وأنا أصارع المرض الخبيث بعد عودتي من غربة نحو عشرين عاما وبعد علاج أمتد لثمانية أشهر، كنت أقاوم بأقصى طاقتي للبقاء على قيد الحياة. حتى العلاجات التي جلبتها معي من الخارج وملأت حقيبة سفر كبيرة أثارت استغراب شرطة تفتيش المطار، ثم مرروها إشفاقا علي..
في تلك الأيام وأنا بين أهلي لم استطع مقاومة رغبة المشاركة بانتفاضة تشرين. يوميا كنت أهم بمغادرة فراش المرض والذهاب الى ساحة التحرير ولا أتمكن ، حتى غمرني شعور بالتقصير لا أسامح عليها نفسي..
أخيرا أقنعت اثنين من شبابنا المساهمين بالانتفاضة بمساعدتي واسنادي باليدين حتى أتمكن من بلوغ الساحة.. وعلى الرغم من ترددهما أوصلاني الى نهاية شارع أبي نؤاس أولا، ومن ثم رافقاني بعربة تكتك إلى الساحة.
جرجرت قدمي وأنا ألهث انفعالا بروح ثورية أيقظت كل حواسي،ووجدت نفسي أشارك بالهتافات مرة ، والتقط خبز سيدة تقدم الرغيف للثوار مرة أخرى. ابكي بحرقة مسترجعة آلام شعبنا وويلاته في ظل دكتاتورية فاشية بشعة ، وفرحة في الوقت نفسه ، بل أصبحت أقبل وجنات شابات باسلات كن من كلية الطب تبرعن بتقديم خدماتهن للمصابين من الثوار، وشابات جامعيات أخريات أمسكن مكانس وأخذن ينظفن الساحة بهمة ونشاط ، شاعرات بمهام كبيرة وإن كانت بسيطة أمام عظمة مهام جموع الانتفاضة.
شيئا فشيئا سرت روح الانتفاضة ببدني، شعرت بعافية صبا تعود بعد ان غادرتني منذ زمن ، تحررت من ملازمة رفيقيّ ، وأخذت أطوف على خيم المحتجين واحدة إثر أخرى. استقبلني في عدد منها أصدقاء ورفاق وزملاء لم أرهم منذ زمن، بل فوجئوا بوجودي بينهم ، أطلقت ضحكات ملء القلب لنكات تبادلوها أمامي مستعرضين مواقف طريفة، حدثت أثناء تواجدهم هناك.
وفي خيمة أخرى وجدت نفسي أطلق حنجرتي في أغنيات ثورية جميلة استرجعتها من ذاكرة السبعينات. هممت بمشاركة رقصة دبكة مجموعة شباب أمام خيمة أخرى، لولا خشية تعثري وسقوطي أرضا.
في ذلك اليوم التاريخي من حياتي وحياة شعب كامل عاش أهم حدث ثوري في تاريخنا المعاصر، شعرت بجدوى أن نعيش يغذينا الأمل بأمنيات وهمم شباب شجعان، يواجهون الموت بصدورعارية، وتلقفون الدخانيات بأيديهم ثم يعيدون قذفها بوجه مطلقيها في شجاعة أسطورية نادرة..
إنها حكاية شعب باسل لن يموت، يتحدى الظلم ويقاوم بكل قواه.
شعبٌ أنا فرد منه، قاومت مرضي وشفيت بفضل تواجدي في ذلك اليوم المدهش، في قلب الانتفاضة وبين شبابها الثائر.