الصفحة الأولى
على طريق الشعب.. تسعون عاماً من الانحياز لقضايا الوطن والمواطن
لم يكن للتناغم الجميل بين قيمنا، نحن العراقيين ورثة الحضارات العريقة، وبين أفكار الحرية والعدالة التي راحت تبدّد ظلمة العالم في بدايات القرن الماضي، إلا أن يُثمر عن ولادة أولى الخلايا الشيوعية في بغداد والبصرة والناصرية، وعن تصدّي شبيبة ثورية لمهمة تحطيم أسوار التخلف ونشر الفكر الماركسي، في مناشير سرية أو خطابٍ مستتر زيّنوا به بعض الصحف العلنية.
وحين جاء اليوم الذي أشرقت فيه شمس الحزب، صار لزامًا أن تكون له أدواته المستقلة، التي تُعبّر عن سياسته ومواقفه وتخلق جسور التواصل بينه وبين شغيلة العراق وكادحيه، فصدرت في 31 تموز من عام 1935 "كفاح الشعب"، أول صحيفة مركزية للحزب الشيوعي العراقي، تلتها صحيفة "الشرارة" عام 1940، ثم "القاعدة" في 1943، وبعدها "اتحاد الشعب" في 1956، وأخيرًا "طريق الشعب" في 1961.
واليوم، ونحن نحتفل بالعيد التسعين للصحافة الشيوعية العراقية، نستذكر بفخر واعتزاز الموقع الفريد الذي احتلّته في التاريخ السياسي والثقافي لبلادنا، بوصفها لسان حال شعبنا، ومرآةً تعكس نضالات الشغيلة والكادحين وتطلّعاتهم نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والخلاص من الاستغلال والجور، وكلمةً ثورية صادقة وصلبة لا تلين في الكفاح ضد الاستعمار والاستبداد والتمييز، وسلاحًا فكريًا وميدانيًا بيد الجماهير في معاركها الوطنية والطبقية.
لم تكن هذه الصحافة الشيوعية الباسلة، والتي غالبًا ما طُبعت في غرفٍ سرية ووزِّعت بأيدي صبايا وفتية لا يهابون الموت، مجرد صفحاتٍ مطبوعة، بل كانت امتدادًا لموقفٍ سياسي منحاز للفقراء، مقاومٍ للهيمنة ولمآسي الجوع والبطالة والتمييز، ملتزم بقضية التحرر الوطني والاجتماعي، ومَعلَمًا فريدًا للصمود في ظروفٍ شديدة القسوة، من قمع واضطهاد واغتيال ورقابة أمنية وتضييق، ورافعةَ وعيٍ استنهضت المضطهدين في الأزقة والمصانع والأرياف والمعاهد، ونظّمتهم وعبّأتهم في مقاومة مستعبديهم، وذاكرةَ نضالٍ وثّقت مآثر الكفاح الوطني والطبقي لشعبنا على مدار ما يقارب القرن من الزمان، وفضاءً حرًا وخلاقًا حمى ثقافتنا الوطنية، وحفّز منتجيها على الإبداع.
لقد تميّزت الصحافة الشيوعية العراقية بانحيازها الكامل لقضايا الوطن، والدفاع عن طهارة أرضه من أي احتلال أو نفوذ أجنبي، وعن حرية الشعب وحقّه في التمتّع بثروات بلاده، وبالخدمات الأساسية وكل مستلزمات العيش الكريم. كما تبنّت المشروع الوطني الديمقراطي الذي يُنقذ بلادنا من التمزّق والاستقطابات الطائفية والإثنية، ومن الإرهاب وطغيان الفاسدين، ومن التخلف وأفكار التطرف والكراهية والشوفينية والعنصرية والتعصب.
كما حرصت هذه الصحافة الباسلة على المصداقية والمهنية والجرأة، وتقصّي الحقيقة وإيصالها إلى الرأي العام، بلغةٍ وخطابٍ وآلياتٍ بسيطة وواضحة ومفهومة ومتاحة للجميع. ولم تتوانَ اليوم عن فضح المآسي التي جلبها نهج المحاصصة للبلاد، والنضال لدحر منظومته، وإحلال دولةٍ مدنية ديمقراطية محلها؛ دولة تحترم الحريات، وتُطلق تنمية مستدامة، وتتّبع سياساتٍ اقتصادية واجتماعية سليمة، يُعاد بها توزيع الثروة بعدالة، وتُؤمَّن فيها حقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات، وتقضي على الأمية، وتضمن التعليم المجاني، والرعاية الصحية، والسكن اللائق للناس.
وكان بديهيًا تمامًا أن يُساهم خيرة أبناء الشعب من صحفيين وإعلاميين ومبدعين — شيوعيين وديمقراطيين ووطنيين — في العمل بهذه الصحافة ورفدها بنتاجاتهم المتميزة، حتى صارت بحق مدرسةً صحفية مبدعة يُشار إليها بالبَنان. وكما كان منتظرًا، دافع العشرات من أبناء هذه الصحافة عنها بأرواحهم، فاعتلوا قمة المجد، وبقيت شعلة الكلمة الشيوعية الصادقة، تقبس من دمائهم الزكية ما يُبقيها تُنير طريق الظفَر.
وإذ تواصل صحافتنا نهجها هذا بثبات وتسعى لمواكبة التطور التقني الذي يشهده الإعلام وخاصة في مجال الرقمنة، تعاهد العراقيين على أن تظل صفحاتها صوتاً لمطالبهم وهمومهم ومشغلاً للفكر والنتاج الثقافي والإبداعي، لتكون دوماً كما أراد لها الحزب، طريق الشعب نحو السعادة.
لتبقَ الصحافة الشيوعية العراقية مزهرةً ونجم هُداة في الطريق المُضني والعذب، نحو عراقٍ ديمقراطي اتحادي حرّ ومزدهر.
الخلود لشهدائها الأبرار، وكل شهداء الكلمة الحرة، وتحية اعتزاز وتقدير لكل من وضع لبنةً في صَرحها الشامخ.
وكل عام وأنتم بخير
*******************************************
رائد فهمي: صحافتنا مشروع وعي وتغيير بغداد ـ طريق الشعب
لمناسبة مرور تسعين عاماً على انطلاقة الصحافة الشيوعية في العراق، أجرى الزميل بسام عبد الرزاق لقاءً خاصاً مع سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، الرفيق رائد فهمي، للحديث عن مسيرة هذه الصحافة، وما واجهته من تحديات وتحولات على مدى العقود التسعة، فضلاً عن دورها في المشهد الإعلامي والسياسي في الوقت الحاضر، وقدرتها على التكيّف مع المتغيرات ومواجهة حملات التزييف والتضليل، في ظل اشتداد الصعوبات والتضييق على الحريات.
نص الحوار على الصفحة الثالثة
*****************************************
مفيد الجزائري.. يتحدث عن الماضي والحاضر وما بعد الورق
بغداد ـ طريق الشعب
في مناسبة الذكرى التسعين لانطلاق الصحافة الشيوعية العراقية، أجرى الرفيق علي شغاتي حوارًا واسعا مع رئيس تحرير جريدة "طريق الشعب" الرفيق مفيد الجزائري، للوقوف على محطات هذه المسيرة الفريدة، التي بدأت بصدور أول عدد من "كفاح الشعب" عام 1935، وسط أجواء الهيمنة الاستعمارية والقمع البوليسي، لتتحول الجريدة إلى منبر نضالي يتصدى للحكومات الرجعية والدكتاتورية، ويصمد في وجه الملاحقة والمصادرة، ويعبّرعن هموم الجماهير وتطلعاتها.
لا يكتفي الحوار بتسليط الضوء على سنيّ الصدور والتوزيع السريين أو على العصر الذهبي في السبعينات، بل يمتد ليشمل تجارب الصحافة في السجون والجبال وسوح النضال الاخرى، والتحديات التي واجهتها "طريق الشعب" بعد 2003، وصولًا إلى التطورات الرقمية اليوم، ورؤية الصحيفة للمستقبل في ظل التنافس الإعلامي الحاد، وضعف التمويل، والتغيّر في أدوات التأثير.
نص الحوار على الصفحة الرابعة
***************************************
الصفحة الثانية
في الذكرى.. قصة من زمن النضال في مواجهة الدكتاتورية
عفيفة ثابت
في منتصف التسعينيات، كان زوجي المناضل الشيوعي سامي أحمد يعمل في مكتبة المربد بشارع المتنبي.
كانت المنشورات الشيوعية، بما فيها جريدة "طريق الشعب"، ممنوعة منعًا باتًا من التداول بين الرفاق. لكن، وبفضل جهود الرفاق، ومنهم الرفيق الراحل صبحي المشهداني، كانت تصلنا المنشورات عبر كردستان. وكان سامي يبدأ باستنساخها وتوزيعها على الرفاق المتواجدين في الداخل.
في أحد الأيام، دخل سامي إلى البيت ومعه نسخة من "طريق الشعب". وما إن مرت دقائق قليلة والجريدة بين أيدينا، حتى طرق الباب. خرج الأولاد لفتحه، فإذا بهم أمام مجموعة من رجال الاستخبارات جاءوا لتفتيش المنزل.
وجدنا أنفسنا وجهًا لوجه مع الخطر.
أخذتُ الجريدة بسرعة، وخبّأتها تحت السرير، ثم تمددتُ فوقه وكأنني مريضة. دخل رجال التفتيش وبدأوا بتفتيش البيت كله، وعندما أرادوا دخول الغرفة قال لهم سامي: "زوجتي مريضة، لكن لا مانع من تفتيش الغرفة". دخلوا الغرفة، وأخذوا ينظرون في زواياها. اقترب أحدهم من المكتبة وسأل: "ما هذه الكتب؟"، فأجابه سامي ضاحكًا: "كتب عامة، إذا تحبّون تقرؤون منها، أستعيركم بعضًا منها!"، فضحكوا معه وغادروا المنزل، بعد أن عشنا لحظات من الرعب لا توصف.
هكذا كانت تعيش العوائل الشيوعية في الداخل: رعب دائم، خوف مستمر، وعوز مادي قاسٍ.
أخيرًا، أقول: ستبقى صحافتنا، ويبقى حزبنا، إلى آخر الدهر، رغم أنوف البعث وأعوانه من المجرمين القتلة.
****************************************
لن يضيع عملنا الحزين.. فمن الشرارة يندلع اللهيب!
رضا الظاهر
حين هتف بوشكين مخاطبا الديسمبريين: "لن يضيع عملكم الحزين، ولا طموحكم الى الفكر السامي ... ... كونوا على ثقة يا رفاقي أن فجر السعادة سيأتي، وأن روسيا ستنهض من سباتها، وستسجَّل أسماؤنا على أنقاض حكم الطاغية"، كان الشاعر الديسمبري ألكسندر أودويفسكي على حق عندما رد عليه: "لن يضيع عملنا الحزين، فمن الشرارة يندلع اللهيب". وكان لينين على حق عندما وضع في صدارة الإيسكرا (الشرارة)، صحيفة الحزب الأولى، شعار "من الشرارة يندلع اللهيب".
* * *
من ذلك البيت المضيء في شارع السعدون ببغداد، في سبعينيات القرن الماضي، كانت المشاعل تنطلق في شوارع بغداد ومدن البلاد .. كانت المواكب تنقل الضياء الى بيوت المحرومين، وتنير الدروب للسائرين نحو الحرية، وتسقي العطاشى من روافد المعرفة وغدران الكفاح.
أما الدروس التي تعلمناها في "طريق الشعب" فلا تحصى .. فهي لا تتوقف عند البحث عن الحقيقة، وتطويع اللغة المؤثرة في الكتابة، وإشاعة قيم الجمال وثقافة التنوير، وتثقيف المضطهَدين بما يتعين عليهم من مسير، وتجسيد المثل الملهمة، وتقديم دروس في الروح الثورية، والتعلم، والتواضع، والاستعداد للتضحية من أجل الغايات الساميات ... حتى نضيء، في واقعنا، وصية لينين: الجريدة داعية، ومعبيء، ومنظّم جماعي.
و"طريق الشعب" كانت تمرينا كفاحيا .. فما تزال شرارة الفكر النيّر تقدح زناد العقول، وتكشف عن تلك الجمرة المتقدة تحت الرماد، وتراكم الخبرة التي تمس اليها الحاجة في كل حراك فكري وثوري، حتى تكون آصرة للسخط على واقع يريد سَدَنَة التخلف تأبيده، بينما تَعلّمنا في "طريق الشعب" أننا نريد الاطاحة بعالمهم.
وحول هذا العمل الذي يبدو بريئا وصغيرا بحد ذاته كنا ننتمي الى جيش من مناضلين مجربين، في عقولهم يضيء الوعي، وينهض التوق الى الجمال .. رسائل التنوير التي يبثونها هي رسائل احتجاج ضد ثقافة القطيع ومستنقعات الانحطاط.
في "طريق الشعب" تعلمنا كيف نكتب، وكيف نحلل، وكيف نجادل، وكيف نفهم الواقع ونتعامل مع الحقائق، وكيف نتحدى الراهن ونحلم بالغد.
وفيها تعلمنا كيف ندافع عن مصالح الكادحين، وعن حقوق وحريات شغيلة اليد والفكر، وكيف نتواصل مع الناس ونكون وسطهم، نعلمهم ونتعلم منهم، فكلنا تلاميذ في مدرسة الحياة .. فيها تلقينا دروس التواضع، فكان سبيلنا الى الأفكار العظيمة. ولم يكن ذلك مجرد ممارسة تقليدية للكتابة، بل ممارسة للوعي الذي يتعمق بالمعرفة والحوار والتحدي.
وفي "طريق الشعب" كنا ندرس على أيادي أساتذة مَهَرة وأجلّاء، منحونا الخبرة، وعلّمونا أبجدية الصحافة والنضال، وكانوا المثال الذي يرشدنا في المسير ويمضي بنا الى الضفاف .. كانوا يمنحوننا الرجاء فنسير معهم الى الحق والحقيقة والجمال، ونثق أننا لن نصل الى مرتجانا ما لم نرافقهم في المسير.
وعلى أيادي أولئك الأساتذة تعلمنا كيف نقرأ ماركس، وكيف ننظر الى ما افتتح به كتابه الرائع (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت)، وقد كان نجم المستبد الجديد يصعد، فنتذكر كيف أن إبن الأخ حل محل العم، ونرى كيف أن التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كملهاة .. اليوم نتذكر كيف أن العدد الألف من "طريق الشعب"، الذي كان محطة مضيئة في تاريخ الصحافة العراقية، قد هزّ عرش ذلك الدكتاتور.
وفي "طريق الشعب" تعلمنا كيف نواجه العاصفة، ونراوغ الرقابة، ونتفنن في استخدام التوريات والمجازات والرموز .. كنا نسير على سكة من أشواك، أدمت أقدامنا، وكان ذلك المسير هو الذي جعلنا ننتمي الى جيش المبشرين بأيام تعيدنا الى الأمل، فنواصل التحدي.
وفي الصحيفة تعلمنا أن لا نخشى من الاعتراف بهزيمة، ومن النهوض من كبوة، ومن إعادة النظر في خطواتنا، حتى نعبر الجسور، ونمضي منشدين للحياة.
وفي "طريق الشعب" كنا في مصير الكفاح نأتلف حتى عندما على النور نختلف .. وفيها كانت رفقة وصداقة أجيال من كتّاب ومحررين وفنيّين وشغيلة في مدرسة قلّ نظيرها، وظل مثالها يسطع في سماء الصحافة الشيوعية في العراق.
كنا، نحن الفتية، نغني مع ماري هوبكنز، المتمردة والثائرة مثلنا: "تلك كانت هي الأيام"!
وفي الصحيفة منحنا أساتذتنا ذلك الإرث الغني للثورة التي تدعو اليها صحافتنا .. وفيها تلقينا أولى الدروس في التسامح والاختلاف واحترام الرأي الآخر، والنقد وممارسته، ورحنا نمتلك ذلك العقل النقدي الذي أعاننا على أن نقيّم عملنا وندقق خطواتنا، وجعلنا قادرين على أن نغور في الأعماق لنكتشف الحقائق.
وفي "طريق الشعب" تعلمنا كيف أن طرح الأسئلة الصحيحة قد يكون أكثر مشقة من تقديم الاجابات .. وفيها تعلمنا أن الاخفاق ليس سوى محطة نتوقف فيها استعدادا لمواصلة الطريق، وفرصة تقول فيها التجربة إنه ينبغي لنا أن نحلم.
وفي هذه الصحيفة تعلمنا كيف نقنع الأنهار أن تجري وئيدة حتى يكمل حمَلَة مشاعل الحقيقة أناشيدهم.
وفي "طريق الشعب" تعلمنا كيف نقرع الأجراس حتى يستيقظ السخط، وينهض ضحايا الاضطهاد، وتخفق رايات أمثولة الشهداء التي تلهمنا، وعرفنا كيف أن ذلك الشبح الناهض من الرماد يمضي حتفاً للجائرين .. ونسير نحن على خطى الشهداء "شرارة" للحالمين.
نمضي الى أمام، ونحن ننحت في حجر، ونركب المخاطر، ونحلم، ونتعلم كيف "نخسر أغلالنا لنكسب عالماً بأسره".
اليوم، وفي كل يوم، نردّ الجميل الى معلمتنا الأولى "طريق الشعب" التي منحتنا الأيادي والينابيع والآفاق.. وعلمتنا كيف نحميها بحدقات العيون!
*********************************
{طريق الشعب}: مدرسة الصحافة الملتزمة وقنديل الوعي الشعبي
جاسم الحلفي
بدأت علاقتي بجريدة "طريق الشعب" وأنا ما زلت يافعاً، أعمل في مطعم الخيام الحديث بشارع الرشيد. كان صاحب المطعم يطلب مني شراء الصحف اليومية. وفي أحد الأيام لفت انتباهي عنوان جديد: "طريق الشعب". لم أكن قد سمعت بها من قبل، لكنني اشتريتها له. وصارت منذ ذلك اليوم من الصحف التي يتصفحها باستمرار. بدافع الفضول، بدأت أتصفحها أنا أيضاً، شيئاً فشيئاً تسللت إلى وعيي حتى وجدت نفسي مأخوذاً بها، خاصة وأنها الصوت الناطق باسم الحزب الذي يشغل الناس في أحيائنا الفقيرة، الحزب الذي تنتمي إليه شخصيات نعتز بها. صرت أتابعها بشغف، وأحياناً حين تنفد من السوق أذهب إلى مقرها في بغداد فأحصل على نسخة مختومة بختم أحمر مكتوب عليه (الاشتراكات). كانت "طريق الشعب" نافذة على ما يدور في البلد، منبراً للتثقيف وصوتاً نقدياً يعكس معاناة الناس.
توسعت علاقتي بالصحافة الشيوعية، فصرت أقتني الأسبوعية "الفكر الجديد". لم أكن قد تعمقت في القراءة بعد، لكني كُلفت، كباقي رفاقي في الخلية الحزبية، ببيع مجلة "الثقافة الجديدة"، حيث يمنح مسؤولنا الحزبي لكل منا نسختين أو ثلاثاً، نجوب بها المقاهي ونحاول بيعها. الهدف لم يكن البيع وحده، بل الترويج لها وبناء العلاقات، كما هي فرصة لتصفحها وحفظ أسماء كتابها، والتعرف على عناوينها التي فتحت أمامنا أفقاً جديداً.
ثم جاءت سنوات القمع، واضطررنا إلى مغادرة العراق. تفرقت بنا السبل، ووجدت نفسي بحاراً في اليونان متنقلاً بين إفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي أحد الأيام، بينما ترسو باخرتنا في ميناء أثينا، التقيت برفاقي في منظمة اثينا، حيث قدموا لي منشوراً شيوعياً عن حركة الأنصار وعملياتها الإعلامية والسياسية. كان ذلك المنشور الشرارة التي وجهت بوصلتي نحو الكفاح المسلح، في زمن كانت فيه الأفكار الثورية في أوجها. من ثورة "جيفارا" في كوبا الى ثوار "التوبوماروس" في الارغواي، تركت اليونان والبحر وأوروبا وعدت إلى كردستان عبر سوريا ولبنان ومعسكرات الفدائيين.
في جبال كردستان، نهاية عام 1980، وحين كنت مسؤولاً عن فصيل حماية المكتب السياسي والعسكري والإعلامي، شهدت عن قرب صدور "طريق الشعب" السرية، بدءاً من تصميمها الذي تولاه الرفيق صفاء حسن (أبو الصوف)، وإشراف الرفيق رزوقي، فيما تناوب على طباعتها بالرونيو الرفيقان أبو عليوي وعباس. كانت تطبع بأعداد محدودة ويعاد طبعها في دمشق بنفس التصميم. أما كتابها فلم يكن أحد يذكر اسمه، وكانت خبرية أكثر من تحليلية، تنشر أخبار الداخل وبيانات الحزب وعمليات الأنصار.
ولأن "طريق الشعب" لا تعرف الانقطاع، كنت ضمن الرفاق الذين وزعوها يوم 20 نيسان 2003 في ساحة الفردوس، لتكون أول جريدة للمعارضة العراقية، توزع في بغداد بعد سقوط النظام. لم يكن ذلك مجرد توزيع، بل حركة فرضت علنية الحزب الشيوعي، وإعلاناً رمزياً لعودة صوت حاولوا طويلاً إسكاته.
لم تتوقف علاقتي بها عند هذا الحد، فقد أصبحت أحد كتاب أعمدتها. منذ عام 2007 وحتى اليوم، أكتب عمودي الأسبوعي (كل خميس) دون انقطاع. على مر السنين، ظلت "طريق الشعب" بالنسبة لي أكثر من جريدة، كانت رفيقة الدرب، مرآة هموم الناس، وصوتهم النقدي الحر.
"طريق الشعب" ليست جريدة فحسب، بل مدرسة في الصحافة، ومنهج في الالتزام بقضايا الناس.
*************************************
الصحافة الشيوعية.. ذلك الورق الأسمر (المملوح)
منذ عقود طويلة، عرف الشارع العراقي تلك الصحافة المتقشفة، ذات الوراق الأسمر - المملوح - والخطّ الأحمر. عقود مرت بليالها المدلهمة، ونهاراتها المشرقة، والصحف السمر تتواصل، مرّة على شكل نسخ (ستينسل) حيية، عندما تتكالب المحن، ومرّة على شكل صفحات علنية، تخرج ساخنة من مطبعة الحزب، لكنّها في جميع الأحوال، ما فت عضدها استمرار النضال ووطأة التضحيات، فتحولت إلى ما يشبه أطباق الخوص، حميمة وصادقة، وهي تحتضن خبز الكفاف وأمنيات الكادحين وتطلعت الطبقات المسحوقة، مثل سويف خلف أياه، باشط، ومجرب وأصيل.
عقود طويلة مرت وتلك الصحف السُمر تطالع وجوه الباعة في أكشاك المدن البعيدة، وتكحل عيون المارّة المتلهفة لكلمة حرة أو رأي حاذق شجاع، لا يداهن ولا يخشى الطغيان، في وقت عز فيه الرأي وشحت فيه الكلمة، فكانت كلمات أبو سعيد" و"أبو كاطع" تصدح بالحق المغلف بالحكايا، والمعفر برائحة التبغ الرخيص.
ثمة صحف أخبار، وأخرى صحف منوعات، وثالثة صحف حوادث، لكن ثمة صحف مدارس، تعلم الوطنية والإخلاص لقضايا الشعب والكفاح من أجل إسعاده، كل هذا مُدافًا بالمهنية الحقة والعِرفة – والمعرفة، مدارس تُعلّم العاملين فيها، أين يضعون النقطة، وأين يضعون الخط، وكيف يخاطبون وعي
الجماهير، من دون التفريط بوعي النخبة.
كفاح الشعب، الشرارة، قاعدة العمل، وحدة النضال، النجمة، الإتحاد، آزادي، الأساس، العصبة، اتحاد الشعب، كلها عناوين صحفية من مدرسة واحدة، جمعتها قضية الوطن والشعب، وفرقتها الأساليب وظروف الإصدار المتناوب من فرط الإصرار، لكنّها سلسلة متواصلة لم تنقطع يوما أو تتراجع أو تفتر عزيمتها.
طالع أي عدد قديم من الفكر الجديد أو الثقافة الجديدة، وستجد المعنى والـ - العِرفة - والمعرفة والتحليل والفلسفة والفهم والوضوح.
إنّنا في الطريق الثقافي نفخر بانتمائنا إلى تلك المدرسة العريقة، سواء في النضال، أو في الصحافة الحقة والمهنية والناصعة والواضحة التي لا تتعالى على مفاهيم الناس في خطابها، من دون أن تفرط بنخبويتها الثقافية وخطّها الاحتجاجي، سواء في الاحتفاء بفناني وأدباء الشعب، أو في تبني قضايا الإنسان وحقوقه والبيئة وحقوقها، وثقافات الشعوب وتنوعها. نعم هكذا تعلمنا منذ نعومة أظفارنا، في تلك المدرسة
العريقة، كيف نوفق بين هذه المشتركات جميعها، وكيف نواصل، وكيف نتحدى الصعاب، لأنّنا ببساطة حاملو ذلك الرأي وتلك الشعلة وهاتيك الروح الوقادة، مثل الطائرة الورقية تمامًا، كلما أشرعت أعطافها للريح علت وارتقت، لأن الأمر يتعلق بمن يمسك الخيط وليس بالطائرة، ذلك العراف الحذق الذي يعلم متى يمنح الحريَّة، ومتى يحافظ على التوازن، ومتى يكبح جماح الريح، وما دام الأمر كذلك، ستظل تلك الطائرة الملونة ذات الأعطاف الحمر، محلقة في السماء، ترسم أقواسًا مبهرة، وتُفاجئ الجميع في كل مرّة.
افتتاحية "الطريق الثقافي" العدد 167
*****************************************
الصفحة الثالثة
نروّج مشروعاً فكرياً وسياسياً للتغيير.. رائد فهمي: الصحافة الشيوعية مدرسة للبحث عن الحقيقة وعليها مواكبة الجديد
بغداد ـ طريق الشعب
لمناسبة مرور تسعين عاماً على انطلاقة الصحافة الشيوعية في العراق، أجرى الزميل بسام عبد الرزاق لقاءً خاصاً مع سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، الرفيق رائد فهمي، للحديث عن مسيرة هذه الصحافة، وما واجهته من تحديات وتحولات على مدى العقود التسعة، فضلاً عن دورها في المشهد الإعلامي والسياسي في الوقت الحاضر، وقدرتها على التكيّف مع المتغيرات ومواجهة حملات التزييف والتضليل، في ظل اشتداد الصعوبات والتضييق على الحريات، وفيما يلي النص الكامل للحوار.
استقطاب أقلام بارزة جداً ومؤثرة ثقافياً
بسام عبد الرزاق: شهد تاريخ الصحافة الشيوعية العراقية، على مدى تسعة عقود، الكثير من المتغيرات والصعاب، سواء حينما كانت تصدر سرية أو في فترات النشر العلني، هل لكم أن تحدثونا، عن مسيرة هذه الصحافة، وعن السر في قدرتها على الصمود والتكّيف مع الظروف المختلفة، خاصة في السنوات العشرين الأخيرة.
رائد فهمي: بدءاً، أود أن أحيي وأهنئ الرفاق والأصدقاء والصحفيين العاملين في صحافة الحزب وإعلامه، الذين يبذلون جهوداً استثنائية، كي تتمكن وسائل اعلامنا من أداء دورها، في أن تكون دوماً معبّرة عن معاناة الناس ومشاكلهم المعيشية، وأن تنقل فكر الكادحين وتلتقط هموم مختلف شرائح الشعب التي غالباً ما تفتقر إلى صوت يعبّر عن واقعها، وأن تلعب دوراً كبيراً في تنمية الوعي، سواء السياسي أو الاجتماعي، ونشر الثقافة التقدمية بشكل خاص.
يمكننا حقاً أن نفخر بصحافة الحزب الشيوعي، التي استطاعت، ورغم ما واجهته من صعوبات كبيرة في المراحل المختلفة من تاريخ العراق المعاصر، أن تستمر في الصدور سراً أو علنا. وكانت لها قدرة كبيرة على استقطاب أقلام بارزة جداً ومؤثرة ثقافياً. وبالتالي كانت صحافتنا، صحفا فكرية، وصحيفا يومية اعتيادية، ذات تقاليد راسخة، وربما كانت مدرسة خاصة متميزة، تخرج منها صحفيون وإعلاميون بارزون اليوم في وسائل الإعلام الأخرى، والكل –أعتقد– يعترف ويشعر ويدين بالعرفان لهذه الصحافة.
نفتخر بهذا، لكن حين تمتلك رصيداً من الموروث التاريخي ورصيداً كبيراً من الخبرة والتجربة، فإن من الواجب ان تستند إليه دائماً، وتغنيه وتثريه في نفس الوقت ووفق المعطيات الجديدة. وأعتقد أن صحافتنا حتى هذا اليوم، رغم كل هذه الصعوبات، لا تزال تتبوأ موقعاً متميزاً في المشهد الإعلامي، بغض النظر عن كونها محدودة من حيث الكمّ، لكنها من حيث النوع ومن حيث طبيعة المنتج الصحفي والمادة الإعلامية تُعدّ مادة غنية ومرجعاً. بعضهم يعترف بذلك، وبعضهم لا يعترف، لكنها تبقى محلّ متابعة واهتمام.
طرح قضايا معقدة بلغة بسيطة
وفي سياق الإجابة على السؤال، فإننا نعيش اليوم في ظل واقع متغيّر، وهو واقع سياسي وإعلامي جديدان. فقد شهد الميدان الإعلامي طفرات كبيرة جداً غيّرت المشهد بشكل جذري، ليس على مستوى العراق فقط، بل وعلى مستوى العالم. وهذا التغيير شكّل تحديًا إضافيًا أمام الصحافة الشيوعية، إلى جانب التحديات التقليدية التي تواجهها دائماً. ومن هذه التحديات ما يتعلق بكيفية الوصول إلى الناس، وكيفية إشراكهم، ووسائل توزيع الصحف لتصل إليهم، خصوصاً في ظروف العمل السري أو في الفترات التي تكون فيها الإمكانيات محدودة. وهناك أيضاً التحديات المالية، التي غالباً ما كانت عائقًا أمام تطوير العمل الإعلامي.
واحدة من أصعب المهمات أمام الصحافة الشيوعية تتمثل في القدرة على طرح قضايا معقدة بلغة بسيطة وسلسة ومفهومة للجميع. هذه المهمة ليست سهلة، بل تتطلب من العاملين في الصحافة والإعلام مستوى عالياً من الوعي، بحيث يكونوا قادرين على صياغة الفكرة بشكل مبسّط ومقبول.
