ولدت في منطقة شعبية في مدينة الحلة تدعى محلة الوردية تغفو صيفا وشتاءً على شط الحلة، فرع من نهر الفرات، الذي بدأ ينحل كل عام بفقر الماء المزمن الذي لا يصلح معه كل علاج، دكنت موجاته واخضرت وعطنت رائحته وبرزت أضلاع أرضه الداخلية حتى أن كثيرا من الأطفال اللاهين والعابثين يعبرونه ركضا من ضفة الى أخرى بعد أن كان ولعمره الذي يمتد الآفا من السنين جاريا لا يقاوم أمهر السباحين أمواجه العاتية المنطلقة بسرعة وقد أغرق فائضها الضفاف وكأنها على موعد هام مع أحباء لها في الجنوب. لا أعلم وأنا أقترب من الستين من العمر حين اتأمل احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، لمَ تذكرني موجاته الحزينة بنظرات أمي وهي على فراش الموت. كان عمرها في السبعين، لم تنطق بأية كلمة ولكن لغة عينيها فصيحة وهي تندب حظي وتشفق عليّ وقد وصلتُ الى حال كان يدمي قلبها وأنا أقترب من حافة الجنون وأهيم وحدي في الطرقات حتى أن عائلتي بدأت تتنكر لي وتغلق أحيانا الباب بوجهي فمن يوم كان يضرب بي المثل على أناقتي وثقافتي حتى كان يطلقون عليّ لقب ( أبو كتاب)، رغم أن لدي عدد من الأولاد والبنات وصلوا الى مستويات دراسية وعلمية محترمة وحتى ابني البكر طارق المحامي الناجح والشخصية اللامعة في المدينة قلة من الأصدقاء من كان يناديني بأبي طارق وبقي اسمي سائلا على الألسن (أبو كتاب). ماتت والدتي قبل خمس سنوات وفقدت من كان يحميني بجناح رحمته ومن بغض وكراهية أخويّ نادر وسليم. كنت أهيم وحيدا في الطرقات بملابسي الرثة ولحيتي الشعثاء ورأسي المنكس، كنت أتمنى أن ينفصل عني لأتخلص من ثقله الذي يفوق أكثر الجبال علوا ووزنا ووعورة لكثرة ما فيه من كلام، الكلمة الفاعلة المؤثرة وزنها آلاف من الأطنان، كانت نظرات أبناء مدينتي تُرطّب بالشفقة والرثاء الى ما وصل اليه حالي علما بأني ما زلت أبعد خطوات قليلة من حافة الهذيان ولكنه الصمت الذي تجمد في داخلي جبالا من الجليد والسكون. حين تكل قدماي من الدوران في المدينة، وقبل أن أغادر الى البيت في ساعة متأخرة تقترب من منتصف الليل، كنت أجلس في مقهى أبو سراج بنوافذه الزجاجية على حافة النهر الذي استدان من مظهري البائس بعضا من رثاثته وكهولته وموجاته الكسيحة الملتصقة بالقعر، كنت أشعر بالفرح حين يقبل صديقي وزميلي في التدريس في اعدادية الحلة للبنين الأستاذ عدي الذي لم ينقطع يوما سؤاله عني وملاحقتي أنّى أذهب، هو موقن بأني سأجلس في المقهى أخيرا قبل أن أتوجه الى البيت وتحمل مشقة نظرات الزوجة والأبناء الذين كانوا يرغبون أن أودع الحياة قبل أن تشتد حالتي وأصبح مصدر هزء وسخرية وعار وتصغير لهم. جلس عدي أمامي في المقهى وعيناه تشعان بريقا خاصا يختلط معه اشارات مبهمة لم أستطع أن أفك شفراتها، المشكلة انها ليست نقية خالصة بل تعكس معها حزمة أسئلة لا أعرف مصدرها. بادر عدي بالكلام معي حتى ينشط عواطفي الخامدة..
