثلاثة من بناية أكاديمية النشئ الوطنية. " ص264، 104.. ومثل ذلك وقوف المسيب على الجسر متسمرا لا يتحرك صائما عن الطعام لثلاثة أيام. ص143،ص7.
ثمة اكثر من تورية تلوح رمزيتها على وجه شامل النحيل بعد حرق والدته لكتبه " وعينيه الدامعتين.وحتى خلو جَيْبيّ سترته من كتاب صغير" غالبا ما كان يحمله معه. كذا الحال في مشهد الأفاعي الزاحفة فيما تطارد أدهم وجماعته. كما لا تفوت القارئ عبارات السخرية في اكثر من موطئ" موعد السَعَد"، والتفكّه " الماعنده شغل يلعب بـ". ونضحك مع الساخرين من هروب أصحاب الرايات الصفر والرمادية فيما تلاحقهم الأفاعي الفاغرة افواهها.
يُحسن الروائي لهجة البداوة، في تعابير مثل " واه واه واه " وعبارات بدوية أخرى، كما ينحاز إلى تفعيل مفردات وعبارات نادرا ما نجد شبيها لها في السرد: متضافرة-أولاء - إنقذاف- الما زال- اللاحراك- وإيشاكهم - لُجج العتمة- يتشاهق- الماانفكًّ -صباحئذ- لحظة إيشاكِه- تتلاهث - يتشاهقون-الّلايدرون- الّلايُرى- جائبو-
خاتمة:
ثيمة الرواية، واقع يستحق الانتباه.. لا يوجد اخوة متشابهون، التطرف في الرؤى والأيديولوجية لزوما سيقود إلى الهلاك. التعايش السلمي والحوار بوعي بعيدا عن حشر " المقدّس" المراوغ في إدارة الدولة هو الحل.
الرسالةُ تُنذر بخطر ما يجري في بلدنا الذي عانى الأمرين من غزو الطامعين وسعيهم للإستحواذ على ما تبقّى من نسغ حيواتنا.
أأبلغ وأوضح من هكذا رسالة؟!