في السنوات الأخيرة، انتقلنا إلى العمل العلني الواسع، وهو ما أضاف تحديات جديدة. فقد أصبحت المنافسة الإعلامية أشد، ولم يعد الأمر يقتصر على الصحف فقط، بل ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تكن موجودة سابقاً. هذا كلّه فرض واقعاً جديداً، ومعايير جديدة لم تكن موجودة في الماضي. كما ظهرت خطابات إعلامية مختلفة، منها الخطاب الشعبوي، والخطاب الذي يعتمد على إثارة المشاعر بدلاً من تقديم الفكرة العميقة. ومع ذلك، تمكّنت الصحافة الشيوعية بخطابها الملتزم من إثبات حضورها في هذا المشهد الجديد، رغم صعوبة المنافسة وظروف السوق وقوانين الإعلام الحديثة.
توازن بين الخط الفكري واستخدام التكنولوجيا
قوانين السوق، خاصة في الغرب، لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الإعلام، إذ أصبحت وسائل الإعلام الكبرى مملوكة لشركات ضخمة وأسماء كبيرة، وهو ما شكّل تحديًا كبيرًا أمام الصحافة الملتزمة، لأنها غالباً تفتقر إلى الإمكانات المالية التي تمتلكها تلك المؤسسات الإعلامية التجارية. لكن في المقابل، ظهرت في العالم تجارب ناجحة لصحف ملتزمة استطاعت أن تواكب العصر، وذلك عبر البحث عن أشكال تنظيمية وتمويلية جديدة، مثل إنشاء تعاونيات يساهم فيها القراء أنفسهم في تمويل الصحيفة، مما منح هذه الصحف استقلالًا عن رأس المال الكبير.
إن استقلال الصحافة الملتزمة عن التمويل التجاري كان وما زال تحدياً كبيراً، لأن أغلب وسائل الإعلام الكبرى اليوم تخضع لرأس المال، بينما تحاول الصحافة الملتزمة البحث عن موارد مالية بديلة لتبقى مستقلة.
أما بالنسبة للصحافة الشيوعية، فقد واجهت هذه التحديات في ظل ظروف معقدة، وكان عليها أن توازن بين التمسك بخطها الفكري والقدرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة، وتطوير أدواتها الإعلامية للوصول إلى جمهور أوسع.
اليوم، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح كل فرد قادراً على أن يكون مصدراً للمعلومة، وهو ما جعل المتلقي عرضة لكمٍّ هائل من المؤثرات، سواء الإيجابية أو السلبية. لذلك أصبح من المهم جداً أن تطوّر الصحافة خطابها وأساليبها لكي تصل إلى الشرائح التي تستهدفها بشكل مباشر، رغم كل هذا التدافع الإعلامي.
لم تعّد التحديات محلية فقط، فإلى جانب المتغيرات الكبيرة التي شهدها العراق، هناك أيضاً الانفتاح الهائل على العالم، وانتشار المعلومة والتكنولوجيا، وكل ذلك فرض على الصحافة الحزبية أو الصحافة الملتزمة أن تعيد النظر في خطابها وأدواتها وحتى في شكلها وأسمائها.
هناك أمثلة عالمية لصحف حزبية ويسارية نجحت في التكيّف مع هذه الظروف، فيما فشلت صحف أخرى وغادرت الساحة. وفي الغرب، على سبيل المثال، ما تزال هناك صحافة ملتزمة، لكنها غالباً تبحث عن أشكال جديدة للتمويل تضمن استقلالها، سواء عبر التبرعات أو الاشتراكات أو التعاونيات.
اليوم لم يعد الحصول على الخبر بحد ذاته كافيًا، لأن المعلومة أصبحت متاحة بسهولة. لذلك أصبح دور الإعلام الملتزم هو تقديم محتوى مختلف: التحقيقات الاستقصائية، التحليلات المتعمقة، والمواد الفكرية الجادة. هذه المجالات هي التي يمكن أن تمنح الصحافة الملتزمة دورًا مؤثرًا في زمن هيمنة الإعلام التجاري.
طرح القضايا العميقة
بسام عبد الرزاق: لماذا يشترك القارئ في صحافتنا؟ ما الذي يحفزه على ذلك؟
رائد فهمي: هذا السؤال ينبغي أن يكون حاضرًا دائمًا في تفكيرنا. فالقضية لا تقتصر على الاشتراكات وحدها، إذ إن الاشتراكات بحد ذاتها ليست كافية لضمان استمرار الصحافة. إن بقاء الصحافة، خصوصاً الصحافة الورقية، يتطلب أن تقدم للقارئ ما لا يجده بسهولة في غيرها، وأن تذهب إلى أبعد من الأخبار اليومية، لتعمل على التحقيقات الاستقصائية، وأن تطرح القضايا العميقة التي قد يغفل عنها حتى الإعلام المرئي. إن هذه القدرة على تقديم محتوى نوعي ومختلف هي التي تجعل القارئ يشعر أن الصحيفة تستحق أن يشترك فيها.
وفي فرنسا، على سبيل المثال، هناك نظام لدعم الصحافة تموله الدولة، ليس بهدف التدخل في محتواها، وهي تتمتع باستقلاليتها، ولكن بشرط أن تحقق هذه الصحف مستوى معيناً من التوزيع والانتشار. ويشمل هذا الدعم حتى الصحافة الحزبية. فقد كانت صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي في السابق الناطق الرسمي باسم الحزب، لكن بمرور الوقت تم إدخال تغييرات قانونية عليها، بحيث أصبح لها خطابًا مستقلًا وهيئة تحرير مستقلة، ما أتاح لها استيفاء شروط الدولة فيما يخص الاستقلالية، وبالتالي الحصول على الدعم الحكومي المستمر، إضافة إلى الاشتراكات والدعم الذي يقدمه القراء الملتزمون.
هذه التجربة توضح لنا أن بقاء الصحافة الملتزمة ليس أمرًا يسيرًا، بل يتطلب موارد متعددة، ومشتركين لديهم التزام حقيقي، وليس مجرد ولاء شكلي.
التأثير على وعي الجمهور
وفي الدول الديمقراطية، تلعب الصحافة دورًا محوريًا في الحياة السياسية والفكرية والثقافية، وتُشجَّع على التنوع الفكري وتعدد الآراء. لكن في المقابل، نجد أن الكثير من وسائل الإعلام الخاضعة لمنطق الربح تميل إلى تكييف مواقفها وفق أهواء المتلقين، وتسعى إلى كسب أكبر عدد من القراء ولو على حساب العمق والجدية. ونتيجة لذلك، باتت كثير من هذه الوسائل تميل إلى السطحية، وأحيانًا إلى الابتذال، وهو ما يُضعف دور الإعلام في تقديم رسالة حقيقية.
لذلك، فإن الدول الديمقراطية التي تحرص على تنوع الرأي وحرية التعبير تدعم بقاء الصحافة المستقلة الجادة. أما في بلداننا، ولا سيما في العراق، فنحن نواجه وضعاً مختلفًا. إذ أصبحت بعض وسائل الإعلام مملوكة لأصحاب رؤوس أموال كبار، يستخدمونها كأدوات لترويج مصالحهم الاقتصادية والسياسية، وتسويق منتجاتهم أو الترويج لأشخاص بعينهم، بل والتأثير على وعي الجمهور.
وهنا تبرز الحاجة إلى إعلام ذي هوية فكرية وسياسية واضحة، إعلام ينطلق من مصلحة المجتمع وليس من مصالح مالية أو سياسية ضيقة. إن الصحافة الحزبية لا تدّعي الحياد بمعناه الزائف؛ فهي منحازة للحقيقة، لكنها في الوقت نفسه لا تتحول إلى خطاب أيديولوجي جامد، بل توازن بين نقل الحقيقة والالتزام بمصالح أوسع قطاعات الشعب.
لا حياد بين الحق والباطل
في بعض الدول الديمقراطية، تُطرح فكرة "الحياد" وكأنها قيمة مطلقة، لكن السؤال هو: كيف يمكن أن تكون محايداً بين الحق والباطل، أو بين العدل والظلم؟ إن الحياد المطلق في مثل هذه القضايا هو في حد ذاته انحياز، وغالباً ما يؤدي إلى صحافة بلا موقف، وهو ما يُفقد الإعلام رسالته الأساسية.
من هنا، فإن مهمة الصحافة الملتزمة هي أن تكشف ما يُخفى من الحقائق وراء التصريحات والسياسات، وأن تقول أين تكمن المصالح الحقيقية للشعب، بعيداً عن التضليل أو التلاعب الإعلامي.
ويتطلب هذا الدور بقاء الصحافة الشيوعية والصحافة الإنسانية عموماً في حالة تفاعل دائم مع التطورات، وأن تستفيد من الوسائل الجديدة المتاحة، فالتكيّف مع الواقع الإعلامي الحالي أصبح ضرورة، لكن من دون التفريط بالمبادئ أو السقوط في الابتذال. فالصحافة الملتزمة لا تسعى فقط إلى كسب اهتمام القارئ، بل إلى كسبه على أساس الفكرة والموقف والرأي. وهذا يتطلب مرونة في التعامل مع شكل العناوين، وطريقة تقديم الموضوعات، ولغة الخطاب، من دون التفريط بجوهر الرسالة.
لكن هذه معادلة صعبة، لأن القارئ اليوم أمامه خيارات واسعة جداً، وسلوكه في قراءة الأخبار تغيّر كثيراً. لذلك نجد أن كثيراً من المؤسسات الصحفية الناجحة في العالم تدرس سلوك القارئ بعناية، وتكيّف طريقة عرض المواد وفقاً لهذا السلوك: متى يقرأ، كيف يقرأ، وما الذي يجذبه أكثر؟
جمهور لا ينجذب إلى السطحية
اليوم يغلب على القارئ تصفح الأخبار عبر الهاتف، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ولا سيما "فيسبوك". ومن هنا تأتي أهمية الصياغة الذكية للعناوين والصور والمواد المختصرة التي تجذب الانتباه، ولكن من دون التفريط بالمحتوى الجاد.
لدينا نوعان من القراء: جمهور عام واسع، وفئات مستهدفة محددة. هذه الفئات المستهدفة تشمل المثقفين، المستقلين، الوطنيين، والمهتمين بالشأن الفكري والسياسي. هذه الفئات غالباً أكثر وعياً ومطالبةً بالمحتوى الجاد، وتتطلب أسلوبًا مختلفًا في الخطاب لأنها لا تنجذب إلى السطحية. ونلاحظ في مواقع التواصل الاجتماعي أن بعض المنشورات ذات المضمون الفكري العميق تحظى باهتمام كبير، وهو ما يعني أن الجمهور ما زال يقدّر المحتوى النوعي متى ما قُدِّم بأسلوب جذاب وواضح.
لذلك، يجب أن تكون صحافتنا وإعلامنا في حالة رصد مستمر لسلوك القارئ وتحوّلات اهتماماته. ففي الماضي، كان دور الصحافة يقتصر على فضح النظام وكشف سياساته، أما اليوم فأصبح عليها أيضاً أن تعبّر عن مشروع فكري وسياسي واضح المعالم، وأن تواجه حملات التضليل وتشويه الحقائق بأسلوب مقنع وجاذب في الوقت نفسه.
لقد أصبحت متطلبات الوعي السياسي والاجتماعي لدى الإعلاميين، ولا سيما الصحفيين الشيوعيين، أكبر بكثير مما كانت عليه في السابق، ويجب أن يجمعوا ما بين الوعي الكبير والمستوى الفكري، وأن يكونوا ملمين بالتقنيات، وهذا ليس بقليل.
رصيد كبير من الخبرات
بسام عبد الرزاق: على مدى سنوات، عاصرت كثيرًا من الصحفيين الموجودين في كثير من المؤسسات الأخرى، وهم يتفقون تماماً مع هذا العرفان ومع هذه الإشادة بالصحافة الشيوعية. في السنوات الأولى أقامت "طريق الشعب" الكثير من الدورات الصحفية التي اعتمدت مناهج معيّنة في التدريس، أبعد من الصحافة الحزبية، وأقرب إلى الصحافة اليسارية المنحازة للناس، ولم تكن تُدرَّس فيها شعارات وبيانات حزبية، بل التحقيق، والمقال، والخبر. فلماذا لم يُعزَّز هذا التصور ليأخذ بعداً أكاديمياً؟ بحيث يُصار إلى إنشاء كلية رسمية معترف بها تدرّس هذا النوع من الصحافة، على غرار المدارس الصحفية المعروفة في العالم. هذا يمكن أن يكون مشروعاً ذا هامش ربحي، وليس مشروعًا ربحيًا بالكامل، لكنه في الوقت نفسه يدعم بقية وسائل إعلام الحزب. كذلك يمكن أن يعمل على إعلام موازٍ، كما كان الحزب الشيوعي العراقي في السابق، حينما كان إعلامه يتعرض للقمع، فيعمل على إعلام موازٍ حتى بأسماء مغايرة. فلماذا لا يكون كل هذا ضمن خطط يدرسها الحزب؟ علماً بأن الوقت لم يفت بعد.
رائد فهمي: لا، لم يفت الوقت. وأنا أعتقد أنه لم يحصل تفكير بهذا الاتجاه –حسب علمي– للاستفادة من هذا الرصيد الكبير من الخبرات وجعله أكثر مؤسساتية من خلال مدارس أو دورات منتظمة. كما تفضلت، هذه فكرة موجودة، ويمكن التوقف عندها. التحدي الكبير يخص الجانب المالي، فنحن دائماً نعتمد بشكل أساسي على الاشتراكات المختلفة والتبرعات، وهذا يبقى جزءًا مهماً في الصحافة الحزبية.
في بريطانيا وفي أماكن أخرى، هناك دائماً صناديق للتبرعات تدعم الصحف، لأن هذا يحافظ على استقلاليتها مع الحرية الكاملة. لكن هذا لا يمنع، خاصة عندما نمتلك إمكانيات، أن نفكر في كيفية توظيفها ليس لأغراض ربحية، وإنما لتعزيز الموارد.
وأنا أعتقد أن التفاعل مع القارئ، والقارئ الملتزم، وتطوير مشاركته في دعم الصحافة وتحويله من مجرد قارئ أو مشترك إلى مشارك، أمر مهم. وربما يمكن للصحافة أن تستفيد من فكرة جمعيات أصدقاء الصحيفة. ففي أكثر من تجربة، كانت هناك جمعيات أصدقاء للجريدة أو المجلة، وهؤلاء لم يكونوا مجرد متبرعين بل كان لهم دور في المساهمة في التوجهات باعتبارهم شركاء. هذا التحول من مجرد قارئ إلى شريك يساعد في فهم الأولويات وتطوير العمل الإعلامي.
أفراد يؤدون دور مؤسسات
لذلك، أعتقد أن فكرة إنشاء إطار تنظيمي لعلاقة الصحيفة بجمهور واسع من القرّاء يمكن أن يكون مهماً جداً. كما أن هذه الظروف الضاغطة تجعلنا بحاجة إلى أفكار مبتكرة والاستفادة من تجارب الصحافة الحزبية وصحافة الرأي الناجحة في مواجهة التحديات. علينا دراسة هذه التجارب عن كثب لنر ما يمكن أن ينطبق على ظروفنا.
وأشير أيضاً إلى أن الدولة الديمقراطية عليها مسؤولية في هذا المجال. ففي بلد متعدد القوميات والأديان والآراء والعقائد، التنوع موجود، واحترامه يتطلب تعاملًا احترافيًا. الدولة مسؤولة عن ضمان وحدة النسيج الوطني والتماسك المجتمعي، والمفروض أن يكون لها دور أفضل من دورها الحالي.
وسائل الإعلام أيضاً يجب أن تعبر عن هذا التنوع، لا أن تكون نسخة مكررة من بعضها البعض. اليوم لدينا عشرات القنوات التلفزيونية، لكن أغلبها متشابهة في التوجه أو المعايير أو الآليات لكسب المشاهد.
هناك اليوم وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت تكمل دور الجريدة وتساعد على الوصول إلى الناس وتنظيم العمل. ويحتاج هذا المجال إلى جهد أكبر، فهناك أفراد اليوم يؤدون دور مؤسسات عبر هذه المنصات، وهذا يتطلب تركيزًا أكبر.
القدرة على مواجهة الضغوط
كل هذا يفترض وجود مساحة واسعة من الحريات التي يكفلها الدستور. ورغم وجود هذه المساحة في النصوص، لكنها تبقى مهددة بسبب طبيعة المصالح والسلطة، مما يُبقي الدفاع الصارم عن الحريات الإعلامية والصحفية وحرية الرأي، هدفاً أساسياً للصحافة الشيوعية، لأنها من أهم الضمانات للتنوع الإعلامي، ولأن المخاطر التي تهدد الإعلام لم تنتفِ، فقد لاحظنا في السنوات الأخيرة تعرض كثير من الصحفيين للقتل أو الاعتقال أو التضييق.
هناك اليوم صراع شديد في الميدان الثقافي وفي السيطرة على الوعي، ولهذا يجب أن لا تكون هذه مهمة الشيوعيين فقط، بل كل أصحاب الفكر المتنوع.
صحافتنا ربما ميزتها الاستجابة، والثبات، والمواصلة، والقدرة على مواجهة الضغوط، وبالتالي فهي عنصر محفز وداعم لأصوات أخرى قد لا تمتلك الإمكانيات نفسها.
لذلك، تبقى الصحافة الشيوعية جزءًا مهمًا من المشهد الإعلامي والثقافي العام، وهي تخوض معركة وعي المواطن والمواطنة، لأن هذا الوعي شرط أساسي لمواجهة التحديات وتحقيق التغييرات المطلوبة في منظومة الحكم ولتحقيق العدالة الاجتماعية وغيرها من القضايا الراهنة والمهمة في العراق.
************************************
الصفحة الرابعة
من «كفاح الشعب» إلى الإعلام الرقمي.. 90 عاماً من الانحياز الى الحقيقة.. في ذكرى انطلاق الصحافة الشيوعية
مفيد الجزائري يتحدث عن الماضي والحاضر وما بعد الورق
بغداد ـ طريق الشعب
في مناسبة الذكرى التسعين لانطلاق الصحافة الشيوعية العراقية، أجرى الرفيق علي شغاتي حوارًا واسعا مع رئيس تحرير جريدة "طريق الشعب" الرفيق مفيد الجزائري، للوقوف على محطات هذه المسيرة الفريدة، التي بدأت بصدور أول عدد من "كفاح الشعب" عام 1935، وسط أجواء الهيمنة الاستعمارية والقمع البوليسي، لتتحول الجريدة إلى منبر نضالي يتصدى للحكومات الرجعية والدكتاتورية، ويصمد في وجه الملاحقة والمصادرة، ويعبّرعن هموم الجماهير وتطلعاتها.
لا يكتفي الحوار بتسليط الضوء على سنيّ الصدور والتوزيع السريين أو على العصر الذهبي في السبعينات، بل يمتد ليشمل تجارب الصحافة في السجون والجبال وسوح النضال الاخرى، والتحديات التي واجهتها "طريق الشعب" بعد 2003، وصولًا إلى التطورات الرقمية اليوم، ورؤية الصحيفة للمستقبل في ظل التنافس الإعلامي الحاد، وضعف التمويل، والتغيّر في أدوات التأثير.
في هذا اللقاء، نتابع شهادة من الداخل عن فلسفة الخطاب الصحفي للحزب، عن الموضوعية والجرأة، عن التوازن بين المبدئية والانفتاح، وعن السعي لبناء مؤسسة إعلامية حديثة موحدة، قادرة على مواكبة المتغيرات دون التخلي عن رسالتها الجذرية.
هنا النص الكامل للحوار:
علي شغاتي: يسعدنا أن نستضيف الرفيق مفيد الجزائري، رئيس تحرير "طريق الشعب"، للحديث عن مسيرة الصحافة الشيوعية العراقية في الذكرى السنوية التسعين لانطلاقها.
نسأل اولا عن تقييمكم لهذه المسيرة على مدى العقود الماضية من الكفاح والعمل الدؤوب؟
مفيد الجزائري: هي مسيرة فريدة حقا بكل ما تعنيه الكلمة؛ فريدة في ريادتها، في جسارتها، في تحديها للظروف القاسية المتنوعة، وفي ما أنجزت وحققت. نتذكر البدايات عندما صدر أول عدد من جريدة "كفاح الشعب" في 31 تموز 1935. وقتها كانت البلاد ترزح تحت وطأة الاستعمار البريطاني، الذي كان يفرض هيمنته المطلقة عبر سفارته في بغداد وحكم أعوانه وسلطاتهم وأجهزتهم، والكبت والقهر اللذين تمارسهما قوات شرطتهم وتشكيلاتهم المسلحة الاخرى. وبجانب ذلك كانت هناك التركة الثقيلة للعهد العثماني، والتخلف الاجتماعي الشامل السائد، مقابل الصراع المتنامي الذي يخوضه المجتمع للخلاص من ظلام القرون المخيم، وللتحرر وانتزاع الاستقلال والسيادة والسعي الى التقدم.
في تلك الاجواء شكل إقدام الحزب على اصدار جريدته الاولى خطوة بالغة الجرأة، وتحديًا سافراً لسلطة الاستعمار والرجعية. فقد خرج الشيوعيون بجريدتهم السرية رغم كل القيود والمخاطر. وبعد ذلك انغمروا في دفاع لا يكل عن مواصلة إصدارها وإدامته، وواصلوا جهودهم سنين طويلة لاحقة في البيوت السرية، بعيداً عن عيون الحكام وأجهزتهم احيانا، وفي مواجهات مباشرة مع مداهماتهم وكبساتهم احيانا اخرى. ولم تحظ الصحافة الشيوعية بفرصة للصدور العلني إلا بعد ثورة 14 تموز 1958. فالتحدي لم يكن لحظة عابرة شهدتها البداية، بل شكّل مسارا طويلا بقي يتمدد مع استمرار صدور هذه الصحافة سرًّا من البيوت الحزبية، سواء في بغداد أو في المحافظات والمدن العراقية الاخرى، واستمرار توزيعها رغم المنع والملاحقة والمصادرة، واعتقال الطباعين والناقلين والموزعين وسجنهم.
علي شغاتي: في مرحلة ما بعد ثورة 14 تموز 1958، حدث نوع من الانفراج الذي سمح بصدور الجريدة بشكل علني، لكنّ معظم المتابعين يرون أن فترة السبعينات مثّلت العصر الذهبي للصحافة الشيوعية، إذ فاق تأثير "طريق الشعب" تأثير صحف الحكومة مثل "الثورة" و"الجمهورية”. بل وصلت مبيعاتها إلى أكثر من 60 ألف نسخة يوميًا. فكيف تمكنت من تحقيق ذلك الحضور والتأثير الكبيرين؟
مفيد الجزائري: نعم، الفترة الذهبية الحقيقية كانت في السبعينات وليس مباشرة بعد ثورة 14 تموز. فالمرحلة الاولى لم تدم طويلًا - سنتين فقط ، كانتا مشحونتين بالصراعات الشديدة، ولم تتوفر في أثنائهما بيئة مستقرة تتيح للصحافة النمو والتطور كما حصل لاحقًا، في السبعينات، عندما تهيأت فرص أفضل. وجاء صدور "طريق الشعب" العلني سنة 1973 ليعبّر عن تلك المرحلة، بعد أن مهّدت له مطبوعات اخرى صادرة عن الحزب الشيوعي.
جاءت ”طريق الشعب" جديدة تماما، سواء من حيث الشكل أو المضمون أو المعالجة التحريرية، واستطاعت أن تستقطب خيرة الكتّاب والمبدعين والأكاديميين، وان تجتذب وتؤهل خيرة المواهب. وكان هناك شعور بل ويقين عام بأنها تعبّر عن الناس، عن آلامهم وآمالهم ومطامحهم، فلم يكن غريبا ان تتحوّل إلى منبر واسع، بل وإلى مدرسة صحفية خرّجت أجيالًا من الصحفيين والكتاب الذين يُذكرون حتى اليوم.
علي شغاتي: أود هنا أن أركز على الجانب الشعبي في مسيرة "طريق الشعب”. كثيرون من أبناء جيلنا سمعوا قصصًا عن أناس أُعدموا لمجرد أنهم وزعوا الجريدة أو احتفظوا بها في بيوتهم، وليس لأنهم عملوا فيها مثلا. فما الذي جعل "طريق الشعب" تؤثر في وعي الناس الى الدرجة التي تثير خوف السلطة الدكتاتورية وحقدها؟
مفيد الجزائري: كانت شعبيتها طاغية فعلاً، إلى حد أن النظام البعثي، رغم كل ما امتلكه من إمكانات مالية وتقنية، لم يتمكن من أن يضاهيها بجريدتيه: "الثورة" و"الجمهورية”. كان توزيعها يسجل أرقاما مذهلة: 60 ألف نسخة يوميًا، وربما أكثر، وكانت تصل حتى الى إلأماكن النائية في أنحاء العراق. ولم يكن بمقدور أجهزة الأمن منع انتشارها، رغم الاجراءات الرادعة والملاحقات والاعتقالات. لقد فرضت "طريق الشعب" نفسها بقوة، ليس فقط بما كانت تنشر من مواد اعلامية وثقافية وتنويرية، بل وباللغة البسيطة والصادقة التي كانت تتحدث بها إلى الناس.
علي شغاتي: من الأمور اللافتة ايضا أن الحزب الشيوعي العراقي تميز بإصدار صحف بلغات غير العربية. كيف تنظرون إلى هذه التجربة؟
مفيد الجزائري: هذا بالفعل من السمات الفريدة لصحافة الحزب الشيوعي العراقي. فمنذ الأربعينات بدأ الحزب بإصدار صحف باللغة الكردية، مثل جريدة آزادي، التي عرفت لاحقًا باسم ريگاي كردستان وهي لا تزال تصدر حتى اليوم. وكانت هناك ايضا تجربة مبكرة لاصدار صحيفة باللغة الأرمنية، وقد حملت اسم “همك” (القاعدة).
نعم، كانت صحافتنا الشيوعية متعددة الأصوات، كما كانت متنوعة مواقع الصدور. بعضها ظهر في جنوب الوطن، وبعض في الفرات الأوسط، الى جانب كردستان وبغداد. وتنوعت الإصدارات ايضا، فكانت هناك صحف ومجلات الطلبة والشبيبة، وصحافة العمال، وصحف المرأة، وصحف الفلاحين، وحتّى جريدة عصبة مكافحة الصهيونية. هذا اضافة الى مجلة "الثقافة الجديدة".
هذا الكم الكبير من الإصدارات، الذي تدفق على مدى عقود من السنين، ومعظمه في ظروف العمل السري القسرية، لم يتحقق لغير حزبنا الشيوعي. ولسنا نهوّل اذا قلنا ان الصحافة الشيوعية كانت بحق مدرسة للنضال، ومدرسة للصمود بوجه القمع والانتصار عليه.
علي شغاتي: هناك تجربة صحفية اخرى لا تقل أهمية، تجربة صحافة السجون؟
مفيد الجزائري: صحافة السجون كانت من أنصع صفحات التحدي والإبداع الشيوعيين في أحلك الظروف. فداخل "نقرة السلمان" وغيره من السجون، كان السجناء السياسيون يصدرون صحفهم بخط اليد، لتُقرأ وتُسمع جماعيًا أو تُمرر من سجين الى آخر. وكانت تلك الصحف توثق صور المعاناة، وتنشر المقالات السياسية والثقافية، وتبقي جذوة الوعي والمعرفة متقدة رغم الجدران والقضبان والعزلة المديدة.
علي شغاتي: كذلك صحافة الأنصار في جبال كردستان.. فهي فصل خاص ومميز من مسيرة الصحافة الشيوعية.
مفيد الجزائري: من دون ريب. تجربة صحافة الأنصار الشيوعيين في تلك المناطق الجبلية اثناء الفترة الممتدة بين مطالع الثمانينات وأواخرها، كانت من أروع أشكال العمل الإعلامي المقاوم. فالى جانب "طريق الشعب" التي عاودت الصدور هناك تحرسها بنادق الانصار، راحت تصدر ايضا صحيفة "نهج الانصار" عن المكتب العسكري لقوات الانصار، والعديد من الصحف والنشرات السياسية – العسكرية الاخرى في قواطع العمليات المختلفة. واضافة الى ذلك كانت تتواصل من مناطق الكفاح الانصاري البرامج اليومية لاذاعة "صوت الشعب العراقي"، التي عاودت البث بعد انقطاع سنين. ذلك انها انطلقت لاول مرة في أعقاب انقلاب شباط 1963من بلغاريا الشعبية وظلت تذيع برامجها حتى سنة 1968. ولاحقًا وبعد انتفاضة آذار 1991، عادت الى بث برامجها ومن بلدة شقلاوة، واستمرت حتى انهيار النظام الدكتاتوري في 2003.
كان الأنصار في سنوات كفاحهم تلك يشغلون الاذاعة ويديمون عملها وبثها، كما كانوا يحررون الصحف ويطبعونها ويوزعونها، متجاوزين كل التحديات الأمنية واللوجستية. وكان نشاطهم الاعلامي ميداناً لتلاقح الكلمة والسلاح، في تجربة نضالية لا تتكرر ولا تنسى.
علي شغاتي: بالانتقال إلى مرحلة ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري في 2003، من المعروف أن "طريق الشعب" كانت أول جريدة توزع في بغداد آنذاك. فكيف حدث ذلك واين كانت تصدر؟
مفيد الجزائري: حتى نيسان 2003 كنا نُصدر "طريق الشعب" شهريًا من شقلاوة. نحررها هناك ونطبعها في مطبعة "روشنبيري" بمدينة أربيل، ثم نوزعها يدويًا. وكنا نستخدم إذاعتنا "صوت الشعب العراقي " في بث تقارير الجريدة وتعليقاتها وموادها الاخرى. فما ان سقط النظام، حتى سارعنا لتهيئة مواد عدد الجريدة الجديد وتصميمه وطباعته، وحالما تم ذلك توجهت بنفسي الى بغداد حاملا عددا كبيرا من نسخه، حيث وزعناها على المواطنين المندهشين وغير المصدقين في الشوارع والساحات العامة. ومنذ يومها صرنا نصدر الجريدة اسبوعيا بنفس الطريقة: نحررها في شقلاوة ونطبعها في اربيل ونوزعها في بغداد ومنها الى ارجاء الوطن. واستمر الحال كذلك بضعة اسابيع، حتى عثرنا في العاصمة على مطبعة وافق صاحبها على استئناف تشغيلها رغم الاوضاع الاستثنائية السائدة.
علي شغاتي: النظام السياسي القائم يبدي الحرص، حتى هذه اللحظة، على مواصلة اجراء الانتخابات البرلمانية، وعلى تداول السلطة سلميا، وهناك ممارسات اخرى للديمقراطية، فلماذا يقال إنه لا توجد ديمقراطية؟
مفيد الجزائري: لا اعتقد ان هناك نفيا مطلقا لوجود الديمقراطية. لكن الصحيح هو ان عندنا حتى الآن مظاهر للديمقراطية، فهي ديمقراطية منقوصة وغير مكتملة. الديمقراطية لا تختصر بالانتخابات ومجلس النواب، بل هي منظومة متكاملة من الحقوق والحريات والتشريعات والمؤسسات والممارسات. ولكن حتى الآن ليس عندنا مثلا قوانين نافذة تضمن حرية التعبير بشكل فعلي. وهناك مواد دستورية واضحة لم يقم البرلمان بتنفيذها. كما أن هناك تشريعات أساسية، لم تُسن حتى الآن.