_ مبارك ترشيح أخيك سليم الى انتخابات المجلس، أعتقد أنه سيفوز، أرى صوره وقد غزت أعمدة الكهرباء والجزرات الوسطية وعلى جدران المباني العالية وحتى معلقة في الفضاء في كل شارع وزقاق وحديقة وساحة عامة، أعتقد أن كلفة حملته الانتخابية تتجاوز المليار دينار عراقي. بوصفك أخوه الأكبر من أين له هذه الأموال ونحن نعرف بعضا جيدا منذ خمسين عاما وأننا نحن وأنتم من العوائل الفقيرة التي تتدبر معيشتها بصعوبة ..؟
لا أعرف أين تقع الآن نوافذ الفرح في روحي لأنها أغلقت جميعا ولكني رسمت ابتسامة لا تبان في لحيتي الكثة التي تخفي خدي الضامرين لكن من ينظر الى عيني وهما تضيقان سيعرف أن كان نبيها بأني أبتسم. قلت بعد نوبة تفكير..
_ أعتقد إنْ فاز أخي سليم فان سكني المفضل سيكون مستشفى المجانين..
أطلق عدي ضحكة مدوية انتبه لها الجالسون في المقهى ولكنهم انصرفوا الى لغوهم ولعبهم للدومينو والطاولي لأنهم يعرفون أننا اصدقاء ومن رواد هذه المقهى قبل أكثر من ثلاثين عاما. قال عدي محاولا قمع ضحكته لكنها كانت تتقطع بالكلمات التي يصعب أحيانا فهمها لأن بعض حروفها شوهتها قهقهاته التي تصعد وتنزل مع أنفاسه ..
_ ولماذا سيكون مصيرك مستشفى المجانين..؟
نكست رأسي الثقيل، أن تعيد المأساة وتقلب ذاكرتك يعني أن تعرض روحك ومشاعرك لسكاكينها الباترة وأنا لا مهجة لدي ولا قوة على احتمال هذا الذي يحصل أمام عيني، كنت أتمنى من عدي أن يغفل عن سؤاله ولكن حالما تأخرت في الاجابة حتى أعاد السؤال بنبرة أشد وكأني أمام محقق مجبر على اجابته، صح أن عدي صديقي أيام الدراسة، يسبقني بمرحلتين دراسيتين، لكنه فتح عينيّ كي تبصرا حقائقَ لم أكن أراها في السابق ونحن طلابا في كلية الاداب. اضطررت الى الاجابة ولكن بهمة فاترة.
_ يا أخي عدي ، هي مصيبة، أنا أعرف أخي سليم جيدا، هو غبي وأنا كمدرس أعرف أن هذا الكائن لا مجال لاصلاحه، كان في المرحلة المنتهية في الاعدادية المهنية ومديرها الأستاذ عباس زميلنا، جاءني سليم قبل أكثر من عشر سنين وقال لي أنه رسب في الاعدادية وطلب من أن أتصل بمديرها الذي كان صديقي عسى أن يساعده لأنه اذا نجح من هذه الاعدادية فسيبقى أخي نادر العضو في المجلس اكثر من دورة وسيكون المسؤول الكبير في دائرة أمنية مهمة بتعيينه ضابطا في سلك الشرطة، اتصلت بالمدير وطلبت منه مساعدة أخي سليم إن كان هناك مجالا لمساعدته فضحك أستاذ عباس وقال لي بالحرف الواحد أنه لم ير طالبا أكسل وأغبى منه ولا طريق لمساعدته الا بمنحه درجة مئة لكل درس كي ينجح وهذا غير ممكن لأن كثيرا من الدروس لم يحصل فيها الا على الصفر، لا طريق هناك لمساعدته، واعتذر مني عباس كثيرا.
قال عدي وقد غامت ملامحه واظلمت، قمع الضحكة الشامتة التي بانت قبل قليل على وجهه..
_ وهل نجح في السنة الثانية من الاعدادية..؟
أجبت بعصبية كمن يطلب من نديمه أن لا يلح في الأسئلة كثيرا..
_ رسب في السنة الثانية وتم طرده من الاعدادية وعلمت بعد ذلك أن أحد المدارس الدينية منحته شهادة الدراسة الاعدادية، أصبح بوساطة نادر ضابطا وحصل على شهادة كلية قانون مزورة..