وخذ مثلًا منظمات المجتمع المدني، فرغم وجود قانون ينظم عملها، إلا أن تطبيقه إما مغيّب تمامًا، أو يتم بشكل جزئي وانتقائي، وأحيانًا بصورة مشوهة. ولا تنس ايضا انه حتى الشكل الأكثر شيوعًا للديمقراطية، أي الانتخابات، يعتريه الكثير من أوجه الخلل والنقص ومن التشويه.
في طريق الشعب، نحرص على معالجة هذه القضايا بشكل مستمر، ونكشف الممارسات التي تنال من جوهر الديمقراطية، لا سيما في مجرى العملية الانتخابية. أما المجالس النيابية التي تفرزها هذه الانتخابات، فهي كما نرى تفتقر إلى الكثير من المقومات الاساسية، سواء في أداء واجباتها التشريعية اوالرقابية، وهي غالبًا ما تُهمل متابعة أداء السلطة التنفيذية بالمستوى المطلوب.
علي شغاتي: أود أن أعود إلى الصحافة الشيوعية نفسها. من بين الملاحظات التي تُسجل عليها، عدم ذكرها الأسماء. فالقارئ اليوم لجريدة طريق الشعب نادرًا ما يجد أسماءً صريحة، حتى لمن تصدر بحقهم أحكام قضائية. ما سبب ذلك؟
مفيد الجزائري: في الاساس نحن لا نخوض معارك مع اشخاص. صراعنا مع الأفكار والمواقف والسياسات والرؤى. وحين نتحول نحو الشخصنة، نكون قد انحرفنا عما هو جوهري. علما ان من يرتكب خطأً بحق البلد أو المجتمع، تبقى مسؤوليته قائمة سواء ذكرنا اسمه أو لم نذكره. المهم هو تسليط الضوء على الفكرة، هو كشف السياسة الخاطئة والتصدي لها بنقد موضوعي دون الوقوع في ما قد يعتبر تشهيرا.
وحتى حين ننتقد الأفكار، فإننا لا نتعامل معها بتشويه أو إساءة، بل نوضح مواضع الخلل فيها. نحن نتصدى لمشروع سياسي، لا لأسماء عابرة. الأشخاص يتغيرون، يأتون ويذهبون، أما النهج والفكر فهما ما تتوجب مواجهته والوقوف ضده. منذ عام 2003 حتى اليوم تغيّر الكثير من الوجوه، لكن المشروع بقي هو ذاته، وهو ما نركز اهتمامنا عليه وتصدينا له.
علي شغاتي: لكن البعض يفسّر هذا التعامل بأنه نابع من تردد أو حتى من خوف. دعني أكون صريحًا، هناك من يصفه بضعف في الجرأة.
مفيد الجزائري: أعلم أن هناك من يرى ذلك، لكني أعتقد أنها رؤية غير دقيقة. ففلسفتنا في تحرير الجريدة واضحة: نحن نواجه ونفضح السياسات لا الأشخاص. الشخص يرحل ويأتي غيره، فيما تبقى الأفكار والسياسات قائمة. لهذا، فإن المعركة التي نخوضها فكرية ومبدئية وليست شخصية. وما دام المشروع السياسي قائما، فإن التصدي الناجع له لا يتم بتسمية الأشخاص بل بكشف جوهره.
علي شغاتي: من المآخذ الأخرى، التي تتردد في ظل الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، أن دور الصحافة الشيوعية في تشكيل الرأي العام بات ضعيفًا أو غير محسوس. الناس تنتظر ما يصدر عنها، إلا أن تأثيرها لا يبدو بمستوى الترقب. كيف تقيّمون هذا الواقع؟ وكيف ترون امكانية التطوير والتوسع؟
مفيد الجزائري: لا شك أن تأثير الصحافة الورقية عموما، بما في ذلك طريق الشعب، تراجع في ظل الثورة الرقمية. جمهور الصحافة الورقية أصبح بالفعل محدودًا، لكننا نسعى إلى تجاوز هذا التراجع عبر الافادة من التقدم التكنولوجي ذاته، عبر التوسع في النشر الإلكتروني.
نوزع طريق الشعب اليوم إلكترونيًا بأعداد كبيرة، ونعمل على تعزيز هذا التوجه. لكن التأثير الحقيقي لا يتأتّى من النشر وحده، بل من تقديم مادة إعلامية رصينة، خطاب واضح، تحليل عميق، وآراء مقنعة. هذا هو الجانب الأول. أما الجانب الثاني، فهو امتلاك أدوات النشر والتوزيع على أوسع نطاق ممكن.
ولقد قطعنا في الآونة الماضية شوطا لا بأس به في تطوير محتوى الجريدة، والانتقال من مجرد نشر الأخبار إلى التقصي والتحليل والاستنتاج. محتوى الجريدة اليوم، من حيث النوعية، جيد وغني، لكنه بحاجة إلى قدرات تقنية وبشرية أكبر من أجل الانتشار والتأثير. لدينا وجود نشط على منصات تواصل مثل تيليغرام، إنستغرام، فيسبوك، والموقع الإلكتروني الرسمي. وكل هذه المنصات تُدار بشكل تكاملي مع الصحيفة الورقية.
في الوقت نفسه نعمل على تأسيس مؤسسة إعلامية موحدة تجمع كل هذه المنابر تحت مظلة واحدة، وتحقق تكاملا إعلاميا حقيقيا بين الصحافة الورقية والرقمية.
علي شغاتي: معلوم إن كل مشروع تطويري يحتاج إلى تمويل. لكن واحدا من أبرز التحديات التي تواجه الصحافة الشيوعية، كما نعلم ايضا، هو ضعف الموارد. كثيرًا ما نسمع عبارة: "الشيوعيين ما عدهم فلوس". فكيف يمكن منافسة أحزاب تمتلك فضائيات وصفحات تموَّل بالملايين، بينما ميزانيتكم لا توازي جزءا صغيرا مما تنفقه تلك الجهات سنويًا؟
مفيد الجزائري: في صحافتنا الشيوعية نُولي أقصى الأهتمام للاستقلال في التحرير وفي التمويل. نرفض التمويل الخارجي ولا نقبل من الإعانات الا غير المقيدة بأيّة شروط. نحن صوت الحزب الشيوعي العراقي، وسنظل صوته المستقل الأمين مهما بلغت التحديات.
نعم، هناك أحزاب تنفق ببذخ على وسائلها الإعلامية، لكنها في المقابل مقيَّدة بإرادات مموليها. هذه لعبة نحن بعيدين عنها تماما ونظل كذلك. فاستقلالنا رأس مال حقيقي لنا، وسنبقى نحافظ عليه.
علي شغاتي: حتى نكون واضحين، طريق الشعب جريدة تنطق باسم الحزب الشيوعي العراقي، فهل هي بصفتها هذه تخاطب الشيوعيين وحدهم، أم أن خطابها موجه إلى جمهور أوسع؟
مفيد الجزائري: خطاب الجريدة وطني تقدمي يخاطب عموم الشعب العراقي. صحيح أنها تنشر أخبار الحزب ونشاطاته، لكن جوهر رسالتها هو التعبير عن هموم الجماهير وآمالها وتطلعاتها. نحن لا نخاطب الشيوعيين فقط، بل نوجه خطابنا إلى كل من يسعى إلى الديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية. انه خط الجريدة الواضح والثابت، ولن نحيد عنه.
علي شغاتي: كيف يمكن للإعلام الشيوعي اليوم أن يحقق التكامل بين الورقي والرقمي، مثلما استطاع في زمن الجبل ان يجعل الجريدة تُكمل الإذاعة وبالعكس؟
مفيد الجزائري: نعم، نحن نؤمن بضرورة التكامل، ونعمل على تحقيقه بالفعل، حيث اننا لم نبلغ بعد المستوى الذي نطمح إليه. رغم ان المواد التي تُنشر اليوم في طريق الشعب تُعاد صياغتها ويعاد نشرها في مواقع الحزب الالكترونية وعلى صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة.
نحن نسعى اليوم إلى مأسسة جهدنا الإعلامي في إطار "مؤسسة طريق الشعب"، لتضم الجريدة، والموقع الإلكتروني، ومنصات التواصل، ولتعمل جميعا ضمن منظومة إعلامية موحدة. فهدفنا هو ألا تبقى هذه الوسائل مستقلة عن بعضها، بل أن تتكامل وتخدم بعضها في إطار رؤية إعلامية واحدة.
علي شغاتي: هل يمكننا القول إن الصحافة الشيوعية توقفت عند حدود طريق الشعب، أم أن هناك ما هو جديد في الأفق؟
مفيد الجزائري: الصحافة الشيوعية لم ولا تتوقف عند الورق. ما ننشره رقميًا هو امتداد طبيعي لعملنا الصحفي، لكن بصيغة معاصرة. قد يأتي يوم يصبح فيه نشرنا الورقي أسبوعيًا أو شهريًا فقط، ويكون الحضور الرقمي هو الأساس. فالمنبر الجماهيري الحقيقي اليوم هو الإعلام الرقمي، ونحن نعمل على تطويره بكل الوسائل المتاحة.
علي شغاتي: ما الكلمة التي تود توجيهها في الختام لقرّاء طريق الشعب؟
مفيد الجزائري: المسارالذي باشرناه لتطوير صحافتنا الشيوعية بمنابرها المختلفة، وتحويلها إلى مؤسسة إعلامية حديثة ومتكاملة، سيستمر ويتعزز. لدينا لهذا الغرض فريق محدود العدد، لكنه يتمتع بكفاءة عالية وقدرة ابتكارلافتة، وهو يعمل بجهد كبير ويحرز نتائج ملموسة رغم محدودية الموارد. هذا الفريق يستحق كل الدعم، وهو من نضع كل إمكانياتنا المتاحة في خدمته.
نحن في طريقنا إلى مرحلة جديدة ومتقدمة في العمل الصحفي، وسنواصل المسير بثقة حتى نبني شبكة إعلامية شيوعية فاعلة ومؤثرة، تحتضن كل مرافقنا الورقية والرقمية في إطار واحد متكامل.
*********************************************
الصفحة الخامسة
احتفال كبير في الذكرى الـ 90 لانطلاقة الصحافة الشيوعية
بغداد ـ بسام عبد الرزاق
أقامت لجنة الإعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي، مطلع هذا الأسبوع، حفلاً نوعياً لإحياء الذكرى التسعين لتأسيس الصحافة الشيوعية، بحضور نخبة من الأكاديميين والصحفيين والمهتمين، حيث ضيّفت اللجنة في ندوة بالمناسبة الأكاديمية د. ازهار صبيح والأكاديمي المعروف د. هاشم حسن والكاتب والصحفي عبد المنعم الاعسم وعضو المكتب السياسي وعضو لجنة الإعلام المركزي علي صاحب.
انطلق الحفل بالوقوف استماعا للنشيد الوطني، تلته كلمة افتتاح الفعالية قدمها الرفيق بسام عبد الرزاق، ثم الوقوف دقيقة صمت تكريماً لشهداء الصحافة الشيوعية وسائر شهداء الوطن، فضلا عن الراحلين ممن عملوا في صحافة الحزب طيلة 9 عقود.
وقدمت الرفيقة دينا الطائي، عضو اللجنة المركزية للحزب وعضو لجنة الاعلام المركزي، كلمة المناسبة "منشورة في مكان آخر من الصفحة".
تأثير الصحافة الشيوعية بالواقع
بعدها، انطلقت مداخلات الضيوف بالمناسبة، دشنتها الاكاديمية د. ازهار صبيح بالحديث عن الصحافة الحزبية في العراق، وتأثيرها وتأثرها بالواقع السياسي بدءا من العهد الملكية مرورا بالجمهورية الأولى، ووصولاً الى أعوام ما بعد 2003، حيث استعرضت مشاهد وتواريخ وأسماءَ لتلك الصحف، لاسيما صحافة الحزب الشيوعي، وتحديدا السرية منها.
الاكاديمية د. ازهار صبيح، قالت في بداية حديثها: ان "رسالتي للماجستير في العام 2004 كانت عن الصحافة الحزبية في العراق ما بعد تغيير النظام، وكان من بين الصحف محل الدراسة جريدة (طريق الشعب) وصحف أخرى إسلامية وكردية".
وأضافت، ان "الصحافة عموما هي ذات سمة سياسية والعلاقة بين الصحافة والسياسة اما ان تكون تكافلية اذا كانت الصحافة مؤيدة، او جدلية اذا كانت الصحافة معارضة"، مشيرة الى ان "الصحافة الحزبية في العراق هي في مرحلة انبثاق الحياة السياسية، بعد أن أصبحت هناك حرية للأحزاب. وبطبيعة الحال هذه الأحزاب تؤسس لها صحفا ناطقة باسمها ومعبرة عن أيديولوجيتها".
وأشارت صبيح الى انه "في العراق ـ وتحديدا في العهد الملكي ـ عندما اجيزت الأحزاب وكانت هناك صحف حزبية، تباينت مواقف هذه الصحف بين المهادنة والمتماهية والمعارضة وأيا كان الموقف من السلطة والمسافة التي تقف عليها الصحافة الحزبية، فهذا لا يلغي ان هذه الصحافة لها وجود فاعل بصرف النظر عن ماهية هذا الوجود".
وأكملت، انه "أحيانا تتعرض الصحف للمضايقات والتعطيل والتوقيف، وهذا مؤشر على فاعليه هذه الصحافة في حياة الناس وفي الحياة الصحفية عموما"، لافتة الى ان "الحريات التي منحت لتأسيس الأحزاب أعطت انطباعا لدى الناس بان الجو الديمقراطي سيسود والحريات ستكون مطلقة الى حد ما، لكن هذا الانطباع سرعان ما جوبه بمحاولات السلطات المتعاقبة إيقاف الصحف وتعطيلها واصدار الأوامر ضد القائمين عليها".
وأضافت، انه "لاحقا في العهد الجمهوري الأول طرأت على الصحافة الكثير من المتغيرات على مستوى الشكل والمضمون. وفي نفس الوقت كان هناك كثير من الاسفاف الذي شهدته الصحافة، فضلا عن قيام جهات معينة بإصدار صحف لتشتيت صحف أخرى او بعض الجهات، ووجود عناصر دخيلة في الصحافة، وهي بالأساس مزروعة من قبل السلطات".
ونوهت الى ان "هذا الشيء دفع الصحافة الى مجابهة السلطة وادى بالنتيجة الى الصدور سريا، والعوامل الفارقة في الصحافة الحزبية السرية في العراق هي ان اول صحيفة سرية في تاريخ العراق كانت صحيفة الحزب الشيوعي العراقي وهذه الصحيفة أحدثت فارقا كبيرا، وكانت علامة فارقة في صحافة الحزب والصحافة الحزبية السرية".
وأوضحت صبيح، ان "المضايقات التي تعرضت لها صحافة الحزب الشيوعي أدت بها الى ان تتوقف وتصدر لاحقا، فالشرارة مثلا كانت تسجل من صحف الحزب الشيوعي السرية، وهي ملتزمة بعض الشيء ولم تعبر عن مطالب الحزب الشيوعي بشكل ثوري، ووصفت حينها بانها بريئة من المشاعر الثورية على العكس من باقي صحافة الحزب الشيوعي".
ولفتت، الى ان "طريق الشعب التي كانت محل دراستي في الماجستير مرت بأربع مراحل مفصلية، الأولى هي مرحلة التأسيس وصدور العدد الاول منها وهو يمجد الإعلان الحكومي ويبارك ذكرى الثورة البلشفية، ويبارك انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي".
وتابعت حديثها، ان "المرحلة اللاحقة التي صدرت فيها شهدت ظروفا فنية صعبة، وكانت المطبعة سرية وتعود للحرب العالمية الثانية ولم تصدر بأعداد متواترة ومنتظمة وبحجمها الكبير المعروف، وتولى تصميم شكلها الطباعي الفنان محمد سعيد الصكار، وتم توزيع 6 ملايين نسخة منها عام 1975، وهي علامة فارقة في الصحافة العراقية، بينما الان لا تحلم أي صحيفة عراقية بتوزيع 6 الاف نسخة".
وبيّنت ان "المرحلة الثالثة جاءت وكان اغلب كتّاب (طريق الشعب) من خارج اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وبهذا خرجت الجريدة من كونها جريدة اللجنة المركزية والحزب الشيوعي الى ان تكون جريدة كل الشيوعيين وهذه علامة مهمة في مسيرة طريق الشعب".
وذكرت ان "المرحلة الرابعة هي مرحلة ما بعد تغيير النظام في عام 2003 تحديدا وكانت او صحيفة توزع في بغداد بتاريخ 11/9/2003 وهذا يليق بطريق الشعب واسم الشيوعيين".
الطوفان الالكتروني
من جانبه، قال الاكاديمي د. هاشم حسن، ان "الحزب الشيوعي العراقي هو الوحيد الذي حافظ على بيته وسمعته، ولم يخرج منه وزير مفسد، ولا سياسي شارك في بيع "خور عبد الله"، فهنيئا لكم وهنيئا للأجيال التي ستقتدي بهذا الجيل".
وأضاف، انه "أولا نحن إزاء طوفان رقمي في كل العالم، ودليلنا الصين، التي جعلت منه وسيلة لخدمة الإنسان وأيضا تأكيد الهوية الوطنية والإنسانية. والاعلام الرقمي بوتيرته السريعة والتكنولوجيا وإدارة الدولة العاجزة عن اللحاق به، سيؤدي الى كوارث ثقافية، وستبقى اجيالنا معلقة بالهواء، وسيؤدي الى القضاء على هويتنا الورقية".
واضاف حسن في مداخلته: "نحن ندعي ان لدينا حكومة الكترونية، واننا تحولنا للمرحلة الرقمية وصرفنا تريليونات. وهنا أقدم مثالا: في مراجعة لتبديل وثيقة (السنوية) وجدتُ 20 شباكا. الواجب الأول هو دفع الضريبة، وعن طريق الدفع الالكتروني، ولكي تصدر هوية جديدة يجب ان تذهب الى الأرشيف، لكن هناك ملايين الأضابير الورقية، التي تضطرك الى الانتظار ساعات طويلة. فاين التحول الرقمي؟".
وزاد حسن بالقول: "حقيقة اننا نحتاج ان يتحول كل تراثنا الصحفي الى الكتروني، ومن خلال الأجهزة اللوحية بإمكاننا تصفح كل الصحف من الزوراء الى طريق الشعب في 2025. وعندما اريد مستندا معينا من هذه الصحف أستطيع الحصول عليه بسهولة"، مبينا انه "كل صحافتنا مهددة بالانقراض، فبمجرد ان تمسك رزمة من الصحف القدمية (الاستقلال، الزمان، الأهالي، البلاد) في دار الكتب والوثائق، تنهار بيدك وتتلف بمجرد محاولة رفعها. ان ما تم تحويله الى "ميكروفيلم" قليل جدا. هذه أزمة".
واستطرد بالحديث: "حين كنت عضوا في هيئة أمناء شبكة الاعلام، اقترحت ان نعمل على إقامة أرشيف لتاريخ الاعلام العراقي: الإذاعة والتلفزيون والصحافة. وامامكم الان في بناية بائسة يعرض تاريخ مشوه ومن دون منهج، برغم ان ميزانية الشبكة تتجاوز 150 مليار دينار. وأيضا اردنا إقامة متحف للصحافة العراقية في كلية الاعلام، بقينا سنوات نتوسل بالوزارة وبالجامعة، لكنهم رفضوا بناء قاعة لعرض تاريخ الصحافة بطرق منهجية، كي يتمكن الطالب في اثناء دخوله القاعة وحتى مغادرتها، من أن يرى بعينه تاريخ الصحافة والإذاعة والتلفزيون. ومن هنا يبدأ التاريخ".
وأشار الى ان "الوثائق تعاني، لاسيما الصحف والمجلات القديمة في بغداد وكردستان، تعاني من العبث. والكثير من المجلدات تتعرض للقطع والنهب. أي شخص لديه موضوع مهم يقتطع جزءا كبيرا من هذه الصحف. بل أن بعض الوثائق تزور أو تسرق. ادن نحن مهددون بالخطر".
ونبّه حسن إلى أن "كثيرا من أرشيف صحافتنا نقل إلى إسطنبول، لا سيما التي بدأت الصدور عام 1908، وحتى في فترة البريطانيين، كانت الوثائق العراقية موجودة في لندن، ولم يحدث أي جهد منظم لإعادة كتابة تاريخ الصحافة بالعودة الى لندن. كما أن أمريكا ساهمت ـ بدور كبير ـ في نهب التراث والوثائق العراقية، وجزء منها نقل الى جامعة بنسلفانيا، وجزء مهم تحول إلى جماعة نتنياهو. لذلك يجب ان يكون هناك قرار وطني باستعادة وثائقنا وتاريخنا، لأن جزءا منها مجلدات من الصحافة العراقية التي لم تؤرخ".
وواصل القول ان "الكثير من صحفنا السرية والعلنية تركها الأجداد للأبناء والابناء تركوها للأحفاد، وأصبحت هذه الصحف عبئا. احدهم صحفي قديم ضاق بيت عائلته على صحفه القديمة وتوسلوا ان يتم التخلص منها، وبأي طريقة. وكذلك أستاذ كبير بالاعلام يتصل نجله من أمريكا طلبا للتخلص من مكتبته، كونهم يريدون بيع البيت، ويرون في المكتبة عائقا".
وأضاف، انه "حتى في محلات الانتيكات هناك كنز من الصحف القديمة، يجر بيعه بأسلوب الابتزاز، وبعضها هي صحف غير موجودة حتى لدى الحكومة"، مردفا بالقول ان "الشيء المهم الذي اكتشفته: ان مكتبات المراقد المقدسة والمساجد، ومن بينها مكتبة الخلاني، فيها مجلدات من صحافة العهد الملكي وجميعها مهملة، ولا يعرفون قيمتها، وفي اي لحظة يبتلعها واحد من الحرائق المستمرة".
وبين حسن، ان هناك الكثير ممن أرخوا للصحافة العراقية، ومن امثالهم: روفائيل بطي في كتابه "الصحافة في العراق"، وولده (فائق) الذي استكمل المسيرة في كتابه "ابي روفائيل بطي"، فضلا عن مؤلفاته الأخرى التي تشكل جوهرة الاعتماد بالدراسات العليا من الموسوعة الصحفية، وكتب كثيرة كان لهما دور ومساهمة كبيران فيها، كذلك فيصل حسون في كتابه (صحافة العراق من اعوام 1945 الى 1970)، وكذلك منير بكر التكريتي (الصحافة العراقية واتجاهاتها السياسية والاجتماعية والثقافية)".
واختتم حسن مداخلته بالقول: ان "الصحافة تؤرخ للسياسة وللثقافة وللمجتمع. ولا ننسى عبد الرزاق الحسني وكتابه (تاريخ الصحافة العراقية) الذي يعد معجما مهما"، مبينا انه "عندما يؤرخ الحزب الشيوعي العراقي او أي طرف آخر، فهو يؤرخ للمجلة والجريدة وتنسى النشرات والشعارات، بينما حتى الشعارات على الجدران جميعها تعد وسائل تعبير، وحتى اللوحات التشكيلية".
سر العلاقة الخاصة
الكاتب والصحفي، عبد المنعم الأعسم، ذكر انه من بين جميع الأسئلة التي نطرحها كل سنة بمناسبة عيد الصحافة الشيوعية، نطرح سؤالا إشكاليا، والحقيقة هو سؤال وارد ومهم، عن "سر العلاقة الخاصة والعضوية بين الحزب الشيوعي العراقي والصحافة؟". نحن الباحثين الذين نطلع على الدراسات، وأستطيع القول على مسؤوليتي ومعرفتي انه ليس هناك حزب عراقي وفي المنطقة أيضا، ارتبط تاريخه بالعلاقة بالصحافة والمطبعة.
وأوضح، ان "الرفيقات المناضلات القديمات، يعرفن كيف كانت تنقل المطابع، اية مداهمة لاي مقر للحزب او وكر، يتبادر للذهن أولا وقبل كل شيء ان نحمي المطبعة. وعندما تنتقل المطبعة الى مكان اخر آمن، يكون التنظيم آنذاك في أمان".
وقال الاعسم، ان الصحافة السرية كانت تقوم على فكرة عقيدة هذه المطبعة وتكريسها وتأمين مكانها اللائق. حتى يمكن القول ان الحزب الشيوعي ولد في مطبعة. واذا تذكرنا الرفيق فهد ـ وهو الصحفي المحترف ـ فانه قبل ان يبادر الى الانخراط بالعمل السياسي وتأسيس الحزب الشيوعي، وهذا الموضوع ينبغي دائما أن نفكر فيه، ما هو سر هذه العلاقة العضوية بين الحزب والصحافة، حيث سنجد مؤشرات مهمة، وفي طليعتها، ان مؤسس الحزب كان صحفيا، ولما نقرأ تاريخه، سنجده كان مراسلا لعدد من الصحف، وكان يحرر صحف الوطن والأهالي، وقام بزيارة بعض البلدان العربية لكتابة تقارير صحفية عن أوضاع هذه البلدان. وعندما انخرط في الشأن القيادي للحزب كانت المهمة الرئيسة عنده هي ان يبدأ تأسيس قاعدة وبنية تحتية لعقيدة الحزب الصحفية. وهنا ترجم فهد بإبداع خلاق مقولة لينين (الصحيفة هي داعية ومنظر) ولم أرَ ترجمة خلاقة لهذه المقولة، كما ترجمها فهد بشكل خلاق ومبدع".
وأوضح، ان "السرديات التي تتعلق بتاريخ الحزب، نجد طائفة من الاخبار والمفارقات عن إيلاء الحزب لدور الصحافة ومكانتها ودور المطبعة اهتماما بالغا".
وبيّن ان "الشيء الآخر الذي يدخل في سر العلاقة، ان القيادات التاريخية للحزب نجد نسبة كبيرة منهم من الصحفيين ونسبة فارقة. ولربما الكثير منهم جاء من مؤسسات صحفية، وكانوا يعملون في مجالات الصحافة والثقافة، وتبوؤا مراكز بالحزب. ومن بينهم سكرتير الحزب سلام عادل، وهو على صلة بالصحافة، فضلا عن كونه فنانا ورساما".
وأشار الاعسم الى ان "القياديين الذين شاركوا في الخلايا الأولى ومن بينهم ذنون أيوب، كان على صلة بالرفيق زكي خيري، وكان مترجما وكاتبا لامعا. والسلسلة الذهبية من القادة الشيوعيين في غالبهم احترفوا وانحدروا من عالم الصحافة. وهذا مهم في الإجابة عن سؤالنا الذي نبحث عنه: لماذا يولي الحزب الصحافة اهتماما خاصا؟".
وتابع، انه "في السجون، هناك صفحة مشرقة. وفي أقسى الظروف والقمع والسجون التي تخيّم عليها أجواء القمع والموت والتهديد والاعدامات، كان الشيوعيون يبحثون عن فرصة مهما كان هامشها من الحرية حتى يصدروا الصحف. في نقرة السلمان كنت احد محرري جريدة يومية تصدر، وفيها جيش من العاملين الذين يعملون في الليل حتى تصدر بحدود 20 نسخة يوميا، وتكون جريدة متكاملة فيها مقال افتتاحي واخبار وسياسة وثقافة وتوزع في اليوم الثاني على القاعات. ويجد السجناء كل صباح الجريدة على طاولة".
ولفت الاعسم الى انه "بموازاة هذه العقيدة الصحفية، نجد ظاهرة مهمة جدا، وهي سعي الحزب للخروج الى العلن والحصول على ترخيص للصحيفة بأي هامش مهما كان ضئيلا، ومهما كان بسيطا. وفي ذاكرتنا طائفة من الصحف، تبدأ من صحيفة الصحيفة الى الأساس والثبات و14 تموز والعصبة، وتجربة العصبة جديرة بالتوقف عندها. وكان يشرف عليها الرفيق فهد، وهي تعبر عن معاداة الصهيونية، لذا أدعو جميع الرفاق للعودة اليها، والاطلاع على محتواها".
إيصال صوت الناس
وعلى هامش مداخلات الضيوف، قال عضو المكتب السياسي للحزب وعضو لجنة الإعلام المركزي، علي صاحب، ان "مسؤولية كبيرة نتحملها نحن العاملين في إعلام الحزب، لاسيما مع الرصيد الكبير في الصحافة المكتوبة، في ظل ما يمكن وصفه بفيضان التكنولوجيا والحاجة الى العمل على هذه الفضاءات واستثمارها في إيصال صوت الناس".
وأضاف، ان "الأدوات اختلفت بالنسبة للصحافة لكن الهدف بقي نفسه، وبالتالي تنويع الأدوات ومحاولة احتلال مساحة من الإعلام الإلكتروني والرقمي بشكل يتناسب مع إمكانياتنا".
وأشار إلى انه "للأسف كل شيء في العراق تعرض للتشويه وحتى الإعلام الإلكتروني، فنحن نتحدث عن مساحة ضمن إمكانياتنا المالية المحدودة مقابل طرف يمتلك جيوشا، فنحن نستعين باشتراكاتنا من رفاقنا وببيع أدبياتنا، في وقت يدفع المقابل رواتب شهرية، وهم كذلك يمتلكون السلطة والمال والسلاح والفساد، ونحن نمتلك القلم وصدق الأهداف والشعارات".
وأوضح، ان "طريق الشعب والطريق الثقافي والثقافة الجديدة وما يصدر من مطبوعات عن المحافظات ستبقى مستمرة، مع تطويرات نجريها باستمرار على هذه المؤسسات. وعلى سبيل المثال، طريق الشعب الان تمتلك مساحة من الاعلام الالكتروني ومحتوى يخلق بالشكل الالكتروني. وهذا ضمن تفكيرنا بالعمل على الاستمرار بشكل متواز بين الطباعة الورقية والعمل الرقمي. و"طريق الشعب" الورقية مع كل هذه الظروف هي ثاني اعلى صحيفة عراقية من حيث التوزيع، بعد الصحيفة الحكومية".
وبيّن صاحب، ان "الشعور بالنسبة الى مستقبل المطبوع خلال العقد القادم، سينحسر على اقل تقدير، لهذا نعمل على تطوير بدائل على مستوى المحتوى الإلكتروني، وعلى مستوى اعلام الحزب وتفكيره، منذ العام 2010، وارتباطا بالتظاهرات وفي ما بعد، وتمهيدا لـ25 شباط، حيث كنا ننشط وندعو ونطالب من خلال السوشيال ميديا. ويمكن القول ان اليساريين والشيوعيين كانوا سباقين في النشاط على مواقع وصفحات التواصل الاجتماعي، واغلبنا كنا نخوض نقاشات هائلة بإمكانات محدودة في ذلك الوقت".
ولفت الى انه "أدركنا مبكرا أهمية وجودنا في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث قمنا بتحفيز جميع رفاقنا على امتلاك صفحات وحسابات على هذه المنصات، كي يتولون مهمة نقل أهدافنا وتصوراتنا. وهذا نوع من اللامركزية في الإعلام، اجبرتنا عليه وسائل التواصل الاجتماعي".
وخلص الى القول: ان "هذه المنصات، نفسها، أصبحت مصدرا لنا لفهم حاجات الناس وطريقة تفكيرها، وهي جزء من تقاليد نعمل عليها في السابق عن طريق المكاتب الصحفية، لكن الان الأدوات والمساحات اختلفت".
*******************************************
كلمة الحزب الشيوعي العراقي في الذكرى
الرفيقات والرفاق، الصحفيات والصحفيين، الأصدقاء والحضور الكريم،
نحييكم باسم الحزب الشيوعي العراقي، وباسم لجنة الإعلام المركزي، تحية حمراء مغمّسة بالحبر السرّي، وممهورة ببصمات أولئك الذين كتبوا الحقيقة وهم يطوونها بين أضلاعهم خوفاً من الرقابة، وحباً للناس.
نلتقي اليوم، لا لنحتفي بالماضي، بل لنواصل ما لم ينقطع: تسعون عاما من الحبر المقاوم للصحافة الشيوعية في العراق. لم تكن يوماً أداة محايدة، بل أداة صراع، وموقفاً منحازاً للطبقات المهمشة من شغيلة الفكر واليد.
منذ تموز 1935، يوم صدرت "كفاح الشعب" ، كانت الكلمة الحمراء أوّل صوت يقضّ الصمت في ليل الاستعمار. لم تكن تلك الصحيفة صفحةً مطبوعة، بل شرارة نضالية تنظيمية، و رفيقاً في الجبل وأداة مقاومة في الزنزانة.
لقد تلتها "الشرارة" ، و "القاعدة" ، و "الى الأمام" ، و "اتحاد الشعب" ، وصولاً إلى "طريق الشعب" ، لتشكل ذاكرة الحزب والوطن، ومدرسة تصوغ الوعي، وتربط النظرية بالممارسة والكفاح اليومي، لتواجه الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة، وتفضح التبعية.
صحافتنا لم تكن ترفاً، ولا رفاهاً مؤسساتياً، بل مخاطرة وجودية. لم تمر يوماً عبر بوابات التمويل السلطوي، بل عبر المطابع السرية، والمنافي، والمعتقلات، وتحت الرصاص.
في زمن يُشترى فيه الموقف ويُسوَّق للحياد الكاذب، تحتل صحافتنا الشيوعية موقعاً أخلاقياً وجمالياً نادراً. لا تبرّر الخراب، ولا تهادن. ولهذا تصطدم اليوم، كما الأمس، بجدران السلطة الفاسدة، وبنادق السلاح المنفلت، ودهاليز المال السياسي.
أن تكون صحفياً شيوعياً اليوم، يعني أن تكتب ضد هذا التيار، أن تفتّش عن الحقيقة بين الركام، وتفكك لغة السلطة بناء على ما يعانيه الناس، من الفقر والبطالة والحرمان. أن تكتب "الفساد" لا بوصفه خللاً إدارياً، بل بوصفه بنيةً طبقية، وأن تقول "الاستغلال" حيث يقول غيرك "أزمة سوق العمل".
لقد كانت صحافتنا ميداناً لصقل الكوادر، واختبار حي للانضباط. كل افتتاحية كانت خارطة طريق لنضال يتجاوز اللحظة، وكل مقال لبنة في بناء الموقف، وكل عمود أداة تحليل تغوص في بنية الحدث الطبقية والسياسية. ولهذا، ظلّت جسراً بين الفكر والتحريض ضد المنظومات الرجعية، والردة النيوليبرالية.
التنوير في مشروع صحافتنا لم يكن ترفاً معرفياً، بل مواجهة للجهل المصنّع، والإعلام المضلل. ومنذ لحظتها الأولى، حملت مهمّة مزدوجة: أن تكون صوتاً للطبقة العاملة، ومنصة لإنتاج وعي مقاوم. التنوير هنا ليس بديلاً عن النضال، بل امتداده الثقافي. لم تحول الماركسية إلى دعاية جامدة، بل أبقتها ديالكتيكاً حياً، يُصارع الواقع، يطرح الأسئلة، ويربط الفلسفة بالعدالة والمساواة، والأدب والفن بالمجتمع.
ولا بد من استحضار العلاقة العضوية بين الصحافة والذاكرة السياسية. فقد كانت صحافتنا وما زالت أرشيفاً حياً لنضالات حزبنا والجماهير. سجلت المجازر، والملاحقات، والانتصارات، والانكسارات، ورافقت المنعطفات الكبرى لليسار العراقي، كمحطات تحليل وتقييم ومراجعة.
إن موقع صحافتنا في خارطة الصحافة العراقية كان دوماً في الطليعة: في مواجهة الاستبداد، وربط النضال الوطني بالاجتماعي، والدفاع عن حرية التعبير والعدالة. أثّرت في الصحافة الوطنية التقدمية، وكانت رافعة فكرية لصحفيين كثر تجاوزوا حدود الحزب ونهلوا من مدرسته.
كما أنها، منذ بداياتها، لم تكن صوتاً معزولاً، بل حاضرة في النبض الأممي: تضامنت مع حركات التحرر، وواكبت نضالات الشعوب من موقع الانحياز الطبقي. ولأنها أممية المعنى، ظلت تُقمع محلياً.
لا يمكن الحديث عن تاريخ الصحافة الشيوعية دون التوقف عند حضور نسائها. فمنذ بدايات النشر السرّي، كان للشيوعيات دورٌ كبير، إيماناً بأن العدالة لا تكتمل دون صوت النساء في نقد النظام القائم على التمييز والعنف والقهر الطبقي والأبوي معاً.
نشهد اليوم جيلاً جديداً من الكاتبات والكتاب الشيوعيين، لا يملكون مطابع سرّية، لكنهم يخوضون معركة الكلمة في فضاءات رقمية محاصَرة، تضيق بالتحليل الطبقي. هم امتداد لأولئك الذين كتبوا من المعتقل، وتحت الرصاص. فرق الأدوات لا يُلغي وحدة المهمة: تفكيك خطاب السلطة، وتحرير المفردة من الاستلاب والانهيار المعرفي.
أيها الحضور الكريم
لا يمكن الحديث عن تاريخ صحافتنا دون الانحناء أمام من دفعوا أعمارهم ثمناً للحقيقة، شهداء الكلمة، شهيدات النشر السري. لم تكن صحافتنا يوماً فعلاً تنظيمياً فحسب، بل مخاطرة وجودية خاضها رفاق أطفأتهم الرصاصات أو بددتهم المنافي. هؤلاء مفخرة للصحافة العراقية والضمير الإنساني الحي.
ذكرى التسعين عاماً لميلاد الصحافة الشيوعية، هي مناسبة لتجديد العهد بأن تبقى "طريق الشعب" جبهة دائمة ضد الهيمنة والاستغلال، وسلاح في يد من لا يملكون سوى وعيهم. وكل من يكتب فيها اليوم، إنما يردّ الدَّيْن لتاريخ كُتب بحبرٍ لا يجفّ: حبر النضال والتنوير.
فلنكتب كما نناضل: بصلابة، وصدق، وانحياز بلا تردد.
هكذا نحفظ جذوة المسار، شعلة لا تُساوَم.
عاش نضالُ صحافتِنا الشيوعيةِ: جبهةُ وعي، وشُعلةٌ لا تَخْبُو.
***********************************************
الصفحة السادسة
أيقونة التنوير
إبراهيم إسماعيل
مضى نصف قرن على لقائي الأول بالجريدة. يومها كتبت مادة علمية عن شجرة الزيتون، واجتهدت في ترميز العلاقة بين فوائدها الصحية وبين اختيار أغصانها رمزًا للسلام، فرشّحني رفاقي لأمثّلهم في مكتب صحفي ناشط، من بين عشرات المكاتب التي أنشأها الحزب لرفد صحافته ودعمها، في تجربةٍ بقيت رائدة وفريدة حتى اليوم.
ذهبت إلى الموعد مرتبكًا، مثقلاً بالدهشة، حتى من أنوار شارع السعدون الذي اعتدنا التسكع على أرصفته. حكمة الرجل الذي رحّب بنا ودفء استقباله، حوّلا نصائحه إلى قصيدة حُفِظت في القلب، فبدّدت القلق وخشية التساؤل والشك، وعلّمتني وفاء التلمذة لمدرسة ظلّت شامخة رغم الجراح وحرائق الطغاة وجور المستبدين، ونسجت آصرة محبة نابضة في القلب، وغمرَت الوعي بندى المعارف، وغرست فيه توقًا للمزيد.
ورغم مرور السنين، وتعدّد أمكنة اللقاء، في بغداد والمنفى وكردستان، واختلاف أشكال العلاقة، من قارئ إلى مراسل ومحرّر، ما زلت أفضّل أن أقرأ صحافة الحزب لوحدي، جذِلاً برهبة اللقاء بالحبيبة، متأنيًا في التصفّح حتى يتمتع الذهن بكل ما تقدّمه من معرفة، وحتى أمنح العين طمأنينة التيقّن من عدم تسرب خطأ أو شائبة إلى متونها.
وكم كانت دهشتي كبيرة حين علمت أن هذا الشكل من العلاقة لا يقتصر عليّ وحدي كما كنت أظن؛ فالمئات من قرّاء صحافة الحزب الشيوعي العراقي، لهم وجدُ العشق ذاته، مذ كانت سريّة، يُدسّها مناضلٌ في يد آخر، فيتجلّى عبقُ شذاها بعيدًا عن عَسَس الطغاة، وحتى حينما صدرت علناً.
ودفعتني الدهشة إلى البحث عن سرّ ذلك، فوجدت أن الكثيرين لا يرَون أنفسهم مجرد قرّاء، بل يحتفظون بحقّ ملكيّة الصحيفة التي امتلكت قلوبهم وأنارت عقولهم، مذ لم تتوانَ عن تبنّي جميع مطامحهم العادلة وحتى همومهم الصغيرة، وكشفت لهم عن سُبل التمييز بين الحقيقة وبين الجهل والخرافة، ومذ أبصروا في صفحاتها جوهر الحرية، وشكل العدالة الاجتماعية، ومفهوم الولاء الحقّ للوطن، وحصّنتهم ضد مرض يفقد البشر بسببه إنسانيّتهم، ويجعلهم يستغلّون الآخرين ولا يعترفون بآدميّة النساء، فيستعبدهم الجشع وتكّبلهم الأنانية.
ولأنّها تفوّقت في التعبير عن الوحدة الجدليّة بين الوطنية والديمقراطية، وبين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، تسلّلت برشاقة إلى عقول الناس وقلوبهم؛ فلا ديمقراطية من دون تحقيق مصالح الناس، السياسية منها والاقتصادية والثقافية، ولا وطنية من دون الخلاص من الأحادية السياسية المستبدة، وتطوير البنية الثقافية التي تُسهم في التأسيس لمجتمع ديمقراطي.
كما بقيت هذه الصحافة نابضة في ضمير العراقيين لأنها أقنعتهم بسياسات ذات عقل وقلب؛ فمفاهيم الدولة المدنية الحديثة التي دافعت عنها وما زالت، تعني منع انفراد معتقدٍ ما بالسيطرة على الدولة، وضمان حرية العقيدة، وعدم التقاطع مع الدين، الذي هو في جوهره نزوعٌ إلى العدالة، وتأصيلٌ قيم الشفافية والمساءلة والتماسك الاجتماعي، والدفاع عن مصالح الطبقات والفئات التي تشكّل قاعدة الهرم الطبقي، ووضع البرامج التنموية التي تُبقي القرار الاقتصادي مستقلًّا، ومكافحة الفساد المالي بوصفه عائقًا أساسيًا أمام الديمقراطية؛ يُضعف ثقة المواطن بالدولة، ويجعله فريسة للقلق والخوف وتدني الشعور بالمسؤولية.
في العيد، سألت الذكاء الاصطناعي عن أسماء المثقفين الذين ساهموا في الصحافة الشيوعية العراقية على مدى العقود التسعة الماضية، فذكر لي أسماء 376 مبدعًا عراقيًّا من الشعراء والروائيين والمفكرين والكُتّاب والفنانين، واختتم القائمة بالاعتذار عن عدم قدرته على ذكر الجميع، وعن وجود عشرات آخرين كتبوا ونشروا بأسماء مستعارة، تجنّبًا لمخالب الجلادين.
وفيما تملكتني مشاعر الفخر والاعتزاز بذلك، وجدت في استقطاب هذه الصحافة لخيرة الصحفيين والكُتّاب، ثمرة طبيعية لما مثّلته من مشروع نهضويّ تنويري، ومن قوّة تغيير ثقافية وأخلاقية، قاتلت كلّ أشكال التخلّف، ودافعت عن الهوية الوطنية الجامعة، واعتمدت لغةً ومضامينَ متسقة مع تطلّعات القراء، وتناغمت مع الدور النقدي للمبدع وحاجته إلى إماطة الحُجُب عن آفاقٍ فكرية جديدة تستنهض المجتمع ليلتحق بركب التقدم، فجسّرت بذلك العلاقة مع كل المثقفين المعنيّين بالمعرفة والمستقبل، وساهمت في نقلهم من واقع السلبية إلى فِعلٍ مشادٍ على العقل.
وإذ تغمرني اليوم الفرحة بالعيد التسعين، لا يسعني الاّ أن أتقدّم إلى كل من عمل ويعمل في هذه الصحافة الباسلة، ورقيّة كانت أم إلكترونية، بأصدق الأماني بالنجاح وتواصل التفوّق، وأَنحني إجلالًا لشهدائها الأبرار، وأقول: شكرًا، على كل ما تعلّمته في مدرستها العتيدة.
**************************************
الصحافة الماركسية والارتقاء بالدور الوطني للصحافة العراقية
د. فاخر جاسم
فتح تأسيس الصحافة الماركسية، آفاقا جديدة ادت إلى تطوير دور الإعلام، فأصبح يعبر عن مصالح المواطنين وهمومهم الحياتية وحاجاتهم الاجتماعية والثقافية وطموحاتهم السياسية، بعد أن كانت الصحف الوطنية منشغلة بالتعبير عن مصالح النخب المتنفذة والعوائل السياسية وصراعاتها من أجل السلطة، وقليلة الاهتمام بالجماهير ونضالها المطلبي. وبغية تحقيق ذلك، اعتمدت الصحافة الماركسية منذ تأسيسها أسلوب النقد والمعارضة الدائمة لسياسة السلطات المعادية لمصالح أغلبية المواطنين. وقد انتهجت لهذا الغرض أساليب متنوعة منها: ـ
- توعية المواطنين من مختلف الفئات الاجتماعية بحقوقها وأهمية النشاط من اجل تحقيقها.
- التعريف بالنشاطات الاحتجاجية التي يقوم بها المواطنون للضغط على السلطات الحاكمة لتلبية حقوقهم، وخاصة تغطية نشاطات منظمات المجتمع المدني، كالنقابات والمنظمات المهنية.
- دعوة المواطنين لتنظيم أنفسهم في نقابات وجمعيات للدفاع عن حقوقهم، ومطالبة السلطات الحاكمة بتلبية مطالب الشعب في حرية التعبير والرأي والعقيدة وتكوين الأحزاب الوطنية.
- نشرت الوعي الديمقراطي الثوري وفضحت عيوب الديمقراطية الليبرالية وكيف أن ممارستها تقتصر على النخب الحاكمة وأعوانها وتحرم عامة المواطنين من ممارسة حقهم في الوصول إلى البرلمان الذي نص عليه القانون الأساسي/ الدستور الصادر عام 1925.
- التأكيد على وحدة قوميات الشعب العراقي والدفاع الجريء عن الحقوق المشروعة للقومية الكردية والدعوة لتعزيز النضال المشترك للقوى الوطنية.
- التحريض ضد التدخل البريطاني في شؤون العراق الداخلية الذي اتخذ شكلاً جديداً، بعد إعلان الاستقلال الشكلي للعراق عام 1930.
- النضال من أجل وحدة الشعوب العربية من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية، والتحذير من مخاطر الصهيونية على حقوق الشعب الفلسطيني، وقد برزت بهذا المجال، جريدة "العصبة"، لسان حال "عصبة مكافحة الصهيونية " التي اسسها عدد من الماركسيين العراقيين في عام 1946.
- الكتابة بأسلوب ولغة مفهومة عن هموم المواطنين ورؤية الحزب الشيوعي لتحقيقها.
وقد مثلت كتابات قادة الحزب في تلك الفترة، يوسف سلمان يوسف، فهد، و حسين محمد الشبيبي، نموذجاً جديدا في الكتابة الصحفية، التي تمزج بين الفكر والرؤية الصحفية واللغة السلسة في تناول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد كان الرفيق فهد، مدرسة في العمل الصحفي الوطني بأسلوبه البسيط ولغته التي كانت تتضمن الكثير من الأمثلة الشعبية، القريبة من وعي الناس وهمومهم، والتي غالباً ما تكون خالية من العبارات والمفاهيم النظرية المجردة، وتميزت بقوة الحجة والاقناع، لذلك تركت كتاباته أثرا تحريضياً وتنويراً، ليس في أوساط أعضاء الحزب وأصدقائه، بل بين عموم المواطنين، خاصة الكادحين منهم. وهنا أشير إلى نموذج من كتاباته عن العلاقة بين الصهيونية والفاشية حيث يقول: الفاشية بذرت الكره العنصري ونشرت الخوف والفوضى في أنحاء المعمورة وورطت شعوبها وأولعت بهم نيران حرب عالمية لم تتخلص أمة من الأمم من شرورها. والصهيونية، بذرت الكره العنصري ونشرت الخوف والفتن والإرهاب في البلاد العربية وغررت بمئات الألوف من أبناء قومها وجاءت تحرقهم على مذابح أطماعها.. وكان من نتائج أعمالها المجرمة أن حولت فلسطيننا العزيزة إلى جحيم لا ينطفئ سعيره ولا تجف فيه الدماء" (كتابات الرفيق فهد ص 1).
إجمالاً، كانت الصحافة الشيوعية، منبرا مهما، في التوعية الاجتماعية والعمل التنويري ضد الجهل والخرافة، ومعلماً بارزا في الدفاع عن مصالح المواطنين وخاصة العمال والفلاحين والفئات الفقيرة والمهمشة.
إن هذا النهج الذي اختطته الصحافة الماركسية، بعد ظهور صحيفة كفاح الشعب في تموز 1935، ليس جديدا في النشاط الصحفي العراقي، مارسته بشكل خاص صحيفة الاهالي، التي صدرت عن جماعة الأهالي، والذي لم تكن بعيدة عن تأثيرات العناصر الماركسية الذين عملوا فيها مثل، عبد القادر إسماعيل البستاني وعبد الفتاح إبراهيم، لكنه أصبح أكثر جذرية ووضوحاً، بعد ظهور كفاح الشعب وما تلاها من الصحف الماركسية السرية. لقد ترك نهج الصحافة الماركسية في معالجة قضايا المواطنين، تأثيراً كبيراً بالغ الأهمية، على الصحافة الوطنية العراقية، التي كثيراً ما كان يجري تعطيلها، ليس بسبب نهجها المعارض فقط، بل لاتهامها بكونها صحافة يسارية شيوعية، بمجرد توجيهها النقد لسياسة السلطات الحاكمة. (مظفر عبد الله الأمين، جماعة الأهالي: منشؤها، عقيدتها ودورها في السياسة العراقية 1932ـ 1944، ص 160).
دور الصحافة الشيوعية خلال فترات النشاط العلني
بعد ثورة 14 تموز 1958 تمتعت الصحافة العراقية بحريات واسعة، ولعبت أدواراً متباينة عندما احتدم وخلال العام الأول، الصراع بين قوى الثورة، العسكرية والمدنية، حول المهام التي تواجه السلطة الجديدة، حيث ظهر اتجاهان، الأول، يريد حصر الثورة في الإطار البرجوازي الضيق، والثاني، يدفع باتجاه تطوير الثورة إلى ثورة وطنية ديمقراطية تستجيب إلى مصالح العمال والفلاحين والكادحين والفئات المثقفة والبرجوازية الوطنية. ويطالب هذا الاتجاه، بتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية والسيطرة على الثروة النفطية، لتوفير الأسس المادية للعدالة الاجتماعية، وتحقيق الاستقلال الوطني والخروج من حلف بغداد، وتوسيع الحريات الديمقراطية وما تتضمنه من حرية تشكيل الاحزاب والمنظمات الاجتماعية والمهنية وضمان حرية التعبير والنشر والتظاهر وحرية الصحافة الوطنية، وتحقيق الوحدة العربية على أسس ديمقراطية، تعزز التضامن والعمل المشترك بين الشعوب العربية وليس اتحاداً بين الحكومات، والاستجابة للحقوق المشروعة للقومية الكردية.
لقد انعكس الصراع بين الاتجاهين السابقين على الصحافة الوطنية، فوقفت الصحافة اليسارية كاتحاد الشعب وغيرها، مع تطوير سلطة الثورة إلى سلطة وطنية ديمقراطية، أما الصحافة القومية واليمينية، فوقفت موقفاً مضاداً. وساهم الصراع السياسي والتعصب الفكري حول القضايا القومية (الوحدة العربية والقومية الكردية) في القطيعة بين التيارين الماركسي والقومي، الأمر الذي أدى إلى إعاقة التطور الديمقراطي وانفراد كبار العسكريين بالسلطة.
وبالعودة إلى الصدور العلني للصحافة الشيوعية، اتحاد الشعب، والفكر الجديد وطريق الشعب خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، نلاحظ ظهور أشكال جديدة من النشاط الصحفي، أدى إلى الارتقاء بطبيعة العمل الصحفي، وشكل اضافة نوعية للصحافة الوطنية العراقية، أشير إلى أبرز معالمها بالنقاط التالية: ـ
- من أجل تطوير عملها الصحفي، في التوعية والتحريض، أضافت الصحافة الماركسية، تقليدا جديدا في العمل الصحفي، تمثل بظهور صفحات تخصصية أسبوعية، تتناول شؤون العمال والفلاحين، والمرأة والطلبة والشباب والتربية والتعليم وغيرها من أبواب المتابعة الصحفية.
- اهتمت بمواهب الصحفيين الشباب من خلال نشر كتاباتهم، واشراكهم في دورات التدريب الصحفي لتعزيز مهاراتهم المهنية. وقد أدت هذه التجربة إلى رفد الصحافة العراقية بصحفيين شباب بمختلف الاختصاصات.
- من الظواهر الجديدة التي ميزت الصحافة الماركسية كتابات، السخرية السياسية، ذات الطابع التحريضي ضد سياسة السلطات الحاكمة، ونال هذا الفن الصحفي شهرة واسعة بين القراء حيث تناول معاناة المواطنين وهمومهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بأسلوب نقدي تهكمي ساخر. وبرز بهذا النوع من الكتابة الصحفية، شهيد الصحافة الوطنية أبو سعيد ـ عبد الجبار وهبي، بعموده اليومي" كلمة اليوم" في صحيفة اتحاد الشعب العلنية، الذي يعتبر من أحسن النماذج الصحفية في تاريخ الصحافة العراقية المتخصصة بفن المقال القصير المكثف، حسب تقييم عميد الصحافة العراقية فائق بطي (الموسوعة الصحفية العراقية ص 321). وكذلك الراحل شمران الياسري - أبو كاطع ـ الذي لم تحتمل سلطات البعث الحاكمة عموده الشهير " بصراحة أبو كاطع" والذي كان ينشره في صحيفة طريق الشعب، فهددت بإغلاقها في حالة عدم توقفه عن النشر.
- نجحت في تجربة المكاتب الصحفية المتخصصة، التي تقوم بإعداد المقالات الصحفية لأبواب الصحيفة الأسبوعية المتخصصة.
- ظهور شكل جديد من الفن الصحفي يتعلق بالروبورتاج الصحفي والمقابلات الصحفية المفتوحة مع عامة المواطنين، اضافة إلى الاستفتاءات الصحفية.
- استقطبت الصحافة الماركسية العلنية، أعدادا كبيرة من المبدعين العراقيين في مجالات الثقافة والأدب والفنون والسياسة والعلوم المختلفة، الذين أغنوا العمل الصحفي وساهمت مقالاتهم في تقريب الصحافة من المواطنين.
خلاصة
أولاً، إن الصحافة الوطنية المستقلة، رغم دعوتها للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والاستقلال والسيادة الوطنية، إلا أنها لم تتبن قضايا العمال والفلاحين والفئات الكادحة والفقيرة، لأنها تعبر عن وجهات نظر البرجوازية الوطنية الاصلاحية التي تحافظ على مصالح الفئات الغنية المالكة لوسائل الانتاج، كبار الرأسماليين والتجار ومالكي الأراضي، بينما كان هدف الصحافة الماركسية، التغيير الجذري، الذي يؤدي إلى العدالة الاجتماعية والمساواة وتلبية مصالح أغلبية المواطنين.
ثانياً، إن الآراء التي كانت تطرحها الصحافة الماركسية السرية والعلنية، كثيراً ما ينسحب على الصحف الوطنية المستقلة غير المرتبطة بالسلطات الحاكمة، والتي غالباً ما كانت تتعرض للتعطيل بسبب مواقفها السياسية المعارضة لنهج السلطات الحاكمة.
ثالثا، رفعت الصحافة الماركسية، لواء حرية التعبير والنشر وحق المواطنين في حرية تأسيس الأحزاب والمنظمات المهنية والاجتماعية. كما أعطت أهمية للدفاع عن حرية الصحافة واحترام حقوق الصحفيين وفضح ممارسات السلطات ضدهم والدفاع عنهم عند تعرضهم لاضطهاد وإرهاب السلطات.
رابعاً، لعبت الصحافة الماركسية السرية للحزب الشيوعي العراقي، خاصة خلال العهد الملكي، دورا مهما في التوعية والتحريض ضد ممارسات السلطات المعادية لمصالح الشعب، وكذلك الدعوة للاستقلال والسيادة الوطنية والتضامن المشترك بين الشعوب العربية ونصرة القضية الفلسطينية.
خامساً، من سمات الصحافة الماركسية، التمسك بأخلاقيات العمل الصحفي واحترام الأعراف الاجتماعية والتقاليد الوطنية وخصوصية المواطنين والابتعاد عن الاشاعات المضللة.
واخيراً، ورغم ان صحيفة "كفاح الشعب" وغيرها من الصحف الماركسية، كانت في أغلب الأوقات سرية، إلا انها كانت تشكل حالة خوف وقلق دائم للسلطات الحاكمة، لما تنشره من موضوعات تحريضية ضد سياساتها المعادية لمصالح الشعب.
في الختام، شارك في تحرير الصحافة الماركسية الآلاف من الصحفيين الوطنيين، واستشهد المئات منهم وتعرض كثيرون للاضطهاد والاعتقال والسجن والنفي. وبمناسبة الذكرى التسعينية للصحافة الماركسية نوجه تحية وتقدير لجهود الأحياء منهم والذكر العطر للراحلين، والمجد والخلود للشهداء.
******************************************
الصفحة السابعة
ماذا يعني أن تكون هناك صحيفة شيوعية في العراق؟
فيصل لعيبي
العراق، بلد يضم بين جوانحه خمس حضارات، لعبت دوراً محوريا في تاريخ البشرية، بلد تكمن فيه تجارب لا تحصى في الكفاح من أجل التقدم والسير للأمام. معظم ما نراه اليوم يكاد يصَرِّح بعائديته لبلاد ما بين النهرين أو أن جذوره تمتد في تربته الثرية المليئة بالمبتكرات والإنجازات الملفتة للانتباه والتعجب.
تعداد المعاجز العراقية ليس مناسبا في هذه المقالة المخصصة لواحدة منها، ألا وهي الصحافة الشيوعية في العراق المتعدد الأعراق والمذاهب والأديان والفرق والشعائر.
عندما كان القرن العشرون يتهيأ للدخول تاركاً القرن التاسع عشر خلفه، كان العراق ومدنه المهمة مثل بغداد والبصرة والموصل وهن الولايات التي يتكون منها آنذاك، عبارة عن بلدات صغيرة ومتواضعة الإمكانيات، يتفشى فيها المرض والجهل والفقر المدقع وكثير من الناس يموت جوعاً، لا رعاية ولا اهتمام من السلطنة العثمانية التي كانت تعاني وقتها من فقدان هيبتها وقوتها ودورها المؤثر في الأحداث العالمية وتداري تدهورها المتسارع وتفكك سلطتها المترامية الأطراف. فإنتاج العراق الأساسي قبل إكتشاف البترول، هو إنتاج زراعي تجاري ورعوي بالدرجة الأولى، والصناعة حينها لا تتعدى ما تتطلبه السلطات العثمانية من احتياجات ولا تدخل ضمن مشروع متكامل يضم برنامج للتطوير والتقدم أو يمكن التعويل عليه لبناء بلد قادر على تسيير نفسه. ومع إنتهاء العقد الأول من القرن العشرين، بدأت المشاعر الوطنية تدخل دواوين البيوتات المتنفذة والفئات المتعلمة، فقد وصلت رياح التغيير وقسم من مباديء الثورة الفرنسية تغلغلت ضمن الأحاديث والكتابات أو القراءات. ومن جهات مختلفة ومتنوعة، من الشرق والغرب ومن الشخصيات الأجنبية والرحالة والمستشرقين والجواسيس والعاملين في القنصليات الأجنبية والصحافة والحوادث التي يصل صداها لنا، كما بدأت تأتينا الترجمات والدراسات المعنية بالقضية القومية والوطنية وتنتشر الأفكار التحررية والتقدمية كذلك.
وعند إكتمال العقد الثاني كان العراقيون قد تعرفوا من خلال أحداث الحرب العالمية على طيف واسع من الأفكار والمعتقدات. ورغم أن الطابع العام للتركيب الإجتماعي هو تركيب ريفي وزراعي إلى جانب بعض النشاط التجاري المحدود نسبياً فقد تبلور من خلال بعض الشخصيات والتجمعات وعياً أبعد من الرابط القومي والديني والمذهبي أو القبلي والعشائري، يمكن نعته بالوعي الوطني.
كانت أخبار ثورة أكتوبر في روسيا القيصرية قد وصلت إلى العراق وتفاعل معها حتى رجال الدين في النجف، ولما قامت ثورة العشرين كانت رسالة ثورة أكتوبر للثوار واضحة وهي الانعتاق من الاحتلال البريطاني الذي حل محل الاحتلال العثماني السابق. ولعب العديد من الشخصيات العراقية التي أطلعت على أدبيات ثورة أكتوبر وخاصة بعد فضحها لاتفاقية (سايكس – بيكو) التي قسمت الشرق العربي بين الفرنسيين والبريطانيين وبعد خذلان الحلفاء للشريف الحسين بن علي شريف مكة ولأولاده الذين تعاونوا مع البريطانيين لمحاربة الدولة العثمانية والتخلص من هيمنتها.