لم يحتمل عدي كلامي، قفز من مكانه وقد طُعنت ملامحه البيضاء بهمّ اسود ثقيل، خرج من المقهى دون أن يودعني، اعتقدت أن جمرة غضبه لم تتقد من سليم فقط بل مني أيضا وربما اتخذ قرارا أن عائلتنا هي سبب المصائب في هذه المدينة وجروح النفس الدفينة التي تركها أخي نادر لدورتين انتخابيتين لا يمكن لأي عاقل في المدينة أن ينساها. بقيت في المقهى لوحدي حد الساعة الثانية عشر وكنت دائما آخر المغادرين، وأنا أعبر الشارع الى المحلة القديمة، توقفت بقربي سيارة سوداء حديثة، نزل منها شخصان مفتولي العضلات شواربهما كثة..حملوني ورموني في المقعد الخلفي في السيارة وجلسا جنبي كجدارين أصمين، قال لي أحدهم بأنه سيقتلني إن صرخت أو تحركت أو تفوهت بأية كلمة. دارت بنا السيارة في أزقة ودروب حي الكرامة في الصوب الكبير من المدينة وتوقفت أمام بيت فخم أعرف أنه يعود لأخي نادر لم أدخله في حياتي، عند الباب الخارجية مظلة يقف عندها أحد الحرس..اقتادني الحارسان الى داخل البيت، دخلنا الى الصالة كان أخي نادر جالسا كالطاووس مرتديا عباءة سوداء مزينة أطرافها بخيوط الذهب، أشار لي بالجلوس ودعى، بطرف عينه، الحارسين للخروج. أنا أكبر نادر بعشر سنين، لم يكن ينتمي الى فصيلة البشر خلاياه وشفراته الجينية فاسدة وغريبة لا يتورع عن عمل أي شيء، تاجر مخدرات يمتلك أوكارا للدعارة والقمار، سيرة حياة لا نضير لها بين البشر قد يركّب مثلها كاتب بارع بمخيلة جامحة في رواياته وقصصه، ولكن في الواقع هو حالة نادرة تشبه اسمه تماما. كنت أتحاشى ذكر اسمه بين زملائي في المدرسة وياما أحرجني طلبتي حين يذكر اسمه في الدرس فكنت أهرب منهم ولا أجد مثل الكتاب المدرسي المقرر كي أشوش انتباههم وأغرقهم بكلماته وشروحه. كان نادر يكرهني لأني كنت نقيضه فقد كنت أحمل كتابا في المقهى والمتنزه وفي الصف الدراسي، ويحرسني قرب سرير نومي. كان نادر يشكل عقدة لأبي رحمه الله، في أحد الأيام حين عاتبه على عمل شاذ مع بنت أحد أصدقائه، قام بضرب والدي على عينه، هجمت عليه ولكنه لاذ بالفرار ومن يومها انقطع عن البيت واستأجر بيتا صغيرا. مات والدي ولم يحضر جنازته، كان يصلنا شرر جرائمه وأفعاله المخزية. تزوجتُ وانتقلتُ من بيتنا في الوردية الذي بقي لأمي وأخي سليم واشتريت بيتا صغيرا في محلة الجامعين، لم أفكر يوما أن أتعقب أخبار نادر وسليم ولكني كنت في زيارة دائمة الى أمي التي كانت دائما ما تردد أنها لم تنجب سواي وأن أخويّ شيطانان بهيئتي بشر.انقلب حال البلد وبدأت الناس تسمع بالديمقراطية بعد أن كانت ترزخ تحت دكتاتورية مقيتة وظهر سياسيون لم يكن قد سمع بهم أحد في السابق، حصلت عدة دورات للانتخابات كل سنة أو سنتين أو أربع سنوات حسب رياح السياسة إن عصفت أو هدأت بسفينة الحكم. الغريب في الأمر أن أخي نادر فاز بدورتين انتخابيتين، رغم علمي أنه لم يحصل على شهادة دراسية، وأصبح سيد المدينة الذي لا يستطيع أحد منازلته، موكبه عشرات السيارات السوداء الحديثة ويتداول الناس الحديث عن ثروته التي لا يستطيع أحد حسابها لكثرتها في بنوك الداخل والخارج أما البيوت والعمارات فلا عدّ لها وينفق الكثير من ثروته لشرائها، كان كأي بائس أو مُشرّد وان امتلك عشرات البيوت والأبنية لكنه يشعر أنه بلا مأوى. كل هذه الخواطر والذكريات تقاطرت علي وأنا أجلس أمام نادر في صالته الكبيرة البهية الساطعة..كان يتأملني بقرف من قمة رأسي حتى أخمص قدمي . قال نادر بغضب..