كان المجتمع العراقي وقتها ويتبع الكثير من المفاهيم الدينية إضافة للشعوذة والخزعبلات والأوهام والخرافات وتحدده القيم العشائرية والتقاليد القبلية والأعراف البدوية أضف إلى ذلك التعدد العرقي والديني والثقافي واللساني، وعندما فكر مجموعة من المثقفين العراقيين في إصدار مطبوع ماركسي، يدعو للنهوض ويناقش الأمور من زاوية جديدة وضمن منهج علمي وواقعي ملموس، كانت كل هذه المعوقات أمامهم. هذا لا يعني أن العراق كان عارياً تماما من بقية الأفكار الحديثة ذات الطابع البرجوازي بالذات. لكن أن تصدر صحيفة تتناول المواضيع والمشاكل الاجتماعية بمنظار طبقي وثوري، فإن هذا قد بدا وكأنه تفكير خارج الصندوق وغير مألوف وليس في أوانه.
كانت مجلة (الصحيفة)، التي أصدرها المحامي الأستاذ حسين الرحّال خريج ألمانيا وأحد شهود جمهورية فايمار عام 1919 ومصطفى على ومحمود أحمد السيد القاص المتنور ونجل رجل الدين أحمد السيد خطيب جامع الحيدرخانه، حيث كانت تقام فيه الاجتماعات السياسية والخطب الحماسية وتلقى فيه القصائد الوطنية للشعراء المطالبة بالحرية والانعتاق وتنطلق منه المظاهرات السياسية المطالبة بالاستقلال. هي المجلة الثورية او الشرارة الأولى التي رسخت القيم والأفكار اليسارية في التربة العراقية العطشى لكل ما هو جديد وثوري وتحرري. ولكنها لم تستمر مع أنها وسعت دائرة المثقفين الذين بدأوا بدراسة المعارف الماركسية وتطبيقها على ما يجري في المجتمع العراقي. فأصبحت المفاهيم والنعوت والألقاب التي ولدت في اوربا ومن خلال التناقضات هناك، تجد لها صدى لدينا، وتم توصيف الطبقات التي كانت ملامحها هلامية عندنا وغير واضحة المعالم، تتخذ أوصافا لا تناسبها، لكنها محاولة لرسم خارطة طريق لما يجب ان يكون عليه المجتمع العراقي بعد أن ادخلت بريطانيا له تقاليد ومفاهيم الدولة البرجوازية وربطت إقتصاده بالإقتصاد الرأسمالي.
لم تك لدينا طبقة عمال بالمعني البروليتاري الذي حدده ماركس وإنكلز في البيان الشيوعي وكتاباتهما اللاحقة، فالعامل العراقي هو خلطة من الفلاح والعشائري والحرفي، وكذلك الإقطاعي الذي تحول إلى مالك للأرض وتخلى عن مشيخته التي تمنحه سلطة معنوية أكثر منها مادية وبهذا انفصل عن عشيرته وبدأ يتردد على المدن ويتخلق بأخلاق ابنائها مع أن مدننا أيضا هي بلدات لم تصل بعد إلى مفهوم المدينة الكلاسيكي في الغرب. وهذا ينطبق على أغنياء هذه البلدات وتجارها، فلم يكونوا برجوازيين مثل ما هو الحال في أوربا، فهم عبارة عن تركيب مشوه من الأفندي والحرفي والتاجرو الشيخ الذي يمارس التجارة بطرق بدائية متخلفة، قياسا للتاجر الرأسمالي او البرجوازي الغربي.
كان كل شيء في العراق يسير وفق هذه العملية التي تمزج مختلف القيم والتقاليد والعادات والمفاهيم العلمية مع القيم الدينية و المثالية مع الواقعية والصراع فيما بينها في صعود ونزول وغير مستقر.
هل كان العراق آنذاك في حاجة إلى صحيفة ثورية ذات توجه ماركسي ومفاهيم مادية – علمية، بدلا من المفاهيم التي تجمعت داخل عقول الناس عموماً؟
بالنسبة لي، فالجواب هو نعم، لأن العراق وقتها كان يقف على منعطف خطر، قد يدفعه للخلف او يجعله يرتمي في أحضان المستعمر، فلم تكن الأفكار المطروحة آنذاك مقنعة ولا ناجعة للخروج من التخلف الذي تركته السلطنة العثمانية ولم يكن المستعمر معنيا بتطوير العراق إلا بما يساعده على تنفيذ خططه الخاصة به وليس بما يتعلق بحاجات الناس والبلاد نفسها. لكن تأسيس الحكم المحلي أو الوطني، يعتبر خطوة إلى الأمام والتي أُجْبِرَتْ بريطانيا عليها بسبب إندلاع ثورة العشرين في 30 حزيران من عام 1920، إلاّ ان الحكم لم يكن بيد العراقيين ولم يلب مطالب العديد من الشخصيات المؤثرة والتي طالبت بالجمهورية وليس الملكية، ورغم إنتهازية العديد منهم، لكن مطالبهم كانت مشروعة، ولم يتم اختيار الحاكم من أهل البلاد وعراقياً بل واحداً من أبناء الشريف حسين بن علي، كترضية له، بعد أن نكثوا بوعدهم بقيام دولة عربية تضم كامل الأرض التي كانت بحوزة السلطنة العثمانية آنذاك. لهذا فلم تكن الأهداف الأولى لثورة العشرين ولا أهداف ثورة الشريف حسين بن على قد تحققت، وبعد ان تم التفاهم مع معظم البيوتات العراقية المتنفذة والتي لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة وإشراكهم في الحكومات المتعاقبة، فلم تعد الشعارات التي رفعوها سابقا، ضمن اهتمامات الفئة الحاكمة والمسيطرة على أمور البلد فصار اهتمامها هو توثيق العلاقة من المحتل الجديد.
مع تقدم الحياة وسيرها حتى البطيء في هذا الجزء من العالم، بدأت تتشكل نواتات لظهور ملامح تقترب من ولادة طبقة جديدة لم يعهدها العراق سابقاً وخاصة في المؤسست الصناعية الكبرى، مثل الموانئ وسكك الحديد والمطارات وشركة الكهرباء والمصانع الصغيرة وبعض الحرف، التي أخذت تنتج منتجات أخرى يحتاجها المحتل والفئات المتنفذة الناشئة حديثاً.
لكن الأفكار الاشتراكية ومفاهيم الحرية والعدالة بدأت تتسرب إلى صفوف تلك التجمعات وبدأ النشاط النقابي بالظهور وحدث أكثر من إضراب ومظاهرة وإحتجاج.
أحيانا أقف مندهشاً ومستغرباً لتلك العقول العراقية التي غامرت وقررت ان تنشيء حركة ثورية بمقياس حزب عمالي ثوري، يتبنى الفكر الماركسي ويؤمن بالمفاهيم اللينينية في التنظيم في مجتمع مثل مجتمعنا ذاك. أي خيال وأي طموح دفعهم لذلك؟؟ ام ان الواقع أجبرهم على سلوك هذا الدرب بعد ان تبخرت كل الوعود من شعار " جئنا محررين لا فاتحين " الذي أطلقه الجنرال مود عند دخوله بغداد. وسؤال آخر يلح علي أيضاً هل كل هؤلاء الفتية كانوا يعرفون وعلى إطلاع مناسب للقيام بمثل هذه المهمة؟ أم انه حماس وعواطف ومزاج وطني، وغضب لما أصاب البلد من خراب فُرِضَ عليهم؟ وهناك سؤال أكثر إلحاحاً، هو هل ان معظم الذين فكروا بهذا الأمر كانوا من الكادحين والشغيلة المضطهدة، أم من مثقفي العراق الأوائل وأولاد البيوتات المدنية والمتعلمة تعليما يتعدى السائد من المعارف آنذاك فالذين حضروا مؤتمر تأسيس الحزب في 31 آذار عام 1934 كانوا 17 شخصا على التوالي:
1 – عاصم فليِّح – خياط.
2- قاسم حسن – خريج حقوق – كاتب في وزارة التربية والمالية.
3 – مهدي هاشم – معلم – معاون مدير محطة سكك.
4 – حسن عباس كرباس – محام.
5 – جميل توما - مهندس سكك حديد، خريد الجامعة الأمريكية في بيروت.
6 – نوري روفائيل– مدرس ومهندس في مديرية التسوية.
7 – يوسف إسماعيل البستاني– محام خريج القانون من باريس.
8 – زكي خيري– كاتب في الكمرك.
9 – يوسف متي– صحفي وتاجر صغير.
10 – عبد القادر إسماعيل البستاني– محام.
11 – يوسف سلمان يوسف– مستخدم.
12 – غالي زويِّد– خادم من خدم آل السعدون
13 – أحمد جمال الدين– محامي.
14 – عبد الحميد الخطيب– مدرس ثانوية.
15 – زكريا الياس دوكا– كاتب في الموانيء.
16 – سامي نادر مصطفى– معلم إبتدائية.
17 – عبد الوهاب محمود– محام.
من هنا أجد نفسي أقف منحنياً ورافعا قبعتي كما يقال تحية لهم ولدورهم التنويري البالغ الأهمية والحضور خلال مسيرة حركة شعبنا الوطنية المعقدة والشديدة الخطورة.
كان يوسف سلمان يوسف (فهد) أول ماركسي عراقي ينشر بياناً سياسياً قبل نهاية العقد الثالث من القرن العشرين وبتوقيع (شيوعي) ويزينه بصورة (المنجل والمطرقة). وهذا أول ظهور رسمي لهذه الكلمة في بيان سياسي موجه للناس. لإن مجلة الصحيفة كانت تكتب بمزاج ماركسي تنويري، لكنها لا تدعي الشيوعية او تدعو لها. فهي أقرب إلى مفاهيم كاوتسكي من مفاهيم لينين حول الحركة الثورية.
كان فهد من ضمن المجموعة التي نظمها عبد الحميد الخطيب في العراق ومن ضمنها كان زكريا الياس دوكا وغالي زويِّد وداود سلمان شقيق فهد. كان عبد الحميد الخطيب على ما يبدو أول عراقي يدرس في (الجامعة الشيوعية لكادحي الشرق)، عام 1930، لكنه انقلب على قناعاته وتواصل مع السفارة البريطانية في موسكو وسلمها " الأكو والماكو " وأصبح مخبرا لها في الأوساط الماركسية العراقية، بعد عودته من الدراسة. أما فهد فقد غادر العراق بعد سفر الخطيب إلى موسكو، ليقوم بجولة كمراسل صحفي لجريدة (البلاد) لصاحبها روفائيل بطي، وإتصل بالعديد من شيوعي بلاد الشام، وتعمقت معارفه وحاول السفر إلى موسكو لكنه لم ينجح وعند عودته للعراق، كان ثاني ماركسي يذهب إلى موسكو هو الخياط عاصم فليِّح عام 1931، وعند عودته عام،1933 اخذ ينظم ويلتقي الحلقات التي تشكلت خلال هذه الفترة ومن ثم دعا لإجتماع عام لتشكيل الحزب السياسي للطبقة العاملة العراقية حيث توحدت تنظيمات البصرة والناصرية وبغداد في كيان واحد وأصبحت له قيادة موحدة، فصدرت جريدة (كفاح الشعب) في 31 من تموز من 1935، لكنها توقفت بعد خمسة أعداد بعد ان تم إلقاء القبض على القيادة وأكثر من 50 عضوا في التنظيم فتعطل نشاط الحركة مؤقتاً. ويظن ان لعبد الحميد الخطيب يد في ذلك لأنه عاد مع عودة عاصم فليِّح من الدراسة.
كانت قيادة الحزب الأولى تتكون من:
عاصم فليّح- سكرتيرا.
يوسف متي- مسؤول تنظيم بغداد.
مهدي هاشم– مسؤول تنظيم الديوانية والنجف.
زكي خيري– مسؤول البصرة والناصرية.
قاسم حسن- مسؤول العلاقات الأممية وقد حضر المؤتمر السابع للأممية الثالثة عام 1935.
بعد تعطيل صحيفة (كفاح الشعب) ظهرت (صحيفة الشرارة)، تيمناً بالشرارة البلشفية (الآيسكرا) وكان فهد من كتابها المبرزين، خاصة بعد عودته عام 1937- 1938 من دراسته في (الجامعة الشيوعية لكادحي شعوب الشرق) وبعد انتخابه سكرتيراً أولا للحزب وبعد أن تخلي سكرتير الحزب الأول عاصم فليِّح عن التنظيم وتركه للسياسة.
تميزت صحافة الحزب آنذاك بقضايا المجتمع الملتهبة والمطاليب الشعبية والتصدي لفساد الحكومات المتعاقبة على الحكم، إضافة لما يدور في العالم من أحداث متسارعة، خاصة مع بداية إندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ تكتلت " القوى الديمقراطية " ضد دول المحور وصار لزاماً ان تتوحد الجهود للوقوف في وجه النازية والفاشية.وكان شعار الجبهة الوطنية، الذي دعا إليه ديمتروف في إجتماع الأممية قد أصبح من اولويات الأحزاب الشيوعية التثقيفية، خاصة بعد انضمام الاتحاد السوفياتي إلى الحلفاء، بعد ما غزا هتلر الأراضي السوفياتية، فأصبح من شعارات الشيوعيين العراقيين الأساسية ولحد هذه اللحظة، إذ أدرك فهد منذ البداية أن الانفراد بالسلطة من قبل حزب واحد لا يجدي. ولهذا كان يثقف بضرورة دعم القوى الوطنية دون الإشتراط بالمساهمة في السلطة وبقي على هذا الموقف حتى إستشهاده في 14 شباط من عام 1949.
يمكن اعتبار جريدة (القاعدة) أكثر الصحف الشيوعية وضوحاً ومنهجيةً بعد ان استولى البعض من أعضاء اللجنة المركزية التي تشكلت غداة تفكك اللجنة المركزية الأولى على (صحيفة الشرارة) وبعد أن طالب بعضهم بإنتخاب سكرتير جديد للحزب بسبب سفر (فهد) لحضور المؤتمر الأممي التي أعلن انتهاء مهام (الأممية الثالثة) وترك الأحزاب في اتخاذ الأسلوب والمنهاج المناسب لها حسب ظروف بلدانها فلم تعد هناك حاجة إلى وصاية على الأحزاب.
في صحيفة (القاعدة) توضحت الرؤية أكثر وتبينت الخطوط الرئيسية لطرق النضال وأساليب الكفاح وظهرت الحاجة إلى منظمات رديفة للحزب تساند مطاليبه وتقف مع الشعب في قضاياه المشروعة وبدأ الحزب يعد العدة ويمهد المسرح من خلال صحيفة القاعدة والكراريس كي تلعب القوى الطلابية وجموع المتعلمين والجماهير الفلاحية والعمالية دورها الوطني من خلال تشكيل منظمات خاصة بها.
كانت صحافة الحزب ومساهمات رفاقه في الصحف الأخرى ذات التوجه الديمقراطي مثل ( صوت الأهالي ) و ( الزمان ) قد مهدت الأرض لظهورحركة جماهيرية ومهنية فاعلة، مثل، إتحاد الطلبة العام والجمعيات الفلاحية والنقابات العمالية وظهرت قيادات مناضلة من داخلها تتمتع بوعي طبقي ومهني ونقابي عالٍ. وكان (فهد) أحد أبرز مهندسي هذه اليقظة ومنظميها الكبار. ومع أنه قد أمسى في السجن بعد الضربة التي تلقاها الحزب عام 1947 فانه لم يفقد الصلة مع التنظيم وصارت تعاليمه وافكاره تصل إلى التنظيم باستمرار، مع كل خطوة يخطوها نضال الشعب وجماهيره الكادحة بالذات. وكانت الصحيفة هي المنظم والموجه للعمل بالنسبة للمناضلين والجماهير معاً.
كانت الصحافة الشيوعية ومواضيعها هي انعكاس لفهم الشيوعيين للأحداث وكذلك كمساحة للجدل والنقاش، خاصة في تبني المواقف التي تميل للحداثة والتثوير الثقافي والإبداعي، ولهذا ترى جمهرة من خيرة مثقفي ومبدعي شعبنا قد عبروا من خلالها نحو جماهير الشعب وتعرفوا على آخر ما توصلت إليه الثقافة التقدمية في العالم وكذلك لفضح المواقف المضرة التي تبرزها تيارات معادية للأفكار الإنسانية النبيلة في العالم، ولهذا فالصحافة الشيوعية في العراق لم تكن صحافة حزبية متزمتة ومنغلقة على نفسها، بل كانت واحة للعديد من الكتاب والفنانين والأدباء الذين لا تربطهم بالحزب او الفكر الماركسي صلة. فقامت الصحافة الشيوعية بالتعريف بهم وبنتاجاتهم وألقت الضوء على المعاني المتضمنة لهذه النتاجات، كما قامت بنقد الظواهر السلبية في ثقافتنا العراقية و للطروحات السياسية والفكرية والثقافية التي كانت قائمة في هذه الفترة أو تلك، وأيضا تأثرت هذه الصحافة بسياسات الحزب وتناقضاتها او إختلافها من حيث المواقف في هذه الفترة او تلك مما يجعل بعض الأحيان مصداقيتها مهزوزة، ولا تزال هذه الصحافة تفتقر لوجهة النظر الأخرى الموجودة داخل التنظيم و التي من الواجب إفساح المجال لها على صفحاتها، لأن ذلك يجعل الرأي والرأي الآخر يتحاوران بمصداقية ومسؤولية تعكس إحترام وجهات النظر المختلفة في هذه القضية او تلك وأظن أننا في الوقت الحاضر في حاجة ماسة جدا لمثل هذه النقلة، لما تمر به بلادنا من لحظات حرجة وخطيرة وغير مسبوقة وتتطلب كل الجهود في تفكيك الأزمة وإيجاد مخرج لها يجنب شعبنا وبلادنا مغامرات الحكام والقوى الغير مسؤولة والتي لا تهمها مصلحة الوطن والناس.
لقد تنبهت للصحافة الشيوعية مبكراً، وكنت اقوم مع صديق لي في المتوسطة هو حسين حسن السعودي، له العمر الطويل بإعادة كتابة مقالات معينة من صحيفة (اتحاد الشعب)، أيام ثورة تموز المجيدة وكانت من المشاكل التي واجهتني عندما وجد الأستاذ غالب الناهي مدرس اللغة العربية في متوسطتنا، نسخة مكتوبة منها في الصف إذ كنت معجبا بها، لأنها في طبعاتها الأولى قد ظهرت بورق أبيض ناصع يختلف عن ورق الصحف الأخرى. وكان هذا المدرس من أعضاء حزب البعث المعروفين وكان يشتم الزعيم عبد الكريم علنا بمناسبة وبدون مناسبة ولم يجد من يتصدى له، حيث كان مدير المتوسطة وقتها بعثياً كذلك وهو الأستاذ كامل خيرو التكريتي ولكنه كان لطيفا معي كوني رساما ومساهما فعالا في معارض الرسم للمتوسطة خلال المهرجان السنوي الذي تقيمه مديرية المعارف حينها. وبعد حدوث الإنقلاب الفاشي في 8 شباط عام 1963، كان أخي علي يأتي بنسخة من الجريدة مكتوبة بخط باليد ويقوم بنسخها مجددا على ورق الكاربون لتذهب إلى رفيق من رفاقه. إذ كثيرا ما كانت إجتماعات خليته تكون في بيتنا وكان ممن يحضر هذه الإجتماعت الفنان القدير الراحل حميد البصري طابت تربته.
******************************************
الصفحة الثامنة
ثلاثة شعراء في جريدة
زهير الجزائري
سعدي يوسف
في أول اجتماع لكادر جريدة (طريق الشعب) كان الشاعر سعدي يوسف حاضراً. شعرنا بالفخر إنه سيكون معنا. قبيل نهاية الاجتماع قال شيئاً ليضيف النقد كمبدأ ينبغي أن نعتمده لتعزير المسيرة. منذ البداية أخذ سعدي على عاتقه تقييم الشعر الذي صار يتدفق على الجريدة من شبان بدأوا يصعدون أول درجات السلم، لكنهم سيحتلون لاحقاً مواقعهم في الخارطة الشعرية العراقية. أراد سعدي أن يثبت تقاليد مدرسة عراقية تعتمد الواقع المرئي كارضية انطلاق. ورغم شيوع قصيدة النثر واللعب على اللغة، اعتمد سعدي الواقع المرئي والمكان المحدد قاعدةً انطلاق للحساسية الشعرية وأراد أن يثبتها كقاعدة. ياتي الى الجريدة بهدوء ويصعد ليقرأ القصائد بانهماكً. بحساسيته وخبرته يعرف الذي سيصير شاعراً حتى ولو من بيت واحد. دون جدالات ولا اعتراضات. كان سعدي من اكثرنا ريبة في الجبهة مع البعث. قصائده ملغّمةً بالوهواس، لذلكً تقرأها هيئةً التحرير بحذر مشدّد بعد أن قال طارق عزيز في واحد من اجتماعات الجبهة رداً على زكي خيري :
-… نعم، انتم تقيّمون إيجابياتنا في المقال الافتتاحي، لكنكم تشككون بنا في القصائد الملغمة!
اعتمادا على هذا الوسواس صارت هيئة التحرير تقرأ قصائد سعدي بحذر رقيب مضاعف. حين تستعصي الرموز على التفكيك والإحالة يأخذ عبد الرزاق الصافي قصيدة سعدي إلى يوسف الصائغ و يضعها أمامه، يقرأها يوسف ثم يعطي رأيه:
-نعم، النسر الجريح المقصود به الحزب.
.. وهكذا يتأكد الشك!
بين سعدي ويوسف الصائغ علاقةً ملتبسةً.. كلاهما شاعر مهم وشيوعي مرّ بتجربة السجن، وكلاهما جرب التعذيب في فترة الانقلاب البعثي الأول عام ١٩٦٣. لكني لم أرهما في جلسة حميمة معاً، ولا حتى في حديث عابر. سعدي يعتبر يوسف شاعراً عاطفياً يعتمد على الحس ولا يستند على ارضية راسخة في علاقته بتيارات الشعر العالمي. لم أسمع رأي يوسف بسعدي، لكنه يمرّر بين فترة وأخرى موقف سعدي عام ١٩٦٣. يوسف الصائغ كان أكثر حيوية وتنوعاً، شاعر (روائي، رسام، وكاتب عمود صحفي). في الجريدة يتنقل بحيوية بين الأقسام وله دور في نقد ما ينشر ودائما تعرض عليه افتتاحية الجريدة للتأكد من سلامة اللغة وتوازن الموقف قبل نشرها. سعدي ياتي للجريدة مثل زائر خجول يبدو انعزالياً، نكتشف أدبه ولطافته خلال الحديث. موقف الإثنين من الجبهة مع البعث كان مختلفاً. سعدي استقبل الجبهة بقصيدةً (تحت جدارية فايق حسن). ذهب في الفجر الباكر إلى ساحة الطيران، دورة ثانية، ثم ثالثة ثم توقف أمام الجدارية ليبدأ من الجدارية ذاتها التي أطلق الانقلابيون عليها الرصاص ثم مسحت حماماتها بالصبغ بعد انقلاب ١٩٦٣. لم يكن مبتهجا بإعلان الجبهة، إنما أثار الشكوك:
تطير الحمامات في ساحة الطيران.البنادق تتبعها،
وتطير الحمامات. تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا
في الرصيف يبيعون أذرعهم.
يقول المقاول جئنا لنبقى , تقول الحمامة هل قال حقا
يقول النقابي ان السواعد ابقى
…يا بلاد البنادق
إن الحمامات مذبوحة، والجدار الذي قد بنيناه بيتا وغصنا،
ينز دما أسودا، ويهز يدا مثقلة.
... نحن كنا صغارا... أقمنا جدارا ونمنا على مضض،
وطني، زهرة للقتيل، وأخرى
لطفل القتيل، وثالثة للمقيمين تحت الجدار.
يوسف على خلافه، اكثر انسجاماً مع موقف الحزب، أخذ الجبهة كخيار مستقبلي وطبق ذلك عملياً بمعرض رسم مشترك مع (شفيق الكمالي) وديوان شعر مشترك مع (شاذل طاقه). كنت أكثر انسجاما مع يوسف. يقرأ ما اكتب ويريني ما يكتبه، لكني أكثر احتراماً لسعدي، اصغي له باهتمام في المرات القليلة التي يتحدّث بصوت خافت.
رشدي العامل
بين سعدي يوسف و يوسف الصائغ يقع رشدي العامل. فهو من نفس الجيل الذي يقع بين رواد الخمسينات و الستينات، وانضمّ معهما إلى (جماعة المرفأ). من الساعة التاسعة صباحاً ينكبّ رشدي على كتابةً مقاله السياسي اليومي. يكتب على نفس واحد دون أن يرفع راسه. قريبا من الساعة الواحدة تبدأ دودة الكحول تنبش في داخله. يحاول القيادي الحزبي (حميد بخش)، بما عرف عنه من حزم، إبقاء رشدي في جوّ العمل الجدي داخل القسم، لكن هيهات لان بار (عشتار) بجوه المبرد في صيف بغداد الجهنمي، وقناني البيرة العرقانة من البرد المثلج تستولي على خياله الكحولي. ودائما يجد رشدي المناضل الديمقراطي عبد المجيد الونداوي ينتظره هناك. مرة واحدة كنت رفيقه في جلسة الظهيرةً التي كانت مدخلا لقبول صداقتي. حين تصعد الغيمة الباردة يتدفق رشدي قصصاً غنيّة عن ابناء جيله، سعدي يوسف، حسب الشيخ جعفر، يوسف الصائغ نزار عباس و حسين مردان. يعرفهم دون ضغائن ولا تملّق، ولكل واحد منهم حكاية معه. لم يفارق رشدي الحزب حتى في أحلك الظروف. فصل من الدراسة في شبابه المبكر وأعتقل ثم نفي إلى مصر وعاد إلى العمل في جريدة (اتحاد الشعب) عام ١٩٥٨. قدم حياته للحزب و لم يحصل على "أية مكافأة" منه. وقد روى لنا كيف أن الحزب كلفه بإيصال دعوة للشاعر (حسين مردان) للمشاركة في مهرجان الشباب. استلم حسين مردان الدعوة بفرح وسأله:
-و أنت؟ هل ستأتي معنا؟
-لا، لست مدعوّاً!
-شفت، لم تسمع نصيحتى. قلت لك إبق مستقلّاً، سيدللوك!
رواها رشدي دون تشك، إنما من باب المزاح.
لم يتوقف عن الإنتاج، كان شاعراً بجسده النحيل، بأصابع يده الدقيقة وهو يكتب القصيدة في الهواء، ببشرته وقد شفّ جلده، بخصلة الشعر الفالتة المدلاة على جبينه، بإدمانه وهو يقرأ الشعر أو يكتبه…، لم يفارق رشدي الحزب ولم يفارق "الرؤيا الرومانسية في تجربته الشعرية الخمسينية، … هي رومانسية ثورية، وبشكل اكثر دقة رومانسية تستلهم روح الحداثة الشعرية الخمسينية التي أطلقتها تجارب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي ومحمود البريكان وبلند الحيدري …". وأنا هنا استعير تقييمات الناقد فاضل ثامر لشعر رشدي العامل. ما يجذبني في شعره التلقائيةً الصافيةً أكثر من الصنعة:
ماذا يفعل مايكوفسكي؟
يبكي، يبكي يبكي...
يوسف الصائغ
في فترةً الصمت السياسي بدأ يوسف الصائغ ينشر في الجريدة (مذكرات طالبة ثانوية). مثل صديقه (مظفر النواب) يوسف بارع في تلبس شخصية المرأة في فترة عصيبة يسودها عنف السلطة الذكوري. المرأة التي اختارها شابة تبدو محايدة غير منتمية لحزب، لكنها منتمية للحياة بحساسية غير عادية. في الأيام التي أعدم فيها الشيوعيون رأت طالبته مشهداً مرعباً.. شاحنة مسرعة، هي السلطة باندفاعتها دهست زميلات لها ومضت دون أن تتوقف او تلتفت للوراء. صوّر يوسف الفاجعة بتفاصيلها المجهرية.. اللحم المهروس والدم الذي انطشّ على الإسفلت واليد التي بقيت ترتجف حتى سكنت. أراد أن يعبّر عن إحساسنا بالفاجعة فاختار حادثا رمزيا من خياله ومرر الفكرة. نزل إلينا من الطابق الأعلى وتنفس وهو يبشرنا بأن كلمته (مرت) بموافقة هيئة التحرير على النشر.
مصادرةً عدد الجريدة رفعت الحاجز الورقي بيننا وبين الناس. علينا أن نخبرهم لماذا. يوسف الصايغ خبير بالتحايل على الممنوعات. انهمك بقطع المقال الذي منعت بسببه الجريدة. جمع حزمة من المقالات وخبأها في جريدة رسمية على طريقة المنشورات السرية و قال لي تعال لنوزعها! شحنني بالحماسة فخرجت معه وقلبي ينبض بسرعة. أنا مهيأ للتحدي. التقينا بمجموعة من الفنانين التشكيليين وراح يوسف يحدثهم عن الحملة والإعدامات وما يشكله ذلك من مخاطر على الحياة العامة" لا أحد سينجو من الحملة، تبدأ بنا وستشمل الجميع". أتذكر أن الجميع أصغوا له باهتمام، عيونهم متسعة وأفواههم مغلقة بلا تعليق. النحات (خالد الرحال) قاطع يوسف و قَلَب َالموضوع بالحديث عن ميدالية صمّمها بطلب من القيادة لمؤتمر عدم الانحياز الذي يفترض أن يعقد في بغداد. نهره يوسف بحدة:
-أنت لا تريد أن تسمع؟ً
وا فلتت من فمه دمدمة:
-غبي و تتغابى!
أحببت حماسة يوسف وغضبه وتلبستهما. علاقتي بيوسف تتوطد في جو الأزمة. يأخذني كل يوم بسيارته إلى منطقة بعيدة على النهر لنرخي أعصابنا ونتحدث، وفي الحقيقة يتحدث هو وأنا أصغي كأنني أسمع صوتي الداخلي. خبرة يوسف بالسجن والتعذيب طويلة وعميقة، وأنا ما زلت خام. مع ذلك أنجزت رواية تحت عنوان (نفق إلى الشمس) مبنية على حوارات مع القياديين (آرا خاشادور) و عمر علي الشيخ ( ابو فاروق) حول حفر نفق للهروب الجماعي من سجن الكوت. قرأ يوسف الرواية في يوم واحد وأعادها لي صباح اليوم الثاني مع ملاحظات بالأحمر ما زلت أحتفظ بها. يوسف شغوف جدا بتصوير ترددات المناضل، وهو تحت التعذيب، بين الصمود والانهيار. في روايته المدهشة (المسافةً) مناضلان، يتواجهان في غرفة التعذيب، أحدهما يعذّب رفيقه السابق ويتمنى في نفس الوقت أن يجتاز (مسافة) الألم ويصّمد حتى النهاية. وفي رواية اللعبة زوج أدمن على إغراء زوجته من خلال مكالمات تليفونية، متصلة ومتصاعدة يريد أن يختبر صبرها على الصمود. الصمود والخيانةً عند يوسف متداخلان بمقدار ما هما متعارضان مثل الشجاعة والخوف. يوسف عاشهما معاً خلال فترات سجنه الطويلة ومن خلال علاقته مع القائد الشيوعي السابق (عدنان جلميران) الذي أدلى باعترافات تلفزيونية طويلة خلال مجازر ١٩٦٣. كلاهما من أصل موصلي وتربطهما رفقة وعلاقة قرابة غابت عن بالي. قال لي يوسف إن عدنان تمنى أن يخوض تجربة التعذيب مرة ثانية وتراهن مع رفاقه ومع نفسه على أنه سيصمد، إذا منح فرصة ثانية. في أيام الجريدة الأخيرة صار يوسف وسيطاً بين القيادة في الطابق الأول وبيننا نحن المتذمرين في الطابق الأسفل. ينزل متسللاً و يهمس لنا بالأسرار التي يسمعها فوق ويصعد لينقل للقيادة تذمرنا من هذا الصمت المذلّ. كنا نعتقد أن من الأفضل للجريدة أن تتوقف بدلا من أن تصدر دون أن تقول شيئاً.
******************************************
النصير الشيوعي استجابة لطموحات توثيقية ونجاحات ملحوظة.. مزهر بن مدلول يتحدث عن (النصير الشيوعي) في عيدها الرابع
حوار: محمد الكحط
في الذكرى التسعين لعيد الصحافة الشيوعية، تقف أمامنا انطلاقة جديدة ونوعية لتنضم إلى منابر الصحافة الشيوعية المتعددة في العراق وهي جريدة (النصير الشيوعي)، فهذه الصحيفة وبزمن يعتبر قصير نسبياً تركت بصمة خاصة بها، ولتكون صوتا جديدا فعالا كونه صوت الأنصار الشيوعيين الذين ناضلوا بأصعب الظروف وضحوا من أجل وطن حر وشعب سعيد ولإعلاء راية الشيوعية والدفاع عن مصالح شعبهم ووطنهم، وهنا نلتقي مع الرفيق النصير مزهر بن مدلول رئيس تحرير الجريدة ليتحدث عن (النصير الشيوعي).
- نحتفي بالعيد التسعين للصحافة الشيوعية في العراق، والذكرى الرابعة للنصير الشيوعي، فهل من كلمة في المناسبة؟، وهل يمكننا العودة إلى فكرة إصدار جريدة، وماهي دوافع وأهداف إصدارها؟
- في البداية، اتقدم بالتحية إلى أرواح الذين خاضوا غمار البدايات الصعبة، متحدين القمع والاعتقال والنفي، ليؤسسوا لهذا الصرح الذي بتضحياتهم أصبح عملاقا. كما اتقدم بالتحية والتهنئة إلى كل الذين واصلوا مسيرة الصحافة الشيوعية في العراق، وأحسنوا الأداء حتى عامها التسعين. ويسرني أيضا ان أحيي رفاقي وزملائي الذين عملت معهم ومازلت، وجميع كتاب وقراء وداعمي جريدة (النصير الشيوعي) وهي توقد شمعتها الخامسة، متمنيا للجميع المزيد من المثابرة والعطاء.
لا حاجة لتكرار ما أكده الكثيرون، عن الدور الريادي الذي لعبته الصحافة الشيوعية واليسارية في ميادين الحياة المختلفة، لكني أعود إلى مساعي لينين بهذا الخصوص، والذي جعل من تأسيس جريدة وهو في منفاه على رأس أولوياته، مؤكدا على أهميتها ليس فقط في التنظيم والتحريض والتعبئة، بل من أجل تأسيس حزب مختلف، فكانت ألايسكرا (الشرارة) التي حملت شعار (من الشرارة يندلع اللهب)، وراحت تناضل من أجل تأسيس حزب ثوري.
أمّا في العراق، فيطول الحديث عن صحافته الشيوعية، الّا اننا يمكننا القول، بانها كانت ومازالت مدرسة للوطنيين وبوصلة للمناضلين، ومنبرا لا غنى عنه في التعبير عن هموم وآلام وطموحات الناس، كما انها وفرت مساحة وافية للباحثين والمؤرخين لينهلوا منها ما يبتغون، وغير ذلك الكثير مما لا تتسع له هذه السطور القليلة.
واذ نحتفل بالذكرى التسعين لميلاد الصحافة الشيوعية في العراق، نحتفل ايضا بالذكرى الرابعة لصدور جريدة (النصير الشيوعي)، الجريدة التي تميزت عن غيرها من الصحف بموضوعاتها التي توثق لفترة مهمة من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، هي فترة الكفاح المسلح التي امتدت بين (1979 – 1989) او ما يزيد عن ذلك بقليل.
لقد تحدثنا سابقا عن هاجسنا في إصدار جريدة، وعن ولادة تلك الفكرة، والطريق الذي سلكته حتى رأت النور في صدور العدد صفر. لكن ما أريد الحديث عنه اليوم، هو الدور البارز الذي أدته جريدة (النصير الشيوعي) باعتبارها استجابة لطموحات توثيقية لتجربة استثنائية في حياة الشيوعيين النضالية، فبالرغم من قصر عمرها، الاّ انها حققت نجاحات ملحوظة في تحفيز عدد غير قليل من النصيرات والأنصار على الكتابة عن تلك السنوات الزاخرة بالبطولات والتضحيات.
إن الأهمية التي تتمتع بها جريدة (النصير الشيوعي)، تنبع من مادتها التوثيقية، والتي هي بأقلام من عاشوا التجربة، وأناروا بمصابيحهم ظلام الوديان، وجعلوا من خلفية الجبل القاتمة لوحة ناصعة من لوحات النضال الثوري.
- ماهي الصعوبات والتحديات التي واجهتكم خلال الفترة الماضية وفي المستقبل...؟
لا نزال في بداية الطريق، وأمامنا تحديات كبيرة، أهمها ان نصل إلى أكبر عدد من المناضلين الذين تهاوى اليأس تحت مطارق صبرهم وشجاعتهم، وتسجيل شهاداتهم لتصبح مصدر الهام للأجيال التي تطمح بوطن يحترم ويساوي بين جميع أبنائه.
اما التحدي الآخر، فهو مدى قدرتنا على الاستفادة من التطور الهائل في التكنلوجيا الرقمية، ومع إدراكنا بان النظام الرأسمالي يستخدم التكنلوجيا لتشويه الحقائق ويفرض رقابة رقمية صارمة على المنشورات والأفكار والسياسات الشيوعية واليسارية، ويمنعها من الوصول إلى الفئات والتجمعات المعنية بخطابها، لكننا نبذل أقصى الجهود في سبيل توسيع دائرة توزيع الجريدة، لتصل إلى أوساط أخرى جديدة، وعدم حصرها بين الأنصار والشيوعيين ونخبة من المثقفين والمهتمين. وفي هذا المجال نسعى لاشراك أصدقاء الأنصار من الصحفيين والإعلاميين وخاصة الشباب في الكتابة والمتابعة وإجراء المقابلات والدعاية أيضا.
- هل تعتقدون بأن النصير الشيوعي نجحت وأدت وتؤدي مهامها بالشكل الصحيح...؟
إن الجريدة كأداة اعلامية ناطقة بإسم رابطة الانصار الشيوعيين العراقيين، نجحت في متابعة نشاطات وفعاليات الرابطة وفروعها المنتشرة في أغلب بلدان العالم، كما أنها، ورغم قلة مراسليها، تابعت باهتمام نشاطات الأنصار الفردية، خاصة الندوات والمحاضرات التي تتناول تجربة الكفاح المسلح في جبال كردستان. بالإضافة إلى اهتمامها الاستثنائي بالمنجز الأدبي والفني والثقافي للمبدعين الأنصار، واضعة في مقدمة أهدافها: استمرار حضور التجربة الأنصارية حية في الاذهان.
شكرا لكم ونتمنى لجريدة النصير الشيوعي التطور والاستمرار بعملها لتحقيق جميع طموحاتها، ولتكون إضافة نوعية مهمة للصحافة الشيوعية في العراق.
***************************************
آخر فرسان الصحافة السرية ممتاز الحيدري: كنا على استعداد للموت في سبيل القضية
الصحفي: أهم الدروس التي تعلمتها من عملك في الصحافة السرية و الحزبية؟*
ممتاز مدى قوة الصحافة بين الجماهير، وخاصة عندما تحوز هذه الصحافة ثقة القراء والمتابعين
وكيف تتحول الأفكار فيها إلى سلاح فعال، وقوة مادية حقيقية وحركة تاريخية في مواجهة قوى الطغيان والاستبداد في ذلك الوقت كانت قوة الحزب تقاس بقوة إعلامه والحزب الشيوعي كان يتمتع بإعلام قوي وصحافة منتظمة الصدور، وأنـ أرى الآن أيضا أن الإعلام هو الوسيلة الأكثر تأثيرا في توجهات الناس وخياراتهم. أتذكـــــر كيف كان صدور عدد جديد من طريق الشعب يلقي بالذعر بين أوساط الأجهزة الأمنية التي تعبئ كل قواها، وتجدد تحرياتها وبحثها الدائب المسعور ومداهماتها الظالمة للكثير من البيوت. لقد أولى ماركس وإنجلز ولينين انتباها خاصا للصحافة والإعلام، وشددا على دورها المؤثر والمغير والمثور، كنا نبذل أغلى الجهود للمحافظة على جهاز الحزب وكنا على استعداد للموت في سبيل القضية التي يناضل الحزب من أجلها.. وهكذا كنا نواصل النضال من غير خوف، أو تردد برغم المصير المؤلم الذي حاق بالكثير من رفاقنا وعوائلهم.
* من لقاء أجرته مجلة الصحفي الكردستانية العدد 68 مع الصحفي المخضرم ممتاز الحيدري.
******************************************
الصفحة التاسعة
الصحافة الشيوعية: إدارة وتنظيم
ياسين النصيِّر
1
عندما تكتب عن الصحافة الشيوعية، يجب ان تضع في حسابك أنك تكتب عن رؤية وطنية للكيفية التي يكون عليها العراق، وهذه الرؤية لا تأتي لمجرد رغبات أفراد اختاروا طريقًا نضالية للتعبير عنها. بل تأتي من تضافر حزمة من الممكنات المختلفة لإنجاز هذا المشروع، ومن بين هذه الرؤية وجود شخصيات تخطط لما ينشر في صحافة الحزب اليومية، وتؤمن أن هذا العمل هو في صلب الموقف الوطني. وأن ما ينشر في صحافة الحزب ومجلاته، وما ينشر في اجتماعات أعضائه من محاضر، وما يفكر به كادر التحرير المتقدم من خطط للكتابة في الاعداد المقبلة، هو أن يكون العمل مؤسساتيا ومنظما. فالتخطيط والتنظيم والمتابعة والانجاز، من مفردات المدينة، ولذلك ارتبطت صحافة الحزب الشيوعي بمدينة عراقية، بمعنى الفضاء الذي يحقق التأثير في القراء. يقودنا التفكير الأولي بوجود صحافة للحزب الشيوعي، إلى وجود مثل هذه الرؤية الواقعية والاجتماعية والفلسفية والثقافية، حتى لو لم يكن قد خطط لها، فوجود مدينة يعني وجود فضاء يؤثر في القراء. إن عملية تتجسد بمقالات تتناسب وحجم الصحيفة والمجلة والخطط الفكرية المقترحة، لا تتم إلا باقتران المواقف مع أوضاع المدينة، وقد كانت المدينة العراقية من أفضل الفضاءات للتجربة العملية لإنجاز مهمات الحزب وأفكاره، شخصيا لا ألغي القرية والأرياف، ولكن تأثيرها يبقى ثانويا إزاء ما تفرضه المدينة على الصحافة. وقبل هذا التخطيط ثمة مجموعة من الإجراءات تقوم بها خلايا الحزب لتدوين ما يرونه مهما في حياة المجتمع المديني من مطالب وأفكار واحتياجات وأمور تخص مفردات الحياة التي تؤكد خط الحزب الفكري ومواقفه، هذا بالعموم، ما كان يفكر الحزب به في مراحل وجوده العلني، فالكتابة عن احتياجات الناس؛ محادثة وحوار بين خصمين الحزب والمجتمع، يجتمعان معًا على حلبة الحياة اليومية كل منهما مسلح بأدواته: حاجات المجتمع بمواجهة رؤية الحزب لعلاجها.، وغالبًا ما يشكل هذا الصراع بين الخصمين طريقة للنقد العملي المباشر القائم على الأسئلة الإشكالية وعلى المعرفة الدقيقة بالموضوعات التي تشغل الطرفين، وعلى جهل المجتمع بآليات تشكل الموضوعات والكيفية التي تخص هذه الفئة الاجتماعية أو تلك، قد تبدو أن هذه مهمة لا ترى، وليست من أولويات الصحفي، ولكن من تتبع مسار صحافة الحزب يجد أن هذه المهمة تنزل يوميا بتعليمات إلى هيئة التحرير لإنجازها على مراحل وتكليف المعنيين بذلك، وهذا ما شهدنا في العمل في طريق الشعب في السبعينيات عندما كان المرحوم أبو كاطع يباشرنا يوميا بالخطة التفصيلية لما ينشر في الجريدة على مدى شهرين أو أكثر، بحيث تشعر أن خطوات العمل مدونة وعلينا التنفيذ الحر لها. وللنكتة كان أبو كاطع رحمه الله، يضحك عندما يباشرنا بالعمل، هذا جزء من الأتمتة، وكانت المفردة قد بدأت تدخل مجال التداول العملي، نعم الأتمتة التي تقود العمل وتضعه في خطط منتظمة كما لو كانت الصحيفة مؤسسة إنتاجية مسؤولة. لا شك أننا نتصور أن حلبة الصراع بين كيانين فقط، بل يمكن أن يقف خلف الصحفي والصحيفة أجيال من الأعمار والشخصيات المختلفة الانتماءات والآراء والأفكار، وأن يقف مع الخصم الثاني مؤسسات الحكومة وأجهزتها وأذرعها العسكرية والأمنية، ونظرة على الخصمين ترتسم صورة أولية أن الشعب يقف وراء الصحافة الوطنية، وأن السلطة بكل مؤسساتها وأسوارها وعدتها وهيئاتها تقف مع الطرف الثاني، وأول خطوة على الصحفي ان يكون ذا ثقافة تمكنه من إدارة الحوار، والوصول بالخصم إلى الهزيمة أو الموافقة على ما يطرح.
2
خلال التسعين سنة التي شكلت عمرًا زمنيًا للصحافة الشيوعية في العراق، وخرَّجت اجيالًا من الصحفيين المرموقين، الذين كتبوا ووقفوا وناضلوا وعملوا من أجل أن تكون الصحافة الشيوعية جزءًا من الحوار الوطني والمحادثة بين الفرقاء، وليس غايتها التعريض بالأشخاص أو بمواقف الآخرين، دون وعي وفهم وقناعة ونماذج من الحقائق. نعم كانت هذه جزءا من التعليمات اليومية التي تباشر العاملين فالكتابة مسؤولية أن يكون الموقف مدونا، ويعني التدوين وثيقة ،وأن ما يطرح في الصحافة الشيوعية يختلف جملة وتفصيلا عمّا يطرح في غيرها، لذلك اكتسبت الصحافة الشيوعية عبر معيار وسياسة النقد، أهمية استثنائية في حياة العراق، بدليل حضورها الدائم والمستمر لصحافة الشيوعي حتى لو جرى منعها او محاصرتها او تحجيمها، فهي ليست أوراقًا تملأ بالمواقف والآراء، بل هي سجل، ومعنى السجل أن يكون شفاهيًا ومكتوبًا، وان اللغة المستعملة ليست اللغة العربية الموزونة والمقفاة، بل لغة الكلام اليومي المنضبط القواعد والسياقات، والقادر على التعبير بموجز الكلمات، لذلك لم تنجح كل وسائل القمع من تحجيم صوت الكلام الشيوعي، وأصبحت جلسات المقاهي ميدانا للحديث عمّا ينشر في الصحافة الشيوعية، وهو التمدد الذي أولاه الحزب اهتماما عندما كان يوزع الصحافة في هوامش المدن. فالصحافة الشيوعية ليست بأوراقها المكتوبة بل بلسانها الشعبي الذي يعبر به رجل الشارع والروائي والشاعر والممثل والبائع والمشتري والمرأة في احتياجاتها، هذه اللغة الشعبية لغة الكلام ليست شرطًا أن تكتب بل هي تيار من المشاركة بين مناضلين لا يلتقون ولكنهم يشخصون الظاهرة ويتفاعلون بأسئلة معها، لقد تعلم الصحفيون العراقيون من خلال صحافة الحزب الشيوعي فن مباشرة الحديث مع الخصم، بدليل ما ينشر، ومعنى أن تكون مثقفًا وذا موقف وطني حتى لو لم تكن منتميًا، تكون حججك في النقد منسجمة وما يطرحه الحزب. وهذا هو سر بقاء الصحافة الشيوعية حية ومطلوبة حتى لو قل كادرها، وقلت كتاباتهم، وقل إصدارها، فلسان المجتمع العام يوفر الاشكال التعبيرية التي ينشدها الحزب في توجهاته النقدية عن اية ظاهرة اجتماعية. ومن ينصت لنبض الشارع في أوقات المراحل التي لم تصدر فيها الصحافة الشيوعية علانية، يجد الناس بمختلف أصنافهم واهتماماتهم تتكفل في انتاج الكلام المعبر عن الكيفية التي ينتقدون بها الأوضاع الشاذة، ولذلك أعزو انتشار نشاط النقد في العراق إلى الكتابة النقدية في صحافة الحزب، ومن يراجع الصحافة العراقية لا يجد هذا الخط النقدي ضمن توجهاتها. قد يعود جانب من هذا الصوت النقدي إلى شعبية الصوت الاجتماعي الناقد، وقد يعود إلى انتشار ما تطرحه صحافة الحزب، هذا الصوت هو العجينة المخمرة بالتجارب الشخصية والعامة نتيجة تراكم الأفكار والحالات التي لم تعالج، ودائمًا ما تنتج هذه الحالات صوتها ولغتها المتميزتين، وقد لمسنا ذلك وما زلنا نلمسه عندما تتحدث بصدق ووطنية عن أي مشكلة أو فساد أو تقاعس أو خلل، أو محسوبية أو سرقة، يقال لك أنت شيوعي، واعتقد أن الآلاف قد عرفوا من لسانهم اليومي قبل أن يعرفوا عن طريق المخبرين. فصحافة الحزب الشيوعي المعبرة عن أفكاره وآرائه ليست ما يكتبه العاملون من الصحفيين فيها، بل ما يفكر به الشارع، وما تتكلم به الناس في دوائرهم ومحلاتهم وبيوتهم، هذه كانت مهمة مختفية في الممارسة الثقافية.
3
تسعون سنة ليست بالعمر القصير، للصحافة الشيوعية والوطنية، وعلينا عندما نتحدث عن الصحافة الشيوعية وحدها، نكون مقصرين بحق الصحافة الوطنية للفئات الاجتماعية الأخرى، ولن أعددها الآن خشية أن انسى صحيفة أو مجلة، ولكني أشير، وبقناعة، أنَّها تشكل اكثر من 75 بالمائة من الصحافة العراقية عبر تاريخها، إضافة إلى أن الصحافة الأخرى ليست كلها رجعية، بل كانت صحافة شخصيات وجماعات وهي صحافة مرحلية، ومن يراجع موسوعة المرحوم فائق بطي الصحفية يجد أن ما أقول أقل مما دونه الأستاذ في أجزائها، لأصل إلى نقطة جوهرية، هي أنَّ قلب الحزب الشيوعي قد يصاب بخلل وتعطيل بعض شرايينه بالعطب، ويتطلب الأمر اجراء عمليات ترميم وتجديد، إلا أن صحافة الحزب التي هي انعكاس عملي لجسده في صحته ومرضه، لم تتخل يومًا عن مهمتها الوطنية، في إسناد الصحافة الوطنية الأخرى. وهذا يعني حتى خلال فترات انقطاع صحافة الحزب كان التفكير بالموقف الوطني شغل من انتمى للحزب ومن كتب ومن فكر، لذلك يكون الاحتفال ليس للصحفيين والمنتمين للحزب فقط، بقدر ما هو لعموم المثقفين الذين وجدوا في صحافة الحزب مؤسسات لنشر انتاجهم وميدانا عمليا للحوار مع الآخرين، ولمتابعة إصدارات الأدباء وأعمال الرسامين وفناني المسرح والموسيقيين وغيرهم، حتى وصل الأمر لتتبع حياتهم المهنية والشخصية وأنشطتهم الاجتماعية، ومن يكتب عن ميادين اشتغال المثقفين العراقيين في مجال العلاقات يعجز عن الإلمام بأسئلتها ونشاطها، فالسلطات الحاكمة كانت تهتم بمثل هذا النشاط الثانوي، ولذلك كانت متابعة جلساتهم واحاديث ولقاءاتهم جزءا من مهماتها الرقابية. وقد خصصت الحكومات جماعات لمتابعة ما ينشر، وما يتحدث به الصحفيون. فالحزب ليس مسؤولا عن ثقافة أعضائه فقط، بل عن الثقافة العراقية كلها، ولولا ما يقال لتبنى الحزب نشر مقالات وإنتاج المغايرين لسياسته اعتمادا على نظرته الوطنية (مهما اختلفنا فالكتابة الصادقة والدقيقة من أي مصدر كان، هي في صلب رؤيتنا الماركسية)، الرؤية المنفتحة على الإنتاج الثقافي حتى لو كان مغايرًا، شرط ان يكون معتمدًا على حروفه الوطنية، فالحزب لم يقف بوجه أشكال التعبير، حيث كانت الأشكال التعبيرية جزءا من الحريات الشخصية عندما يفكر المثقف والصحفي بأشكال مختلفة حتى لتوجهاته توجهاته الفكرية دون ان يكون ذلك خرقًا لمنظومة الأعراف الثقافية. كان الشاعر الكبير سعدي يوسف يتعامل مع الشعراء الشباب بحسه النقدي فيقتطع ما يراه شعرا من قصائد طوال ليس فيها شعر. ومن يتتبع نتاجات الشعراء والقصاصين والمقاليين والكتابات الذاتية لم يجد لها انتشارا إلا من خلال صحافة الزمت نفسها بتبني خط وطني لا يجامل ولا يسترخي لأي شكل فني متميز، او لتبني أي اتجاه فردي، إن من يتتبع خط الحزب الثقافي يجده بؤرة لتجمع المختلفين، في الأشكال التعبيرية، المتفقين على تطوير انتاجهم، المتمردين على النماذج التقليدية، المتطلعين لتضمين انتاجهم رؤى فكرية جديدة حتى لو لم يكونوا منتمين او أصدقاء، فالصحافة الشيوعية ليست لها بابان يدخل المنتمون منها إليها، ويدخل غير المنتمين من الباب الثاني، باب واحد مفتوح على مصراعيه، ما عشته وعملت به مع رفق مخلصين كانت كل الأبواب أشرعة للهواء الوطني.
4
سيطول الحديث عن دور الصحافة الشيوعية، وقد لمست تأثيرها في ترشيد الأدب والثقافة، وعندما تتغلغل في بنية الثقافة العراقية، تشير وبوضوح إلى أنها احتضنت وتبنت تيارات الحداثة في ميادين الشعر والقصة والتشكيل والمسرح والصحافة، ولكل من عمل فيها، يشعر اليوم أنها كانت من أغنى الفترات وأكثرها ارتباطا بمشكلات العراق. أقول سيطول الحديث عن هذا الموضوع، وأن أجيال القراء اليوم ليسوا على اطلاع او بينة من ما كانت الصحافة في سنواتها الطويلة تعمله. ولذلك لا يكون الاحتفال مناسبة بل يكون جزءا من مهمات المسؤولين عن الثقافة الوطنية.
***********************************************
صحافة الحزب الشيوعي العراقي أحد أهم روافد ثقافتي
د. هاشم نعمة
مثّل صدور صحيفة "كفاح الشعب" في نهاية تموز 1935، وما تلاها من صحف ومجلات أصدرها الحزب الشيوعي العراقي طيلة عقود، نقلة نوعية نحو إعلام وثقافة ملتزمتين بقضايا الوطن والشعب، حيث أكدت هذه الصحف والمجلات فيما تنشر على استقلال العراق وحفظ سيادته، ومحاربة مخططات الاستعمار ومن يُمثّله من ساسة العراق، وقارعت بالثقافة والفكر الأنظمة المستبدة وما جلبته من ويلات ومآسي لبلدنا وشعبنا، وعملت على رفع وعي الجماهير بالقضايا التي تهمها والمتمثّلة ببناء نظام ديمقراطي ذي مؤسسات دستورية، يضمن الحريات العامة والمساواة ويحقق العدالة الاجتماعية. وعلى هذا الطريق الشاق، قدمت الصحافة الشيوعية طيلة عمرها المديد كوكبة من كتابها اللامعين شهداء لقضية الثقافة التقدمية الملتزمة بقضايا مختلف فئات الشعب خصوصا الكادحين منهم.
لذلك، شكلت صحافة الحزب، أحد أهم روافد ثقافتي، ووسعت من آفاق معرفتي، فمنذ الستينيات، عندما بدأت بواكير مطالعاتي الثقافية والتي كانت تهتم أساسا بقراءة الروايات خصوصا العالمية منها العائدة إلى ليو تولستوي ومكسيم غوركي وفيودور دوستويفسكي... والروايات العربية لنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهم، ولكن بعد انضمامي لاتحاد الطلبة العام عام 1967، بدأت أطلع على صحيفة الحزب السرية وأساهم في توزيعها على الطلبة الاتحاديين؛ لأني كنت سكرتيرا للاتحاد في ثانوية مدينة الزبير، وكانت الثانوية الوحيدة في وقتها. وفي زمن عبد الرحمن عارف كان العمل السياسي والطلابي السري لا يتسم نسيبا بالخطورة. ومنذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات عندما صدرت مجلة "الثقافة الجديدة" عام 1969 و"الفكر الجديد" الأسبوعية عام 1972 و"طريق الشعب" العلنية عام 1973 كنت مواظبا على اقتنائها وقراءة ما ينشر فيها، من موضوعات سياسية واقتصادية واجتماعية وفلسفية وأدب وفن وتحقيقات متنوعة وغيرها من الموضوعات التي وسعت من ثقافتي وحفزتني على قراءة المزيد من الكتب خصوصا ذات التوجه الماركسي. وعندما غادرت العراق عام 1978 بعد أن اشتدت وطأة القمع ضد حزبنا، كان لي اشتراك ثابت بطريق الشعب مع مكتبة الباحسين في مدينة الزبير، حيث كان صاحبها يحتفظ لي بنسخة حتى عندما انشغل ولا أستطيع اقتنائها في اليوم نفسه.
وبعد أن انتقلت إلى المغرب عام 1978، كانت تصلنا "طريق الشعب" ومجلة "الثقافة الجديدة" عبر التنظيم بأوقات متباعدة، ولأن الأخيرة تأتي بنسخة واحدة، كنت أقوم باستنساخها في أحد المكاتب لتوزع على الرفاق. وبعد انتقالي إلى هنغاريا عام 1984، أصبحت مواظبتي على قراءة المطبوعين أكثر انتظاما بحكم أن منظمة هنغاريا كانت من المنظمات الكبيرة وتصلها منشورات الحزب باستمرار. وبعد انتقالي إلى ليبيا عام 1989 أصبح اطلاعي على صحافة الحزب أقل، كونها تصل بأوقات متباعدة بسبب الصعوبات التي كانت تحيط بإرسال هكذا مطبوعات إلى ليبيا في تلك الفترة. وبعد الإقامة في هولندا منذ عام 1996، أصبحت مواظبا على نحو منتظم على قراءة "طريق الشعب" ومجلة "رسالة العراق" و"الثقافة الجديدة" كونها تصل بشكل منتظم إلى هولندا.
على الرغم من نشري بحوث ودراسات أكاديمية، لكن كانت تتملكني رغبة قوية للنشر في "الثقافة الجديدة"، كونها مجلة عريقة وتحمل شعارا معبرا "فكر علمي... ثقافة تقدمية"، وغنية بموضوعاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن كان وجودي في ليبيا يُصعّب من مراسلة المجلة. وفي هولندا نشرت أولا مرة في مجلة "رسالة العراق" الشهرية عام 1998، علما أنشر منذ فترة بطريق الشعب على نحو متباعد خصوصا في صفحة أفكار؛ لأني أميل لنشر المقالات ذات المنهج الأكاديمي التي لا تستوعبها الصحيفة. وبدأت محاولتي الأولى للنشر في الثقافة الجديدة عام 1998 أو عام 1999، عندما كان طيب الذكر الرفيق الدكتور غانم حمدون رئيسا للتحرير، وقد طلب مني إجراء تعديلات على المقالة التي أرسلتها وتكثيفها، ولا أنسي قوله لي عبر التلفون، عندما تنشر في المجلات العامة أول مرة عليك أن تنزل بمقالة قوية. لذا ارتأيت تأجل المقالة المرسلة إلى وقت آخر. وأول مرة نُشرت مداخلة لي في عدد المجلة 295، تموز-آب 2000، عندما شاركت في الندوة التي نظمتها المجلة بشأن الإسلام السياسي والدولة في مدينة روتردام في هولندا. وكان رئيس التحرير في وقته الرفيق رائد فهمي، وممن شاركوا في الندوة: كامل شياع، حامد نصر أبو زيد، ياسين النصير، فالح عبد الجبار، كاوه محمود، جاسم المطير، فالح مهدي، عادل عبد المهدي، حسين عبد علي، علي إبراهيم، عبد السلام حسن، سليم عبد الأمير حمدان، سامر إسماعيل، وثاب السعدي، فارس الماشطة، اسكندر سلمان، مجيد خليل إبراهيم، سلمان شمة، وعذرا لمن لم تسعفني الذاكرة لتذكر أسمائهم. ونُشرت مساهمات الندوة في عددين. وأرسلت مقالة جديدة بعنوان "هجرة العراقيين وتأثيراتها على البنية السكانية" إلى المجلة عام 2002، وكم كانت سعادتي غامرة عندما أخبرني الدكتور غانم حمدون تلفونيا بأن المقالة نُشرت في العدد المزدوج 307-308، تموز- كانون الأول 2002، وبما انه صادف سقوط النظام عام 2003، قال نتوقع أن يوزع العدد على نطاق واسع في الوطن، وهذا ما حدث فعلا، فعندما عدت إلى العراق أول مرة في آذار عام 2004 أخبرني العديد من الرفاق والأصدقاء أنهم اطلعوا على العدد. وبالمناسبة فإن المقالة الأولى التي أرسلتها للمجلة وأجلتها عدت لها بعد أكثر من عشرين عاما، وطورتها ووسعتها وغيرت عنوانها، وفق رؤية ومنهجية جديدتين، مستفيدا من الملاحظات القيمة السابقة للدكتور غانم حمدون، وبما أنها باتت دراسة مطولة لا تستوعبها الثقافة الجديدة نشرتها في مجلة عُمران الأكاديمية المتخصصة بالعلوم الاجتماعية بعنوان "نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية "، العدد 41، المجلد 11، صيف 2022.