_ كيف نرتضي وأنت أخونا الكبير في الجنسية أنا وسليم أن يكون مظهرك مقرفا هكذا وأنت تعمل جاهدا أن تنكس رأسينا في الوحل..؟
لم يربطني بنادر يوما ما خيط من الأخوة..أجبته وأنا أشد امتعاضا منه..
_ أنا أنكس رأسيكما في الوحل..؟ عشت حرا وكريما ومثقفا طيلة حياتي لم تلطخ سيرتي أية نقطة سوداء، وما مظهري هذا الا شعوري بالألم والحزن والحيرة على عائلتي وأحفادي، وأنا المسؤول عن وجودهم، أنا على يقين أنه سيفوز في هذه الانتخابات بعد أيام، مما سيزيد خراب حاضرنا ويعتم أكثر مستقبلنا الأسود المجهول وكل ما عملتوه طيلة هذه السنين هو الفساد والدمار وأنتم من مرغ رأس البلد في الوحل، أنا الآن على حافة الجنون بسببك وأمثالك من الماسكين بالسلطة، ما تراه فيّ الآن هو الحال الذي أوصلتم الناس اليه، الجنون ولا غير الجنون..
أن يغضب المرء لا يعني أن يتلفظ بكلام ناب أو يستعمل يديه في الحوار ضربا ولكما للخصم، لكن قد تراه يفرك يديه ويحرك قدميه بلا وعي وغالبا ما يكتسي وجهه لونا أصفر يظهر جليا في البشرة السمراء. كتم نادر غيظه ربما علمته السياسة أن يكون أكثر هدوءً في أشد المواقف قسوة..تنحنح نادر وقال بصوت مرتجف..
_ أنت تكبرني بعشر سنوات وتكبر سليم بخمس عشرة سنة ولكني أكرهك من يوم فطنت على الدنيا وأنت تحمل كتابا فأنا أكره الكتب وأمقت لغتك التي تتكلم بها التي لا أفهمها، طيلة حياتي أتمنى أن أتخلص منك وها هي الفرصة سانحة أمامي.. سادت فترة صمت ملغومة، فهمت ما كان يرمي اليه ولكني تغابيت كي أتيقن تماما من مرمى كلامه..
_ نادر، ماذا تقصد..؟
أطلق ضحكة ماجنة، الضحكة صدى للروح إنْ كانت طاهرة أو خليعة، نهض من كرسيه، تحرك أمامي وعباءته تسحل وراءه دون أن يلتفت الي، قال:
_ لن يراك أحد في المدينة بعد اليوم، لقد أنفقت المليارات على حملة سليم الانتخابية، مئة ألف دينار لكل من ينتخبه، أنا لم أترشح في هذه الدورة الانتخابية بسبب اللغط والقيل والقال عن ثروتي وأملاكي وارتباطاتي السابقة وأجنداتي المشبوهة، رشحت أخي سليم إن فاز سأستمر بمشروعي من خلاله وأحركه بخيوطي كدمية عمياء، عند فوز سليم وأنا متيقن منه، سيكون مصيرك مستشفى المجانين، وإن خسر سيكون مصيرك الموت لأنك سبب هذه الخسارة..
تخشبت حنجرتي وتجمدت الكلمات فيها، حتى عيناي تحجرتا وقد صلبتا على جسد نادر الواقف أمامي كتمثال لشيطان رجيم.
أيامي الآن أقضيها في مستشفى المجانين وقد ربطوا يديّ ورجليّ بالسلاسل الثقيلة وحجروني في غرفة صغيرة ومنعوا دخول الآخرين اليها لأني خطر على الدين والبلد وعلى زملائي المجانين .