في عام 2022، بعد إعادة تشكيل هيئة تحرير مجلة الثقافة الجديدة ومجلس تحريرها، والتي ظلت بدون هيئة تحرير للأسف طيلة 11 سنة، تشرفت بأن جرى اختياري عضوا في هيئة التحرير والتي تسلم الرفيق الدكتور صالح ياسر رئاسة تحريرها منذ عام 2007. وأعمل حاليا مع زملائي الأعزاء في هيئة التحرير كي نعزز من القيمة المعرفية الرصينة لما يُنشر في المجلة في أبوابها الثابتة المختلفة: المقالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والعلمية، وقراءات في كتب، وباب نصوص قديمة، وباب ترجمات، وحوار مع شخصية فكرية، وباب أدب وفن.
تحية اجلال واكبار للصحافة الشيوعية في عيدها التسعين
********************************************
الصفحة العاشرة
في تسعينية الصحافة الشيوعية {طريق الشعب} نموذج لتفرد الإخراج الفني والهوية البصرية
فلاح حسن الخطاط
ترتبط أهمية الاخراج الصحفي وظيفياً بجوانب ذات ارتباط وثيق بمهنة الصحافة، يأتي في مقدمتها الإخراج والشكل، بوصفهما عنصرين مهمين في تقديم المضمون وجذب القراء على وفق معايير ترتبط بجودة الطباعة وجمالية الإخراج الفني.
منذ تأسيس الصحافة العراقية عام 1869 لم يكن هناك مايعرف بـ "الماكيت" في توزيع المقالات والعناصر التبوغرافية على صفحات الجريدة، بل كانت المهمة تقع على عمال صف الحروف ومشغلي المكائن وبإشراف من مدير أو سكرتير التحرير في توزيع تلك المقالات. مع وضع الفواصل واختيار حجم الحروف ونوعه وإدخال الصور فيما بعد. وهذا ما تحتمه مكائن الطباعة "اللتربريس" انذاك المحكمة بقوالب لايمكن الخروج عنها.
استمرت الصحف في طباعتها لعقود طويلة بهذا الشكل لان ادخال أي تغيير يؤدي الى تأخر صدور الصحيفة لليوم التالي، بل اكتفوا حينها في إدخال بعض التحسينات مثل خط ترويسة الجريدة والمانشيت الرئيسي بلون مغاير. وبالرغم من تلك الامكانيات المتواضعة في الطباعة إلا أن هذا لم يشمل المجلات، بل كانت هنالك مجلات صدرت في الخمسينيات من القرن الماضي مثل "أهل النفط" كانت أنيقة في اخراجها وطباعتها، ومجلة "العراق الجديد" الصادرة عام 1959 صممها واشرف عليها الفنان ناظم رمزي، ومجلتي "المثقف والثقافة الجديدة" التي اسهم في تصميمها وخط عناوينها الفنان يحيى جواد، رغم انها كانت تطبع بذات الامكانات الطباعية المحدودة، إذ تتوفر للمجلة فسحة جيدة من الوقت، كون اصدارها دوري، يمنح للمصمم فرصة جيدة في الإبداع والاخراج الفني المتقدم جمالياً.
ظهرت أولى بوادر الاخراج الصحفي في الصحف منتصف الستينيات مثل صوت العرب، الجمهورية، الهدف، واستقطبت صحفيين انخرطوا كمخرجين صحفيين أمثال حسام الصفار وابراهيم زاير ومالك البكري وغيرهم.
كذلك تأسيس قسم الصحافة في كلية الآداب، كان من ضمن مفرداته المنهجية دراسة الاخراج الصحفي أكاديمياً على يد "د.ابراهيم إمام" و"حمدي قنديل" مصريا الجنسية وقنديل كان مدرباً للفنون الصحفية، وعمل بعض المخرجين الصحفين المصريين في الصحف العراقية أمثال "علي منير، سيد عزت"، ما حفز الصحف ان تولي اهتماما للشكل والاخراج.
في عام 1973 سمحت السلطة للحزب الشيوعي العراقي اصدار صحيفة علنية، بعد "التحالف الجبهوي".وحين الشروع في تأسيسها لم يكن اصدارها بشكل يومي بالأمر اليسير، لضعف الامكانيات المالية والفنية المحدودة، فضلاً عن وجود صحف منافسة لها مثل "التآخي" التي يصدرها الحزب الديمقراطي الكردستاني، التي تولي اهتماماً كبيراً بالشأن المحلي وجريدة "الجمهورية " الحكومية التي اهتمت بالجانب الفني والثقافي.
كان تصور الكادرالحزبي القيادي يتعامل مع الجريدة بوصفها وسيلة لنشر أفكار الحزب، وايصالها لأعضائه متأثرين بتجربة الصحافة السرية " غير معنيين بالشكل واخراجها الفني" في حين كان هناك من الصحفيين المحترفين مثل فائق بطي، فخري كريم،مجيد الونداوي، يوسف الصائغ وآخرين.. يرون إن الجريدة يتوجب ان تكون عامة ليس للحزبيين فقط وعليها ان تنافس الصحف اليومية آنذاك، وان تولي اهتماماً كبيراً في الشكل والاخراج والطباعة.
صدر العدد "صفر" في 11/9/1973 بماكيت صممه وخّطَ ترويسته الفنان الراحل محمد سعيد الصكاربقياس تابلويد "القياس النصفي" وأشرف على طباعته الزميل ليث الحمداني، لكنه لم يكتب له النجاح مثلما مرسوم له، وذلك لصعوبة تنفيذه في إمكانيات المطبعة المتواضعة، فضلاً عن اعتراض البعض على شكل الترويسة وصعوبة قراءتها. في 16/9/1973 صدر العدد الأول بنفس الماكيت وترويسة بخط الرقعة، خطها الفنان الراحل كنعان هادي ومتابعة الأدارة الفنية في تنفيد الماكيت قدر المستطاع.. استقطب القسم الفني منذ العدد الأول مجموعة كبيرة من الفنانين وهم: جمال العتابي خطاط الجريدة الأول، الشهيد سامي العتابي، محمود حمد، صادق الصائغ، عزيز النائب، وآخرين.. كانت الفنانة عفيفة لعيبي في مقدمة الرسامين ويشاركها عدد آخر من الفنانين إبراهيم رشيد، وحميد عبد الحسين في رسم التخطيطات والموتيفات، والفنانين مؤيد نعمة ونبيل يعقوب في رسم الكاريكاتير اليومي على الصفحة الاخيرة، وانضم فيما بعد كل من مصطفى أحمد، لؤي رشيد، فلاح حميد، رحمن الجابري، سلام الشيخ، صفاء العتابي، عبد علي طعمة وآخرين.
ومع قرار تغيير قياس الجريدة والانتقال للحجم الكبير، وضع الشهيد سامي العتابي بمعية رئيس القسم الفني ليث الحمداني وبدعم فائق بطي، ماكيتاً جديداً، وقررت هيئة التحرير العمل بموجبه، كونه أكثر انسجاماً مع امكانيات ماكنة الطباعة، التي تعد أول ماكنة طبعت فيها الجريدة الشيوعية الألمانية قبل وخلال الحرب العالمية الثانية وأيام النازية، وبعد زيارة وفد من الحزب الشيوعي الألماني لمطبعة الحزب، تقرر نقلها الى متحف الحزب في المانيا والتعويض عنها بماكنة أوفسيت ألمانية الصنع.
ومع تغيير الماكيت ارتأت هيئة التحرير الى استبدال الترويسة بخط الثلث، المشابهه لترويسة "اتحاد الشعب" والمعمول بها في صدورها العلني والسري ولغاية الآن، مشق حروفها الخطاط الراحل مهدي الجبوري، ولم يذيلها بتوقيعه خوفاً من متابعة رجال الاجهزة الأمنية القمعية له واعتذر بأدب جم عن ذلك.
انضم الى الكادر الفني للمطبعة الشهيد سعدون علاء الدين كمدير للمطبعة، وهو من أمهر ثلاثة طباعين أوفسيت في العراق، والشهيد هادي صالح، والطباع خالد علي، وأول عدد ظهرت فيه الهوية البصرية للجريدة هو العدد الخاص المكرس للذكرى الأربعين لتأسيس الحزب تصدر صفحته الأولى ملصق للفنان جودت حسيب، والذي ساعد في طبعه الراحل يحيى ثنيان، وبذل القسم الفني قصارى جهودهم في إخراجه وشارك في رسوماته كبار الفنانين التشكيليين وهم: محمود صبري، فيصل لعيبي، صلاح جياد، يحيى الشيخ، خالد النائب عفيفة لعيبية واخرين. ويٌعد هذا العدد من أفضل الأعداد الاحتفالية في تاريخ الحزب، وكان وراء نجاحه، المصمم الأساسي له الشهيد سامي العتابي، محمود حمد، جمال العتابي، مصطفى احمد، مع فنيي المطبعة بيمان سعيد، علي الجبوري، عفان جاسم، رحيم فالح، جابر سفر وآخرين، وبأشراف من قبل رئيس القسم الفني ليث الحمداني.
واستكمالاً لهويتها البصرية فقد شرع "صادق الصائغ وسامي العتابي" في انجاز تصميم أبجدية للحرف الطباعي لكل منهما أبجديته الخاصة به، طبعت على الورق ويقوم المنفذون بقصها وتجميعها لعناوين المقالات.
ولأول مرة في تاريخ الصحافة العراقية تفرد للصورة الفوتوغرافية مساحة كبيرة، كونها عنصر جمالي وادخال الرسوم والموتيفات في الموضوعات وتدرجات الشبك واللون ودمج اللونين"الاسود والأحمر" المسمى "دوتون". وبالرغم من ان الشكل الجديد لفت أنظار الصحفيين العاملين بالصحف اليومية الأخرى وأشادوا به. وراحو محاولين تغيير ماكيت صحفهم. إذ ان "طريق الشعب" اتبعت المدرسة الاخراجية الحديثة، في حين كانت الصحف في وقتها تتبع المدرسة المعتدلة في اخراجها،
لكن كانت ثمة اعتراضات من بعض قادة الحزب في حول مساحات الصورواستخدام الفضاءات حول العناوين اللون، يذكر ليث الحمداني في كتابه "أوراق ذاكرة عراقية" الصادر عن مطبعة الاديب البغدادية عام 2016 في ص 125 يقول:
((استدعاني رئيس التحرير عبد الرزاق الصافي وبحضور عضو اللجنة المركزية للحزب زكي خيري مستغرباً من شكل الجريدة قائلاً له " هاي شنو؟؟ قابل أحنه مجلة الشبكة"؟؟ وهو يشير لكبر حجم الصور الفوتوغرافية.. فقلت له: هل الهدف هو ايصال الجريدة للحزبيين فقط يارفيق؟ فأجابني بهدوء، الهدف ايصالها لعامة الناس. وأجبته بسرعة ونحن هدفنا نصمم جريدة عامة وليست حزبية)).
لم تكن "طريق الشعب" متميزة لوحدها بل امتد ذلك التميز للمطبوعات الأخرى، جريدة الفكر الجديد،ومجلة الثقافة الجديدة، ومطبوعات دار الرواد.
تعدّ تجربة "طريق الشعب" الاخراجية، الاولى بين الصحف في ارساء تقاليد مهنية ومنهجية اهتمت بوحدة الشكل وجماليته الظاهرة في إخراج الصفحات، بما يعطي للقارىء إحساساً بالراحة والمتعة في تصفح صفحاتها الثمان. حينها كان العمل شاقاً ومضنياً ينجز يدوياً ويتطلب الدقة والابداع ليظهر بنتائج مبهرة.
تحية إجلال وإكبار للعاملين في القسم الفني وفنيي اقسام المطبعة، والذكر الطيب والوفاء للشهداء والراحلين الذي تركوا بصمة جمالية كبيرة في تاريخ الصحافة العراقية، وصحافة الاحزاب الشيوعية.
**************************************
الصحافة اليسارية في العصر الرقمي
حسن الجنابي
علاقتي بالصحافة اليسارية بدأت في أوائل السبعينيات مع صحيفة "طريق الشعب" العلنية، التي كانت قد تصدرت المشهد الصحفي العراقي بمضامينها المتقدمة والمتحدّية والناهضة كبديل للصحافة الرسمية البعثية المستفزة.
عبّر ذلك البروز البهي لجريدة غير حكومية عن نوازع مكبوتة وآمال سياسية مقموعة، كانت تحلم بحرية الكلمة، التي استشهد في سبيلها كوكبة من خيرة أبناء الشعب على مر العقود. حظيت صحيفة "طريق الشعب" العلنية بالتفاف جمهور واسع من مختلف فئات المجتمع، واستقطبت كتّاباً وقرّاءً كثر، وتفتحت على صفحاتها مواهب مغيبة، شغلت فيما بعد وبجدارة الحيز الثقافي والأدبي والسياسي العراقي.
أتذكر بشعور من النوستالجيا المحببة إيقاع الحركة السياسية الناهضة في الجامعة حينها، والدور الذي لعبته جريدة يومية، مثّلت حلماً أو وعداً بالحرية والانفتاح في ظلال صعود مرعب لحكمٍ استعار من الفاشية أبشع أساليبها، ومن التراث أكثر محطاته قمعاً وظلاميةً، ومن طغاة التاريخ كل قدراتهم بالفتك وإيقاع الأذى بالرعايا قبل الأعداء.
استمرت العلاقة بالصحافة اليسارية والمعارضة في المنافي الواسعة إلى أن قررتُ في ليلة ما في أواخر عام 1990 بأن أجرّب الكتابة في تلك الصحف، التي كنت أتابعها بشغف، وكانت تذكرني بأن لنا وطناً مستباحاً لكنه على وشك استعادة كبريائه ووحدته المهددة.
بعثت المقالة الأولى على عنوان بريدي فأرجعت لي بعد اسبوعين بملاحظات بقلم محرر ماهر، كنت أعرف عنه دون أن ألتقيه، هو المرحوم الدكتور غانم حمدون. أرجعتها بعد الأخذ بالملاحظات، ونُشرت المقالة في المجلة العريقة "الثقافة الجديدة" آنذاك.
كانت تلك البداية الحقيقية لرحلة الكتابة بالتعاون مع الراحل د. غانم حمدون. ومع استمرار صدور "طريق الشعب " ومجلة "الثقافة الجديدة"، أطلق الأستاذ فخري كريم مجلة "النهج" اليسارية الرائدة، ثم مجلة "المدى" المعنية بالثقافة والأدب والفن، التي نشرت فيما بعد ترجمتي لكتاب "العودة إلى الأهوار" للكاتب البريطاني غافن يانغ في أواسط التسعينيات، فشعرت باعتزاز مضاعف، شجعني على الاستمرار في الكتابة إلى هذه اللحظة.
عادت الصحف من المنافي إلى وطن جريح ومحتل، ومجتمع أنهكته الحروب بعد عام 2003 لتواصل مسيرتها العلنية مجدداً في ظروف مختلفة سياسياً. لم يعد كتّاب المقالات والأعمدة والأخبار مهددون بالموت، لكن الصحافة نفسها، أو على الأقل المطبوعة منها، مهددة بالموت، ليس بسبب الرقابة بل بسبب التكنولوجية والعصر الرقمي ووسائل التواصل، والعدد اللامحدود من المنابر والمواقع، وسهولة النشر والانفلات التام من الرقابة، ليس بمعناها البوليسي بل المهني المعني بمعايير النشر والرصانة، وأخيراً التمويل!
كان ذلك تحدياً كبيراً لم تسلم من عواقبه أكبر الصحف العالمية، فكيف بصحافة يسارية في المنافي بعد ثلاثة عقود من القمع والملاحقة والحصار؟
سيبقى هذا التحدي قائماً، والصحافة بكل تنوعها السياسي والتجاري، ستواجه احتمالات التلاشي ان لم تواكب التحول الهائل في صناعة المحتوى وتقديم الخبر، وسرعة تداول المعلومة، وتطوير التطبيقات الجاذبة، ودراسة اهتمامات القراء والمتابعين، ودخول حقول المنافسة بمقاربة تفاعلية على مواقع التواصل الاجتماعي وغير ذلك الكثير.
كمتابع للشأن العام، يهمني بقاء الصحافة اليسارية في حقل المنافسة لتقديم المعلومة الصحيحة للمواطنين في هذا المحيط الهائل من المعلومات، وهي ليست مهمة مستحيلة بل ممكنة، وأعتقد بأن ذلك سيكون جزءاً من الوفاء للصحافة الشيوعية واليسارية العريقة التي انطلقت في العراق قبل تسعين عاماً.
***********************************************
الصفحة الحادية عشر
الصحافة الشيوعية في العراق: أشجارها مثمرة بالمصابيح
مقداد مسعود
الشيوعيون العراقيون، موانع صواعق وطنهم، يتوجهون نحو الضروري والنافع والجميل، يستهدفون الحيز فيستحيل بجهودهم فضاءً للحرية المشروطة بالوعي الخلاق. العلامة التي تستدل بها الشرطة على الشيوعيين هي: الجريدة التي تحتوي كتابا ً..
تقترن صحف الحزب الشيوعي العراق بنسق رباعي، عروتهُ الوثقى مفردة (الشعب).. أول جريدة شيوعية عراقية هي (كفاح الشعب) وقد صدر العدد الأول منها في تموز 1935 وتم توزيعها سريا وهي بثماني صفحات من نصف حجم الصحف العلنية. صدور جريدة (كفاح الشعب) قد أقلق الحكومة وأعوانها وأسعد الجماهير الفقيرة وبسبب حقد وغيرة الصحف الحكومية وشقيقاتها وبشهادة المناضل المخضرم زكي خيري كانت هذه الصحف (تعيرنا بسرية نشرنا، كلما استشاطت غضبا علينا) كان لصحيفة (كفاح الشعب) قراءً يترقبونها بلهفة، وكان يجرى توزيعها عبر تنظيمات الحزب. وصدر منها خمسة إعداد، وحين ألقي القبض على كادر الجريدة، صدر العدد السادس وهم في المعتقل!! ومن الصحافة الشيوعية تعلمت الاحزاب الوطنية دروسا شتى في هذا المجال
الصحيفة الثانية للحزب الشيوعي العراقي هي (اتحاد الشعب) في 1959 انتقل من السرية إلى العلنية وكان المناضل عبد القادر إسماعيل البستاني يشغل منصب رئيس التحرير، ومن الصحفيين المتألقين كان أبوسعيد من خلال عموده الصحفي الجريء. وكانت الجريدة يومية بلغ رصيد توزيعها ثلاثين ألف نسخة.. في 1961 ساندت الجريدة مطاليب عمال السكائر كما ساندت إضراب أصحاب سيارات الأجرة، زجت الشرطة المضربين بالسجون، وعطلت الحكومة جريدة (اتحاد الشعب) لكن الحزب كان لديه احتياط امتياز لإصدار جريدة (صوت الشعب) لصاحبها محمد حسين أبو العيس، فصدرت (صوت الشعب) بعد أن قرر المكتب السياسي إصدارها لمواصلة تأييد الإضراب وبعد أسبوع أغلقت الحكومة جريدة (صوت الشعب).. ولم يتوقف النشاط الصحفي، صار الحزب ينشر مقالاته في صحيفة (14 تموز) لصاحبتها نعيمة الوكيل.
منذ السبعينات ولهذه اللحظة لدينا (طريق الشعب) تنوعت مواضيعها وصار لها ملحقا ثقافيا في كل شهر.. لكن (طريق الشعب) مثل كل الصحف، ينافسها أخطبوط التقنية المتسارع في بث الخبر واستقطاب كل ما يجري في العالم. ثقافيا وسياسيا ومجتمعيا وعلميا..
(2-2)
1942 الجواهري يحتسي الشاي في الطابق الأول المخصص لعائلته، الطابق الثاني خصصه، لا دارة تحرير الجريدة، يتوجه أحد عمال المطبعة، فيعرف من العامل، بمقدم ضيفين، يرتقي سلّم الطابق الثاني يرى شخصين أحداهما من معارف الجواهري، أما الثاني فهو لأول مرة يراه الجواهري. يستل الرجل حزمة أوراق مخاطبا الجواهري (هذه مقالة، إن رضيت عنها فبوسعك نشرها.. ولك الفضل)) الجواهري ينادي عاملاً في الجريدة ويطلب منه أن تكون هذه المقالة افتتاحية لعدد الغد من الجريدة. يحدق الرجل كاتب المقال في وجه الجواهري بذهول وتعجب: (يا أستاذ، ألا تريد أن تقرأ ما فيها أولا؟) بكل الحب، والفخر، يجيبه الجواهري الكبير: (لا، لن أقرأ ما تكتبه أنت).. في اليوم التالي المقالة افتتاحية الجريدة. المثقفون العراقيون أعلنوا بصوت واحد: أن هذه المقالة بقلم الرفيق فهد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، فهو ضليع بهذه المواضيع. كان المقال في صميم الاقتصاد العراقي، يومها كان العراق في ضائقة اقتصادية. أن هذا الوعي النضالي الجديد، وحدهُ من يعرف كيف يصوغ الفكر الاقتصادي صياغة صحفية يستوعبها القارئ العادي والقارئ المثقف. والصحف لها دويها آنذاك وقد استعمل الشيوعيون العراقيون الكتابة في الصحف، بطريقة علمية مبسّطة تصل إلى قلب القارئ وعقله في الوقت نفسه
لأن المثقف اليساري حسين الرحال دشن خطوة صحفية مغايرة للنسق السائد، لها أهدافها التنويرية صنعت يقظة ً ثرية ً للناس. في بدايات القرن العشرين، اغلب موضوعاتها حول الفكر السياسي الموائم لسمات العصر الاشتراكي، وكانت (الصحيفة) تندد بالخرافات والفكر الراكد رغم أن الحكومة العراقية في 27نيسان 1926 وبالاتفاق مع القاهرة، أعلنت مكافحة الشيوعية على الصعيد العربي.
في الشهور الأخيرة من 1953 اشتعلت بصرة المعتزلة اشتعالا مدويا جسدّه إضراب العمال في شركة نفط البصرة، يومها كان الرفيق سلام عادل قد تسلم قيادة تنظيم المنطقة الجنوبية، وبوعيه النضالي كان سلام عادل متواجدا يوميا ضمن لجنة الإضراب في الساحة، وقد بادر سلام عادل وتم تشكيل لجنة أخرى هي(لجنة المفاوضات) وكان سلام عادل يتواجد بصفته مراسلاً صحفيا لجريدة (اتحاد العمال ) وكانت الصحفية سرية التوزيع، وكان الرفيق سلام عادل يقوم بأجراء المقابلات مع مختلف القادة العماليين وبهذه الطريقة الميدانية يتعلم القائد منهم ويساعدهم على تعلم المبادئ النضالية الأساسية.
فهد وسلام عادل قائدان شيوعيان يتعلمان من الحراك النضالي، كيفيات تثوير الوعي الجمعي من خلال الفعل الصحفي اقتصاديا وسياسيا
في العراق وتحديدا ضمن الحقبة الملكية، الصحافة كانت من نوعين صحافة الحكومة وصحافة المعارضة اللينة، التي تحتاجها الحكومة لتؤكد على المناخ الديمقراطي. وعلى الجانب الآخر هناك الصحافة الثورية ذات التوجه اليساري. وكان حسين الرحال مشعل الفكر اليساري العراقي، واستطاع هذا الثوري الريادي، ان يستعمل الحيز الصحفي، وكان ينشر مقالاته اليسارية بأسماء مستعارة، حفاظاً على راتبه الذي يتقاضاه من الحكومة وتنوع نشاطه الصحفي في المجلات والصحف العراقية والأجنبية. وهنا لدينا نخبة يسارية تستعمل الصحف وسيلة لبث الفكر التقدمي: حسين الرحال/ الأديب محمود أحمد السيد/ محمد سليم فتاح/ أمينة ارحال: شقيقة حسين الرحال / عوني بكر صدقي/ مصطفى علي/ وكان للرحال وسليم مفتاح مقالات في الصحف الرسمية الفرنسية. ومن هذه الأسماء تشكلت أولى الحلقات الماركسية. التي استقبلت نشاطها بكل ترحاب الصحف الاجنبية والعراقية، منها صحيفة اليقين، وصحيفة الاستقلال البغدادية وصحيفة العالم العربي، واشترك حسين الرحال مع الصحفي العراقي (ميخائيل تيسي) في إصدار صحيفة (سينما الحياة) في 17 كانون الأول 1926 وكان مديرها المسؤول حسين الرحال. وكانت (سينما الحياة) صحيفة ذات توجهات ماركسية. ورغم نباح السلطة آنذاك على هذه الأنشطة الصحفية الثورية، انبثقت أول صحيفة عمالية عراقية اسمها(الصنائع) 1930 ورفضت السلطات العراقية أن يكون عنوان الصحيفة (صوت العامل).. كل هذا الحراك الثقافي التقدمي قاد العراقيين إلى يقظة وطنية جديدة مظلتها الصحافة الشيوعية في العراق
الصحافة الشيوعية في العراق استقطبت المثقفين، واحتضنت الشعراء والأدباء والمسرحيين، وجعلت منهم كوادر صحفية في صفحات جريدة طريق الشعب، وصدر في سبعينات القرن الماضي (الملحق الشعري) شارك فيها مجموعة من الشعراء العراقيين: مهدي محمد علي. عبد الكريم كاصد. مصطفى عبد الله. هاشم شفيق. عبد الزهرة زكي. شاكر لعيبي.. وعذراً إذا نيست آخرين.. وكان الوسط الثقافي يترقب كل سبت (الفكر الجديد) التي كانت تصدر بالعربية والكردية
في منتصف سبعينات القرن الماضي كنتُ اعمل ضمن المكتب الصحفي لمحلية حزبنا الشيوعي في البصرة، كان مقر حزبنا في منطقة العباسية، ولنا مقر آخر في منطقة العزيزية، في الشارع الفرعي القريب من شط العرب، وكان المكتب الصحفي برئاسة الرفيق أكرم حسين (أبو سامر) وأعضاء المكتب: القاص جليل المياحي والشاعران عبد الكريم كاصد ومصطفى عبد الله وساهرة عبد الكريم زوجة الشاعر مصطفى عبد الله والرفيق حسن الملاك. وأصغرهم سناً مقداد مسعود، في ضحى الذكرى الأربعين لميلاد حزبنا، وصلتنا من بغداد (الموسوعة الصحفية) بغلافها الأحمر الأنيق وهي من تأليف الصحفي الكبير فائق بطي ثم سلمتني اللجنة المحلية ثلاثين نسخة وهي حصة تنظيم اتحاد الطلبة وبعد فترة طلبنا المزيد من النسخة ولكن لم نحصل عليها. كانت الموسوعة بسعر مناسب وكان الجميع يتلقفها بشغف معرفي لا مثيل له. وذات يوم أثناء العطلة الصيفية 1975 رشحتني اللجنة المحلية للحزب، لدورة صحفية في بغداد. وكان المحاضرون رفاقنا: زكي خيري. عبد الرزاق الصافي، كاظم حبيب. أبو كاطع. وقد وزعت علينا المحاضرات مطبوعةً. تعلمت ُ من هذه المحاضرات ما كنت احتاجه، خصوصا وأنا يومها وبالتحديد 1975 قد فزت بالجائزة النقدية الأولى ضمن المسابقة السنوية التي تقيمها مديرية تربية البصرة وكان عنوان مقالتي (الإشارات والرموز في (الجريمة) المجموعة القصصية للروائي نجيب محفوظ، وكنت مسؤولا في البصرة عن صفحة الطلبة والشباب في صحيفة (طريق الشعب) من خلال عملي ضمن المكتب الصحفي في اللجنة المحلية للحزب. بعد 2003 عملتُ مجدداً في (طريق الشعب) وتحديداً في الصفحة الثقافية، التي كان المشرّف عليها القاص والروائي الكبير حنون مجيد،
ساهمت ُ بنشر إبداعات الأدباء البصريين وإجراء حوارات معهم، كما كان لدي مساهماتي الخاصة في الصفحة، وحين أصبح المشرف على الصفحة الروائي الكبير عبد الكريم العبيدي، صار لي عمودا أسبوعيا (مسح ضوئي)
مع 1979 صار وضع حزبنا الشيوعي في خطر كبير، فالحزب الحاكم يطارد أعضاء الحزب، ويضيق الخناق علينا وكانت (طريق الشعب) تصل بصعوبة، وحين تصلنا في البصرة، كانت أمهاتنا يضعنا أعداد الجريدة في علاكة من خوص، وفوق أعداد الجريدة تكون أكياس الطماطة والباذنجان والخضراوات...
الأن تحديدا ً: ما هو مستقبل الصحف الورقية...؟ أمام أخطبوط التقنية...؟ وكم عدد القراء الأصلاء من خلال زجاج الحاسوب وزجاج الموبايل...؟
سؤالي ما قبل الأخير: كيف...؟ ولماذا...؟ اختفى الكاريكاتير من الصفحة الأخيرة؟
*************************************
صحافتنا الشيوعية مدرسة نضالية حقيقية
د. كاظم المقدادي
للصحافة الشيوعية العراقية تأريخ مجيد، حافل بالعمل الصحفي الملتزم والعطاء الثري، السياسي والفكري والثقافي، إلى جانب تنمية الوعي والفكر الحر والثقافة التقدمية، ولحشد شغيلة اليد والفكر، في الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الوطنية العليا، وفي النضال ضد الظلم والجور والاستبداد، متحدية أشرس الهجمات، والصعاب والتحديات، مواصلة مسيرتها المظفرة، صامدة ومتمسكة بقيم الحرية والإستقلال الناجز والدولة المدنية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة.
وقد كانت، طيلة العقود التسعة المنصرمة من عمرها المديد، مراَة صادقة وأمينة لنضالات حزب الشيوعيين العراقيين، معرفة بوثائق مؤتمراته الوطنية، ببرنامجه وتقاريره السياسية، وبنظامه الداخلي، موصلة لقرائها مواقفه الوطنية والاممية المواكبة للأحداث وللتطورات، مسترشدة بها في عملها اليومي.
ولقد تميزت مهنياً من خلال تمثيلهاً بكل جرأة وموضوعية لنبض الشارع العراقي، مبينة الواقع السائد للعراقيين والعراقيات، ومعاناتهم اليومية، ومطالبهم، وطموحاتهم المشروعة في الحياة الكريمة والمستقبل الأفضل.
وتحولت عملياً إلى نموذج متميز بنهجها الإعلامي المهني، وأصبحت في الواقع مدرسة حقيقية متطورة في السياسة والفكر والثقافة، في التنوير والتوعية، في الدعاية والترويج والتحريض والتعبئة.
في هذه المناسبة العزيزة علينا أود أن أعبر عن فخري واعتزازي لكوني كنت واحداً من المساهمين في "طريق الشعب" اليومية، وفي جريدة " الفكر الجديد"(بيري نوى) الأسبوعية، وفي مجلة " الثقافة الجديدة" الشهرية. ولا أغالي إذا قلت بأن فترة عملي في " طريق الشعب" العلنية، كمحرر طبي وعلمي، كانت من بين أجمل الأعوام التي عشتها، خلال الأعوام الـ 85 المنصرمة من حياتي. علماً بأنني لم أتخرج من كلية الصحافة والإعلام، لأنني لم أدرس الصحافة في أي كلية، وإنما تعلمت الكتابة بجهود ذاتية، وأصبحت تلميذاً نجيباً من تلاميذ مدرسة "اتحاد الشعب"، التي كنت مواظباً على قراءتها، وبنهم، متأثراً، بأسلوب كتابة افتتاحيتها، وبزاويتي "أبو سعيد" و "أبو كاطع"، وبالمقالات، والتحقيقات، التي كانت تنشرها.
ولست الوحيد الذي تتلمذ في مدرسة "اتحاد الشعب" / "طريق الشعب" العريقة، فقد تخرج المئات منها، وأصبحوا كوادر صحفية وإعلامية عراقية مرموقة، وما يزال العشرات منهم أحياء يرزقون..
انضممت إلى أسرة تحرير " طريق الشعب" في الأشهر الأولى من صدورها عام 1973، بعد أن أنهيت الخدمة العسكرية وعدت لعملي في بغداد. وواصلت العمل فيها حتى الشهر الأخير الذي سبق إغلاقها من قبل النظام البعثي في مطلع عام 1979، حيث طلب الرفاق مني الاختفاء بعد ان جرت محاولة فاشلة لاختطافي من قبل الأجهزة البعثية القمعية، وشرعت باعتقال حتى الشيوعيين المكشوفين، من ممثلي حزبنا، وأنا منهم.
أتشرف بأنني ساهمت برفد العديد من صفحات "طريق الشعب"، مثل: "شؤون عربية ودولية" و "ثقافة" و "المرأة" و"حياة الشعب" و " المهنية"، وغيرها، بالإضافة إلى "الثقافة الجديدة" و" الفكر الجديد"، بالمئات من الترجمات، والمقالات، والمتابعات، والدراسات، في مجالات الصحة، وطب المجتمع، والبيئة والتلوث البيئي، والسلامة المهنية، وفي قضايا الأمومة والطفولة، وغيرها..
طيلة تلك الفترة، كان رئيس تحرير "طريق الشعب" الرفيق الفقيد المحامي عبد الرزاق الصافي، ومدير تحريرها الصحفي المعروف فخري كريم، ومدير الإدارة المرحوم نوزاد نوري. وكان يعمل في أقسام الجريدة كوكبة لامعة من الكتاب والصحفيين والسياسيين والمفكرين، والشعراء والأدباء والمترجمين، والرسامين، الذين عاصرتهم، أذكر منهم: المرحوم شمران الياسري، المرحوم حميد بخش (أبو زكي)، المرحوم عزيز سباهي، المرحوم محمد كريم فتح الله، المرحوم عبد السلام الناصري، جلال الدباغ، المرحوم هادي العلوي، سلوى زكو، المرحوم د.فائق بطي، المرحوم إبراهيم الحريري، جيان، فاضل ثامر، المرحوم سعدي يوسف، المرحوم رشدي العامل، المرحوم يوسف الصائغ، عبد المنعم الأعسم، حميد الخاقاني، رضا الظاهر، صادق الصائغ، المرحوم عبد اللطيف الراوي، سعاد الجزائري، فاطمة المحسن، أبراهيم أحمد، د. مجيد الراضي، المرحوم محمد سعيد الصكار، المرحوم ليث الحمداني، المرحوم عدنان حسين، فاضل السلطاني، عامر بدر حسون، المرحوم د. فالح عبد الجبار، ياسين النصير، زهير الجزائري، د. نبيل ياسين، المرحومة رجاء الزنبوي، عبد اللطيف السعدي ، المرحوم د. صادق البلادي(حمدان يوسف)، المرحوم عبد الإله النعيمي، د. عصام الخفاجي، المرحوم د. محمد عارف، عبد الكريم كاصد، المرحوم فاضل العزاوي، جبار ياسين، عواد ناصر، د.محمد خلف، عبد جعفر، جمعة اللامي، د. محمد كامل عارف، المرحوم د. عدنان عاكف، هادي محمود، فيصل لعيبي، المرحوم مؤيد نعمة، عفيفة لعيبي ، فاضل الربيعي.. وهناك غيرهم بالتأكيد، أعتذر لمن فاتني ذكر أسمه- بسبب الشيخوخة ومتاعبها..
عملت أول الأمر في قسم " المنوعات"(الصفحة الأخيرة)، محرراً للزاوية الطبية. وقد تعاقب على رئاسة القسم كل من: المرحوم أبو كاطع، حميد الخاقاني، المرحوم مصطفى عبود، والمرحوم يوسف الصائغ..
كانت "الزاوية الطبية" أسبوعية، تصدر كل يوم ثلاثاء. وقد لعبت دوراً في نشر الوعي الصحي والثقافة الطبية الشعبية. ونظمت العديد من حملات التوعية الصحية التي تابعها اَلاف القراء، كل حملة كانت على مدى شهر كامل، ومنها: "ضد التدخين"، "ضد الكحول"، " ضد السل"، " ضد الكوليرا". والحملة الأخيرة تزامنت مع انتشار مرض الكوليرا في العراق عام 1976، وعلى أثرها نظمت وزارة الصحة برنامجاً إعلامياً أسبوعيا في التلفزيون يظهر فيه مسؤولون يتحدثون عن سبل الوقاية من الكوليرا، لكنهم كانوا يتجنبون الحديث عن أهمية التطعيم ضد الكوليرا لأن السلطة لم توفر الكميات الكافية منه للمواطنين، واقتصرت التطعيم على البعثيين..
في اليوم التالي نشرنا تعليقاً في "الزاوية الطبية" قلنا فيه ان المسؤول الذي خرج ليلة أمس على المواطنين بموعظة " التطعيم لا يفيد كثيراً في الوقاية" نسي أنه كان يتحدث وخلفه بوستر كبير أعدته منظمة الصحة العالمية يدعو إلى أهمية التطعيم ضد الكوليرا. بعد ذلك انهالت تلفونات المواطنين تطالب الوزارة " وفروا التطعيم إن كنتم حريصون علينا". واعترف معدوا البرنامج في الاسبوع التالي بان " طريق الشعب أحرجتنا "..
وعلى ذكر الصحة، فان صحافة حزبنا هي أول من دعا إلى الاهتمام بالطب الوقائي إلى جانب العلاجي. وكانت " طريق الشعب" هي أول صحيفة عراقية ساهم في تحريرها، وفي تقديم الاستشارات العلمية لقرائها، علماء وأطباء، في مقدمتهم العالم الجليل المرحوم محمد عبد اللطيف مطلب، والأطباء الأخصائيون: المرحوم عبد الصمد نعمان، المرحوم محمد صالح سميسم، والمرحوم صادق البلادي، وكذلك القانوني الشهيد د. صفاء الحافظ، وغيرهم.
في عام 1977 تطورت "الزاوية الطبية" إلى صفحة كاملة، أسميناها "طب علوم تقنية"، وكانت أسبوعية أيضاً. يحتوي كل عدد: أخبار وتقارير وتحقيقات علمية منوعة، بالإضافة لافتتاحية، تناولنا فيها قضايا صحية- طبية، وبيئية وعلمية هامة، تهم المجتمع العراقي. وكنا ننتقد التقصير والسلبيات، ونضع الحلول والمعالجات لها.
لم يكن عملنا سهلاً إطلاقاً، وساد، منذ عام 1975، ظرف سياسي متشنج، مقروناً بحملة معادية لحزبنا، كانت أول الأمر خفية، ثم أصبحت علنية وسافرة، انتهت بغلق الجريدة.. تلك الظروف فرضت علينا، كشيوعيين، صعوبات جمة، فكان علينا كإعلاميين البحث والإبداع باستمرار في سبل تحركنا، وفي مجمل عملنا، وبخاصة كيفية إيصال المعلومة المطلوبة، وصياغة الفكرة، وتحقيق الهدف منها، بحيث تمر على الرقيب، ولا تعرض الجريدة لمضايقات إضافية، في وقت كانت الأجهزة البعثية القمعية تترصد كل كلمة وكل صورة وكل رسم أو تخطيط.
ولكن.. مقابل الصعوبات، كانت تسود عملنا في الجريدة أجواء أخرى تخفف الأعباء وتسهل المهمة.. فلن أنسى أبدا ذلك الجو الرفاقي الحميم، والاحترام المتبادل، والعمل الجماعي، وتقدير الجهد المبذول، وما إلى ذلك، الذي كان يسود عملنا في الجريدة. وهنا أشير بأنني شخصياً لم ألمس من أي رفيق مسؤول في الجريدة استخفافا أو تعديا على أي مساهمة، لا بل أن أي تغيير يرتأيه رئيس القسم أو رئيس التحرير يتم بموافقة الكاتب. وقد طورت هذه الطريقة العديد من المحررين الشباب.
ولن أنسى أيضاً سمة التواضع الجم، التي لمستها وعايشتها، حيث لا فروق "طبقية"، ولا امتيازات، ولا تكبر، أو تعال، بين رئيس التحرير أو مدير التحرير وحتى أصغر محرر.. وكانت هذه السمات متجسدة في العمل اليومي، وفي اجتماعات الأقسام، واجتماعات مجلس التحرير الدورية، وحتى أثناء " لزم السره" في حديقة الجريدة، في شارع السعدون، بانتظار وجبة طعام الغداء من يد الرفيقة العزيزة أم جاسم، حيث يقف رئيس التحرير، أو مدير التحرير، أو مدير الإدارة، خلف أي محرر أو شغيل كان قد سبقه ليتناول وجبته..
إن مثل تلك الأجواء الحميمة، من جهة، وعظم المسؤولية، من جهة ثانية، ونحن نؤدي مهمة إعلامية وفكرية وسياسية، مطالبين بإنجازها على خير ما يرام، رغم كل العقبات، كانت هي المعين لنا على تخطي الصعوبات الكثيرة، خصوصاً في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وأتعسها العام الأخير من عمر الجريدة، منذ أن شرع البعثيون الأوباش بالمضايقات والاعتقالات والتعذيب بحق الشيوعيين، وبضمنهم عدد غير قليل من المحررين، ومحاولة إسقاطهم سياسياً.. لكن نظامهم المقيت ذهب إلى مزبلة التأريخ غير مأسوف عليه، بينما واصلت " طريق الشعب" و"الثقافة الجديدة" المسيرة النضالية والمهنية للصحافة الشيوعية العراقية..
ختاماً، أتمنى على قيادة حزبنا أن تطرح للمناقشة ضرورة عودة " طريق الشعب" يومية، وكيفية توسيع حجم قراءها. والتوجه للكتاب المعروفين، من رفاق وأصدقاء ومحبي الحزب، وحثهم وتشجيعهم لنشر مساهماتهم وإبداعاتهم، بضمان الانفتاح بصدر رحب، وتقبل الرأي الآخر، والنقد البناء، وإلغاء الرقابة الحزبية المتزمتة عن التحرير..
وكل عام وصحافتنا الشيوعية بخير!
*********************************************
الصفحة الثانية عشر
في عيد الصحافة الشيوعية العاملون في {طريق الشعب} يوثقون تجاربهم في مدرسة النضال والوعي
بغداد ـ طريق الشعب
في مناسبة الذكرى التسعين لانطلاقة الصحافة الشيوعية في العراق، يستعيد صحفيو "طريق الشعب" بعضاً من محطاتهم وتجاربهم، ليرسموا صورة حية عن معنى أن تكون الصحافة التزاماً أخلاقياً وموقفاً وطنياً، لا منبراً للتزيين والدعاية.
لم تنحصر تلك التجارب بالعمل الإعلامي، بل كانت صحافتهم مدرسة للنضال وصناعة الوعي.
مصطفى عبادة
يحلّ عيد الصحافة الشيوعية ليذكرنا بقيمة القلم الملتزم الذي لم يحِد يوماً عن صراط "طريق الشعب". إن الصحافة المبدئية تحتاج إلى شجاعة أكبر من أي مهنة أخرى؛ وكل خبر كتبته فيها كان أشبه بموقف شخصي تجاه الظلم والاستغلال والمعاناة.
تحية إجلال وإكبار لكل قلم جعل من الحقيقة عنوانا، ولكل صحفي شيوعي بقي وفياً لمبادئه وشعبه حتى النهاية.
مؤيد سعيد
عملت في "طريق الشعب" منذ سنوات طويلة، تعلمت فيها كل يوم درسا مختلفا وجديدا، فكانت تجربتي في الجريدة مميزة وفريدة بكل ما فيها. وفهمت منها أن مهمة الصحافة الحقيقية هي صناعة الوعي قبل الاخبار.
في عيد الصحفي الشيوعي، أبعث بأحر التهاني لكل الزملاء الذين جعلوا من القلم أداة نضال وفعلاً تغييرياً في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية.
هذا اليوم تجاوز كونه مجرد مناسبة احتفالية ليكون محطة لاستذكار مسيرة طويلة عُبدت بالتضحيات التي قدمها الصحفيون المبدئيون دفاعاً عن الحقيقة وحقوق الشعب.
رامي حامد
شكّلت "طريق الشعب" الجزء الأهم من مسيرتي المهنية، فقد غرست في داخلي قيمة الموقف، هناك تعلمت أن الصحافة الحقيقية تبدأ من الإيمان العميق بحق الناس في الحقيقة.
تحية قلبية ناصعة الى جميع كتّاب وقرّاء الصحافة الشيوعية في الذكرى التسعين لصدور أول جريدة شيوعية في العراق.
تحية وفاء الى من قدّموا أرواحهم ونذروا أعمارهم في سبيل الكلمة الصادقة، وإلى كل من يسهم في التحرير والتصميم والنشر لإيصال صوت الحقيقة ونقل معاناة الناس في زمن تُشترى فيه الذمم وتُشوه فيه الحقائق.
نورس حسن
عندما بدأت العمل كمراسلة ميدانية قبل عشر سنوات، كنت أحمل حقيبتي وقلمي وأسير بين الناس، أفتش عن الحقيقة وسط الضجيج والقمع والتهميش. لم تكن الصحافة الشيوعية بالنسبة لي مجرد مهنة، بل انتماء لفكرة، ودفاع عن حلم، وموقف لا يشترى ولا يباع.
في الذكرى التسعين لانطلاقة صحافتنا الشيوعية، أتذكر كل لحظة وقفت فيها أمام أبواب مغلقة، أو واجهت مسؤولا يتهرب من الأسئلة، أو اقتربت من صوت امرأة مسحوقة لا تجد من يروي حكايتها. في كل مرة، كانت "طريق الشعب" - وكل ما تمثله من تاريخ وتضحيات - سندي وظهري ووجهتي.
تبارك عبد المجيد
في يوم الصحافة الشيوعية، نقف بإجلال أمام تاريخ طويل ومعقد من النضال.. خضنا بين اروقتها تجربة رائعة تعلمنا فيها الكلمة المنحازة للطبقة العاملة، الكلمة التي لم تُشتر، ولم تساوم رغم كل المغريات والظروف، بل اختارت أن تكون على الدوام صوتا للفقراء، والمهمشين، والكادحين.
إنه يوم للاعتزاز، لا فقط بتاريخ صحافتنا الناصع والنظيف، بل بما تمثله هذه الصحافة المميزة في تاريخ العراق من موقف فكري وسياسي وأخلاقي، يوم نستذكر فيه المناضلين بالكلمة، الذين جعلوا من الصحافة أداة وعي وتنظيم وتحريض، لا ترفاً ثقافياً ولا واجهة إعلامية.
كل التحايا لرفيقات ورفاق هذا الطريق، ولكل من جعل من الصحافة سلاحاً في وجه الاستغلال والاضطهاد.
محمد التميمي
في عيد الصحافة الشيوعية، أبعث أسمى التهاني الى رفاق الكلمة الحرة في "طريق الشعب"، أولئك الذين اختاروا منذ البداية أن تكون صحافتهم ساحة نضال لا منبر تزيين وتطبيل وتهليل للسلطة، ولمن جعلوا من صحافتهم رسالة نضال وكلمة حق لا تخشى بطش السلطة ولا إغراءات المال السياسي.
لا يسعني الا توجيه تحية تقدير لكل من صنع مجدها وتاريخها التسعيني، وكل عام وأنتم أوفى للرسالة التي ربت أجيالًا. وكل عام وكل صحفي شيوعي يزداد إصراراً على أن تكون الكلمة بوصلة للوعي وركيزةً في معركة التغيير المنشود.
حمزة العلوچي
كانت تجربتي في "طريق الشعب" فرصة لاكتشاف أن الصحافة الحقيقية هي فعل للتغيير لا مجرد نقل أخبار، كما شعرت أنني أساهم مع زملائي في بناء وعي جمعي لا يمكن شراؤه أو تزييفه.
لكل الزملاء في "طريق الشعب".. إنكم بحضوركم وشجاعتكم تثبتون أن الكلمة الحرة يمكن أن تهزّ أركان الظلم وتفتح أبواب الأمل أمام المقهورين.
ليث محمد
من خلال "طريق الشعب" فهمت أن الكلمة الصادقة هي أقوى أداة لمواجهة التضليل والفساد، التجربة في هذه المؤسسة منحتني إيماناً بأن الصحافة يمكن أن تغير حياة الناس فعلاً.
أبعث بتحية اعتزاز لكل زميل اختار أن يكون صوتاً للطبقة العاملة ووجداناً للمقهورين، وان يتحول الى منصة منحازة تدافع عن حقوق الناس المغتصبة.
مصطفى أحمد
يأتي عيد الصحافة الشيوعية في ظروف حسسها تعيشها الحياة الصحفية في البلاد، وسط موجة تقييد وكبت واسع غير مسبوق للحريات الصحفية. ولعل هذه المناسبة هي تأكيد بأن القلم الحر لا يمكن أن يُشترى أو يؤجر.
أهنئ كل الصحفيين وبالاخص زملائي الذين حملوا همّ الدفاع عن المظلومين وجعلوا الصحافة وسيلة مقاومة للاستغلال والظلم.
علي حيدر
من خلال تجربتنا في "طريق الشعب" فهمنا أن الصحافة الحقيقية تصنع وعياً قبل أن تصنع أخباراً، وان كل مادة تكتب ينبغي ان يتحمل الصحفي الحقيقي مسؤولياته فيها تجاه مجتمعه وقضاياه.
هذه المناسبة عزيزة لكونها امتدادا لطريق طويل من التضحيات التي قدّمها الصحفيون الشيوعيون دفاعاً عن الحقيقة والعدالة الاجتماعية.
زين العابدين يوسف
في الذكرى التسعين لصدور أول جريدة شيوعية في العراق، أبعث بأحرّ التهاني إلى جميع العاملين في الصحافة الشيوعية وقرّائها الأوفياء. كانت بدايتي الصحفية في "طريق الشعب" نقطة تحول في حياتي المهنية، ومنها أدركت أن الصحفي الذي يبيع قلمه يفقد ذاته قبل أن يفقد مهنته
كانت خطوتنا الاولى عبر "طريق الشعب"، فهي بالنسبة لنا اكبر من كونها مجرد مؤسسة او صحيفة، فهي تحمل قيمة معنوية كبيرة في داخلنا، نعتبرها مدرسة للنضال وميدانا لترسيخ قيم الحرية والعدالة الاجتماعية.
فياض خيون
في عيد الصحافة الشيوعي، لا ننسى ان نتقدم بالشكر لعشرات او مئات ممن جعلوا من الصحافة ميداناً للنضال ووسيلة للتغير لا للتربح والابتزاز والحصول على مكاسب.
اعتبر "طريق الشعب" مدرسة علّمتني الكثير، لا سيما انني عملت بين زملاء يرون في الصحافة واجباً وطنياً لا وظيفةً روتينية، واستنبطت في تجربتي الكثير من الدروس والعبر.
علي شغاتي
منذ أن التحقتُ بـ "طريق الشعب" قبل 8 سنوات شعرت أنني انصهرت وصرت جزءا من مشروع وطني كبير لا مؤسسة إعلامية، وتعلمت من خلال هذه التجربة أن الصحافة التزام أخلاقي قبل أن تكون مهنة، وأن صوت الناس هو البوصلة الوحيدة للصحفي.
ولكل الصحفيين الشيوعيين في عيدهم الأغر، نزف أحر التهاني والتبريكات تقديراً لدورهم في حمل أمانة الكلمة والدفاع عن الفقراء والمهمشين.
كل عام وأنتم أوفى للأرض وللناس وللقيم التي تناضلون من أجلها.
************************************
اما بعد.. تسعون عاما من الفخر
منى سعيد
"طريق الشعب" عتبتي الأولى في الصحافة انتميت لها وأنا شابة مليئة بالطموح والتحدي مؤمنة بتحقيق وطن حر وشعب سعيد، انشد مع رفاقي ونحن متوجهين للمطبعة حيث عملت في قسم المونتاج أولا، أغنية فيروز بعد تحويرها "إحنا والأمن جيران" أثناء مرورنا بين بيوت ودهاليز مديرية الأمن العامة حتى نصلها في منطقة السعدون – القصر الأبيض.
جمعتني الجريدة بأرقى الخَلق من كتاب وفنانين وأدباء وبرفاق من الشباب تعاونوا جميعا على إصدار الصحيفة بأفضل ما أمكن شكلا ومضمونا.. فنافست جريدتنا بقية الصحف بمضمونها أولا وبما كانت تطرح من موضوعات تخص حياة الناس وتطلعاتهم، إلى جانب عنايتها البالغة بالجانب الثقافي التوعوي، فكانت دليلا، بل ومنهجا لسبل حياة أفضل.
كنت محظوظة حقا بتلقي دروسي الأولى في الكتابة الصحفية بعد تخرجي من الجامعة والتحاقي بقسم التحرير في مبنى الجريدة المطل على شارع أبي نؤاس. وبكل تواضع واهتمام كان الجميع يتابع ما اكتب، خصوصا رئيس التحرير الرفيق الراحل عبد الرزاق الصافي، الذي كان يقدم خدماته في إيصالنا، أنا وزوجي الشهيد سامي العتابي الى بيتنا بسيارة الجريدة.
عملنا بجد ونحن نبحث عن مصادرنا ونقرأ لتحليل موضوعاتنا ساعين لتقديم مادة تليق بحزبنا متبعين خطى الرفيق فهد الذي عمل صحفيا في صحف عديدة قبل تفرغه للعمل الحزبي.
اللافت للانتباه هو عمل المرأة العراقية في صحافة الحزب فلها ريادتها في الصحافة التقدمية النسوية ، وبحسب تقرير للسيدة شاميران أوديشو رئيسة رابطة المرأة العراقية ، تذكر أنها من أولى المنابر التي فتحت أبوابها للنساء الكاتبات والصحفيات، فأسهمت المرأة الشيوعية في إدارة صحف نسوية مثل "نضال المرأة " في عام 1959. وبرزت أسماء صحفيات مرموقات مثل نزيهة الدليمي التي لم تكن الوزيرة الأولى والوحيدة في العراق والعالم العربي آنذاك حسب، بل صحفية ساهمت في مقالات وتحليلات قيمة في الصحف الشيوعية، وأسماء أخرى مثل زينب كاظم، وثمينة ناجي يوسف، ونضال النقاش.. وجميعهن عُرفن بنضالاتهن السياسية وصمودهن خلال فترات القمع السياسي. إذ ساهمن في طباعة ونشر وتوزيع الصحف السرية مثل "القاعدة" و"طريق الشعب".
وهنا استذكر الأغنية الشهيرة لفرقة الطريق التي أشَّرت نضالهن أثناء توزيع الجريدة والمناشير بلحن وكلمات عذبة تذكر "مكبعة ورحت أمشي يمه بالدرابين الفقيرة/ يمه يمه/ وسط فيّ وشمس يمه وآنا من ديرة على ديرة/ وزعت كل المناشير وخبرهم / ومن مشيت عيوني ما تيهت دربهم ، سلمتهم يمه يمه آخر أعداد الجريدة ..".
في العيد التسعين نستذكر بفخر واعتزاز شهداء الصحافة الشيوعية المناضلين، ولا بد لي من شكر وفاء لجنة الإعلام المركزي للحزب الشيوعي التي وضعت صورة زوجي الشهيد سامي العتابي مصمم الجريدة وصورتي خلفه في المعرض الفوتوغرافي الذي نظم أخيرا بالمناسبة على قاعة منتدى بيتنا الثقافي.
******************************************
أغضبتُ طارق عزيز فانذر {طريق الشعب} بالإغلاق
عبد المنعم الأعسم
في تموز من عام 1973 وقّع الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم وثيقة الجبهة الوطنية، في ظروف شديدة الالتباس والحذر، ومسموعات، ووجهات نظر كثيرة عن النيات والضرورات، الامر الذي أخضِع (في ما بعد) الى بحوث ودراسات وتدوينات والى تقديرات ووجهات نظر، لا تدخل خاطرتي هذه ساحتها الآن، بل تلتقط من تلك الايام حادثة واحدة تصلح ان تكون مثلا، بالغ الدلالة، عن الرقابة البوليسية القمعية التي كانت السلطة تحيط عملنا ومهماتنا، وهي، الى ذلك، قلادة على صدر جريدة الحزب "طريق الشعب" التي كانت، قيادة وادارة ومحررين، تواجه عسفا يوميا، ومهمة وعرة، وهي تخوض معركة الدفاع عن قضايا الشعب والذود عن الثقافة الوطنية والخبز والحرية، إذ تعرض العاملون فيها، في غضون ست سنوات من عمرها العلني الى ابشع اعمال التنكيل والملاحقة والاعتقال، واستشهدت كوكبة من أروع ابنائها في امثولات بطولية لا نظير لها.
ففي اواسط شهر تشرين الثاني العام 1973 عُقد مؤتمر للجان الجبهة في المحافظات في قاعة الخلد، برعاية صدام حسين، وكنتُ قد انتدبت الى المؤتمر كمراسل لجريدة الحزب، وقد صودرت مني الاوراق والكاميرا، كما صودرت من جميع المندوبين، وزوّدنا بأوراق واقلام محدودة، ودخل صدام القاعة بطريقة استعراضية معروفة، ومن دون ترحيب تفرضه بروتوكولات اللقاءات الرسمية، تحدث عن مفهوم الحزب الحاكم للجبهة وذلك في عبارات متقطعة ومتضاربة ومفككة عدا عن انها تفيض بالغطرسة والمِنّة والتوعد، مشددا على "الدور التاريخي" لحزب البكر - صدام مع عبارات لوم مبطنة لمنظمات الحزب الشيوعي العراقي التي قال "انها لم تستوعب" مسؤولية "الحزب القائد".
وكنت احاول ان اسجل كل كلماته وعباراته، واحسب ان اي صحفي مهما أوتي من قوة التركيز وموهبة التسجيل السريع لا يخرج مما سمعه من كلمة صدام حسين بعشرة سطور متماسكة، وصالحة للنشر، في تلك الظروف، لكن الاهم هو ما بعد الكلمة، من اسئلة ومناقشات وما طرحة الرفاق، مندوبو الحزب، من وقائع التضييقات واعمال الاعتقال والتمييز من قبل اجهزة الامن ومنظمات البعث الحاكم، وطلب الرفيق الشهيد فكرت جاويد تفسيرات واضحة لسياسة الاقصاء والاعتقالات بحق الشيوعيين، وقد اغتيل بعد شهور من هذا اللقاء، وكانت مداخلة الرفيق عادل سليم حول تاريخ الحزب الشيوعي وافضاله على الحركة الوطنية العراقية قد استفزّت صدام فكان جوابه مليئا بالغل والتهديد والطاووسية الذاتية.
في مكتب الجريدة كنت استجمع من قصاصات الورق عبارات مناسبة تدخل في سياق التقرير عن المؤتمر، وقد بذلت جهدا مضنيا، الى ساعة متأخرة من الليل، لأكتب ما لا يزيد على نصف صفحة من كلمة صدام حسين التي حاول ان يجاري فيها ثقافة ومعارف الشيوعيين، باختيار جمل مُضحكة، تفتقر الى سلامة الحبكة ودقة النص عن لينين وماوتسي تونغ، وعززتُ التقرير بصفحة عن كلمات المندوبين الشيوعيين واسئلتهم، واستعنت بالرفيق، طابت ذكراه، الدكتور رحيم عجينة، المسؤول عن "العلاقات الوطنية" آنذاك، وكان حاضرا في هذا اللقاء، فرفع عبارات من التقرير، وأدخل بعض التعديلات والاضافات، ثم أجريت تحريرا أخيرا بأسلوب موحد لكي ينشر على الصفحة الأولى.
في ظهيرة اليوم التالي، طلبني الرفيق طيب الذكر عبدالرزاق الصافي، الى مكتبه، ففاجأني بالقول مبتسما: هاي شسويت؟ وكان على التلفون بانتظار مكالمة من طارق عزيز الذي سرعان ما سمعتُ صراخه على الجانب الاخر: من هو هذا المراسل الذي شوّه كلمة السيد النائب؟ ثم كيف تبعثون مراسلا الى مثل هذا اللقاء؟ وقد حاول ابو مخلص، بلباقته، ان يهدئ من "ثورة" المتحدث قائلا له: أستاذ، هذا تقليد صحفي معروف في كل صحافة العالم. ردّ طارق عزيز: ما عدنا هيج تقليد. عدنا وكالة انباء رسمية هي التي تغطي هيج لقاءات وعليكم نشرها نصا.. سنغلق جريدتكم.
عندما اختطفني رجال الامن بعد خمس سنوات أخبرني الجلاد في قبو التعذيب: عندنا معلومات انك حاقد على السيد النائب.
* بعد حوالي شهرين من هذا اللقاء صدر كراس عن مكتب "الاعلام القومي" يتذكره الاحياء آنذاك، بعنوان "خندق واحد.. أم خندقان" باعتبار انه نص كلمة صدام حسين في مؤتمر لجان الجبهة في المحافظات، وقد كان بمثابة عملية تلفيق افكار منمقة واستطرادات نظرية، وتعديات فاضحة على ذاكرة جميع الذين استمعوا الى هذيان صدام حسين، المبعثر، والهابط، وعُلم في ما بعد ان كاتبا موظفا بإمرة طارق عزيز قد سطّر صفحات ذلك الكراس، وغيره من كراريس صناعة الطاغية، وذلك قبل ان تكف تلك الوظيفة الذليلة عن النفع، ليجري، بعد سنوات، التخلص من صاحبها، عزيز السيد جاسم.